عرف عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان أكثر الصحابة تفسيرا للقرآن الكريم، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم : “اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل”، وبهذا جمع ابن عباس – رضي الله عنهما- بين أكبر العلوم الشرعية، الفقه في الدين عامة، والعلم بتأويل وتفسير القرآن الكريم.

وقد حاول كثير من العلماء جمع تفسير ابن عباس، منه ما طبع بمجمع البحوث الإسلامية بباكستان، ومنه تفسير ابن عباس عن الصحابة، لابن يحيى الجلوديّ، ومن أشهر الكتب في تفسير ابن عباس الموسوم بـ “ تنوير المقباس من تفسير ابن عباس” للفيروز آبادي اللغوي الشهير.

ومع الاستفادة من أقوال ابن عباس في التفسير، من جهة، ومعرفة ما صحت نسبته إليه وما لا يصح نسبته من جهة أخرى، فإن الأهم من هذا هو معرفة منهج ابن عباس في التفسير، ورؤيته الكلية في تفسير القرآن، والتي تعد في يومنا رؤية تجديدية في التفسير بعد انتشار مئات التفاسير وتنوع مشاربها ومناهجها.

وتتلخص الرؤية الكلية لابن عباس في التفسير فيما أسميته (رباعية ابن عباس في التفسير)، وهي كما نقلت عنه. قال الحارث المحاسبي في كتابه (فهم القرآن، ص: 248): قال ابن عباس: أنزل القرآن على أربعة أوجه حلال وحرام ولا يسع جهله وتفسير يعلمه العلماء وعربية تعرفها العرب وتأويل لا يعلمه إلا الله” فهم القرآن”.

وهذه الأقسام هي:

القسم الأول: ما يعرف تفسيره من خلال كلام العرب

وذلك من جهة اللغة والإعراب، ومعرفة المعاني حسبما وردت في كلام العرب، ويشهد لهذا قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].

وتفسير القرآن من جهة اللغة لها أبعاد كثيرة، من ذلك ما يتعلق بعلم المعاني، وعلم الغريب، وعلوم البلاغة الثلاثة (المعاني والبيان والبديع)، وما تحتها من مباحث كثيرة، وكذلك من جهة العلم بالشعر وفنون اللغة من أنواع النثر من  المقامات وغيرها، وكذلك من جهة النحو والإعراب.

وقد حدَّثَ عكرمة، قال: «ما سمعت ابن عباس فسر آية من كتاب الله عَزَّوَجَلَّ إلا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب».

وهناك وجه آخر في التفسير اللغوي، وهو ما لا يقف على معناه من الكلمات.

قال ابن عباس: «ما كنت أعرف معنى «يحور» فى قوله تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) حتى كنت فى البادية فسمعت أعرابية تقول لابنتها وقد تركت غنمهما، لماذا تركت الغنم؟ حورى. أى ارجعى». فالحور في كلام العرب يعني الرجوع.

وفي الحديث:” اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور”، يعني اللهم إني أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة.

الإشكال الآخر: أن حديث العلماء عن تفسير القرآن من جهة اللغة فيه كثير من الاستطرادات التي يحتاجها الإنسان، وإنما دفعهم هذا ما يعرفونه من التراكيب اللغوية والأساليب المعهودة في القواعد اللغوية، وربما كان المرء في غنى عن كثير منها، لأن العلم بالمعنى العام فيه غنى عنها.

القسم الثاني: ما يتبادر إلى الأذهان

وهذا القسم لا يحتاج إلى تفسير ابتداء، ويكفي فيه المعنى العام الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان، ومنه، كما قال الزركشي: شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه، يعلم أنه مراد الله تعالى.

وهذا غالب القرآن الكريم يكون على هذا النحو، مفهوم المعنى.

ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 2 – 7]

وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 2 – 5]

قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2]

وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود: 123]

وأضراب ذلك كثير جدا في القرآن الكريم.

يقول الزركشي (البرهان في علوم القرآن (2/ 165-166)

فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} وأنه لا شريك له في إلهيته، وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة افعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة”.ا.هـ

وهذا نص بديع من الزركشي من أنه يكتفى بالمعنى العام من الآية دون النظر إلى تأويلات اللغويين والرجوع إلى متطلبات اللغة.

القسم الثالث: ما يعرف باجتهاد العلماء

فهو الذي يطلق عليه التأويل، وكثير منه يرجع إلى الاختصاص، سواء من جهة معرفة الأحكام الفقهية، فيتناول غالب آيات الأحكام المختلف في حكمها، والتي يعرف طريقها عن طريق الظن والاجتهاد، فيختلف الفقهاء فيها، أو في غير الأحكام مما يدخل فيها التأويل والاجتهاد.

ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة: 228]، فهل القرء هنا الطهر أم الحيض على الاختلاف الوارد بين العلماء.

ومنه قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، هل المقصود به القرآن الذي في اللوح المحفوظ في السماء الدنيا لا تمسه إلا الملائكة المطهرون، أم المقصود به المصحف الذي بين أيدينا يحرم على المرء لمسه والقراءة منه إلا بطهارة.

ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة: 103]، فلا يمكن صرف المعنى إلى الصلاة الشرعية، بل يرجح هنا المعنى اللغوي، من كون المقصود الدعاء لهم.

القسم الرابع: ما لا يعلمه إلا الله تعالى

وهو ما اختص الله تعالى به نفسه، ومن ذلك معاني الحروف المقطعة، فلا يعلم تأويلها إلا الله، وكذلك كما ما له علاقة بالغيب، كقيام الساعة ونزول الغيث، وما في الأرحام، وتفسير الروح، كما قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]

و قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وهذه الرباعية من ابن عباس تفتح آفاقا أرحب في فهم كتاب الله تعالى والتعامل معه، ويقدم إجابة تدور دوما:هل معرفة معاني القرآن محصورة على علماء التفسير؟ أم أنه متاح لكل مسلم؟

والجواب: أن الأمر ليس على إطلاقه، فهناك ما هو متاح لكل مسلم، وهو الغالب الأعم من جهة معرفة المعنى العام، وهناك ما لابد فيه من الرجوع إلى أهل اللغة، وهناك ما يجب فيه الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص، وهناك ما لا يعلم تأويله إلا الله، مما اختص الله تعالى به نفسه.

على أن القرآن إن لم يفسر في القرآن صراحة، أو لم يفسره الرسول صلى الله عليه وسلم، فما سواهما نوع من الاجتهاد، يصدق فيه قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، فلا يعلم تأويل كلام الله على وجه القطع والحقيقة إلا المتكلم به سبحانه وتعالى، أو ما أفهمه لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبلغ عنه.

وما يعني أن كثيرا مما كتب من تفسير العلماء هو نوع من الاجتهاد البشري، فيفرق بين النص الثابت بقدسيته، وبين الاجتهاد من العلماء الذي قد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، فلا يجزم به قطعا.