حفظ الإسلام للعمال حقوقهم كبقية أفراد المجتمع ؛ ومنحهم من رعايته وعنايته ؛ ما يكفل لهم الحياة الطيبة الكريمة ، بعد أنْ كان العمل في بعض الشرائع القديمة ؛ معناه الرّق والتَّبعية ، والمذَّلة والهوان .
فجاءت الشريعة بكثير من المبادئ لضمان حقوقهم ؛ إقامة للعدالة بين الناس ؛ وتوفيراً للاستقرار الاجتماعي لهم ولأسرهم في حياتهم وبعد مماتهم .
كما دعا الإسلام أصحاب الأعمال إلى معاملة العامل معاملة إنسانية كريمة ، وإلى الشفقة عليه ؛ والبرّ به ؛ إلى غير ذلك من الحقوق التي منحها الإسلام للعامل ؛ والتي يمكن إجْمالها فيما يلي :
أولاً حق العامل في الأجر :أجر العامل هو أهم التزام يُلزم به صاحب العمل ، ولذلك عنى به الإسلام عناية بالغة ، ويعد الإسلام العمل عبادة وقربة ؛ إذا ابتغى بها العبد الإنفاق على أهله وولده ؛ أو على والديه ؛ أو إعْفاف نفسه وصونها عن ذل السؤال ، ويجعل الأخ الذى يعول أخاه العابد أعبد منه ، وعلى هذه النظرة للعمل ؛ يحفظ الإسلام حق العامل في الأجر ، ويحث على أنْ يوفي كل عامل جزاء عمله .
وقد ورد ذكر الأجر على العمل في القرآن الكريم في مواضع ، ويذكر مقروناً الأجر ، كما في الأجور الأخروية ؛ يقول تعالى : ( ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا وليُوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ) الأحقاف :19.
ويقول تعالى : ( إلا الذين آمنُوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون ) التين : 6.
كما ورد في أسمى المعاني وأكثرها تجرداً عن متاع الحياة الدنيا ؛ وعرضها الزائل ، في كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ، كما في قوله تعالى عن الأنبياء جميعا أنهم كانوا يقولون : ( وما أسْألكم عليه مِنْ أجرٍ إن أجْري إلا على ربّ العالمين ) الشعراء .
وقوله عن نبينا محمد ﷺ أنه قال : ( قلْ ما سَألتُكم مِنْ أجرٍ فهو لكم إنْ أجْرى إلا على الله ) سبأ : 47.
وورد بالمعنى المتداول في الحياة العملية ، كما في قصة الرجل الصالح وموسى عليه السلام : ( قالت إنَّ أبى يَدعوك ليَجزيك أجرَ ما سقيت لنا ) القصص : 25.
وقوله له بعد ذلك : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) القصص : 27-28.
وفي هاتين الآيتين الأجر ؛ هو ما عرفناه من عوض المشقة أو العمل والخدمة .
وفي أحاديث الرسول ﷺ نجد أيضاً تلازماً بين الأجر والعمل ، فروى البخاري (2102) ومسلم (1577) : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ” حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلَّم ؛ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ” .
– وحث النبي ﷺ على تعجيل الأجرة بعد انتهاء عمله ؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: ” أعْطوا الأجير أجْره ؛ قبل أنْ يَجف عَرَقه ” .
وفي رواية : ” حقه ” بدل ” أجره ” . رواه ابن ماجة ، وصححه الألباني .
فيُوجه النبي ﷺ أمته إلى رعاية حقّ الأجير ؛ وتأدية أجرته إليه ؛ دون تأخيرٍ ولا مماطلة ؛ وقوله : ” قبل أنْ يجفّ عرقه ” تأكيدٌ لأمره ؛ بإعطائه حقه قبل جفاف عرقه ؛ وهو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل ، والإسراع بإعطاء أجره ؛ وترك المماطلة في الإيفاء .
وقد يقوم الأجير أو العامل أو الخادم بالخدمة أو العمل في مقابل أجرته وطعامه وشرابه وكسوته ، فيجب على المخدوم أو المستأجر أن يؤدي إلى الخادم أو العامل ما يستحق ، ولا يجوز له أن يظلمه بنقص أجرته أو مماطلته فيها ، فإن فعل شيئا من ذلك فقد ارتكب ظلما , والله تعالى ذمَّ الظلم والظالمين في كتابه ؛ فقال عز وجل : ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) الحج : 71 ، وقال : ( ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعملُ الظالمون * إنّما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار ) إبراهيم : 42-43 .
وما هلكت الأمم السابقة ؛ إلا بظلمها وبغيها وتعديها على الضعفاء ؛ كما قال سبحانه ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ) يونس : 13.
كما حذّر الرسول ﷺ من الظلم ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن رسول الله ﷺ قال : ” اتَّقوا الظُّلم ؛ فإنّ الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة .. “.
وفي الحديث القدسي :” يا عبادي ؛ إني حرَّمت الظلمَ على نفسي ؛ وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا ” . رواهما مسلم .
وذكر الحافظ ابن حزم في “المحلى” : أنّ على الدولة أنْ توفّر للعامل الغذاء الكافي ، والكساء الكافي ، والمسكن الذي يليق بمثله ، وأنْ تستوفي فيه كل المرافق الشرعية ، ويجب أنْ تكون الأجرة محققة لكل هذا ؛ وإلا كان ظلماً . المحلى : باب : الزكاة جـ2.
ثانياً حق العامل في الحصول على حقوقه التي اشْترطها على صاحب العمل : فيجب على صاحب العمل أنْ يُوفي العاملَ حقوقه التي اشترطها عليه عند تعاقده معه ، وألاّ يحاول انتقاص شيءٍ منها ؛ فذلك ظلمٌ عاقبته وخيمة ، وإلا ينتهز فرصة حاجة العامل الشديدة إلى العمل ؛ فيبخسه حقه ، ويغبنه في تقدير أجره الذى يستحقه نظير عمله ، فالإسلام يحرم الغبن ؛ قال تعالى : ( ولا تَبْخسُوا الناسَ أشياءهم) هود : 85 . يقول سبحانه : ولا تنقصوا الناس حقوقهم ؛ التي يجب عليكم أنْ توفوهم إياها ؛ كيلا كانت أو وزنًا أو غير ذلك .
ويقرر الرسول ﷺ قاعدة : ” لا ضَررَ ولا ضِرار ” . رواه أبو داود .
كما يجب على صاحب العمل ؛ أنْ يحفظ حق العامل كاملاً إذا غاب أو نسيه ، كما يجب عليه ألاّ يؤخر إعطاءه حقه بعد انتهاء عمله ، أو بعد حلول أجله المضروب .
كما يجب على صاحب العمل ألا يضن على العمل بزيادة في الأجرة ؛ إن أدّى عملاً زائداً على المتفق عليه ، فالزيادة في العمل يقابلها زيادة في الأجرة ؛ فإنّ هذا من العدل الذي أمرنا الله تعالى به .
ثالثاً حقُّ العامل في عدم تكليفه ما لا يطيق : فلا يجوز لصاحب العمل تكليف العامل بأعمال لا يطيقها ؛ أو إرهاق العامل إرهاقاً يضر بصحته ؛ ويجعله عاجزاً عن العمل ، إعمالاً لقول الله تبارك وتعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) البقرة : 286. وتحقيقاً للقاعدة الشرعية : أنه لا تكليف إلا بمستطاع .
والنبي ﷺ يقرر حقوق الأرقاء ؛ وهم دون العمال والأجراء ؛ لعدم الحرية ، فيقول : ” للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يُكلف إلا ما يطيق ؛ فإنْ كلّفتموهم فأعينوهم ، ولا تُعذّبوا عباد الله ؛ خلقاً أمثالكم ” . رواه البخاري في الأدب المفرد 192، وصححه ابن حبان والألباني .
ويقول ﷺ : ” إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ؛ جعلهم الله تحتَ أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده ؛ فليُطعمه مما يأكل ، وليُلبسه مما يلبس ، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم ، فإنْ كلفتموهم فأعينوهم “. متفق عليه.
ولقد قال الرجل الصالح لموسى عليه السلام حين أراد أن يعمل له في ماله : ( وما أريد أن أشقَّ عليك ) القصص : 27.
فإذا كلفه صاحب العمل بعملٍ يؤدى إلى إرهاقه ؛ ويعود أثره على صحته ومستقبله ، فله حق فسخ العقد ؛ أو رفع الأمر إلى المسؤولين ؛ ليرفعوا عنه حيف صاحب العمل وتعديه .
رابعاً حق العامل في أداء ما افترضه الله عليه : فيجب على صاحب العمل أنْ يمكّن العامل من أداء ما افترض الله عليه من طاعة ؛ كالصلاة والصيام ، ولا يجوز له منعه من ذلك ؛ بل العامل المتدين أقرب الناس إلى الخير ؛ وأداء عمله بإخلاص ومراقبة وأمانة ، وصيانة لما عهد إليه به من العمل .
وليَحْذر صاحب العمل أنْ يكون ممن يصد عن سبيل الله ؛ ويعطل شعائر الدين ؛ قال عز وجل : ( الذين يستحبُّون الحياةَ الدنيا على الآخرة ويَصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد ) إبراهيم :3 ، ويقول تعالى : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) العلق : 9 – 19.
بل يجب على صاحب العمل أنْ يراقب العمال في ذلك ؛ وأن يأمرهم بالصلاة على وقتها ، وأن يراقب سلوكهم وأخلاقهم ، ويحملهم على التمسك بآداب دينهم ، وربما كان ذلك مما يجذب قلوبهم إليه ؛ ويجعلهم يخلصون في العمل والدفاع عن مصالحه وحمايته بكل وسيلة .