منذ أن رفع إبراهيم قواعد البيت الحرام وتعلقت نفوس الخلق به، لم تنقطع صلة بني آدم بالبيت العتيق طوافا بالأبدان أو بالقلوب، ومنذ أن تنعقد النية بالعمرة أو الحج يبدأ الاستعداد لرحلة الارتواء الروحي من “رواء مكة”. ومن الناس من أوتي لسانا وصّافا معبرا وقلما يسجل مشاهداته وانطباعاته كأنك تراها رؤيا عين، وفي ذلك تأريخ وعلم وأدب، ومنهم من يخزن ذلك في ذاكرته ولا يكاد يُبين عنه ولسانه حاله يقول:” تكفيني الفرحة الغامرة التي شعرت بها وما علي أن أشاركها غيري فهي لحظة خاصة جدا” لكنه يسأل الله من كل قلبه أن يمنحها لكل مشتاق لزيارة البيت الحرام.
ومن بين الكتب التي اختلط فيها وصف المشاعر بالعلم والأدب والتحليل وغير ذلك ،كتاب :”رواء مكة” للدكتور حسن أوريد، وهو أكبر من أن يكون وصفا لمشاعر حاج أو مشاهداته، وتنبع خصوصية الكتاب من المواقع الفكرية والعملية التي تبؤها الكاتب، والتي أكسبته تجربة ثرية ومتنوعة وجعلتنا نطلع على هذه الرحلة الحلم – بالنسبة لكل مسلم – من زاوية تختلف عما سبقها.
ولاشك أن كل كتاب يمكن أن يقرأ من عدة زوايا، كما أن القارئ ينظر إلى كل عمل أدبي أو علمي من موقعه الفكري، وربما من رؤية تكونت لديه من خلال قراءة صديق أو عالم يحبه، والانصاف يقتضينا أن نكّون رأينا الخاص، إذا كنا نمتلك أدوات تكوين الرأي، وأن ننظر إلى آراء الآخرين على أنها في النهاية آراء تقبل الصواب وعكسه والإنصاف وضده، وما من كتاب أو مقولة إلا ويمكن أن نستخرج منه ما ننتفع به؛ سواء حقيقة مقبولة، أو جدلية تقبل النقاش، أو باطل نرده من خلال الدليل والبرهان.
ويؤكد الكاتب على أهمية النبع الأول للإنسان الذي يستقي منه القيم والأفكار والمشاعر ،والذي يبقى في وعيه كحارس أمين على الفطرة يعيده إليها كلما هجم طوفان المادة وتغولت الشهوات والشبهات، ليجد الملاذ الآمن في هذه الذكريات السعيدة التي تركت بصماتها على العقل والقلب.
ونلمس حوارا يدور بين الكاتب ونفسه هذا الحوار يفتقده الكثيرون بل يحاولون إنهائه كلما بدأ، ومن العجيب أن الإنسان قد يدخل في نقاشات طويلة مباشرة أو عبر الوسائط المتعددة لكنه يفر من نفسه أكثر من فراره من الوحوش، مع أن هذه الحوارات قد تهدي إلينا الكثير من الرشد في القرارات المصيرية، وقد تجنبنا الكثير من المزالق وقد توفر لنا المزيد من الطمأنينة.
ويطرح الكاتب السؤال الذي يتكرر عبر الزمن، عن العلاقة بين الدين والعقل وأيهما حكم على الآخر؟؟ وهل يمكن أن يحدث نوع من الوفاق بينهما، وهل يمكن أن يتواجدا معا في منطقة واحدة من حياة الفرد أو المجتمع؟ أم أن وجود أحدهما سبب لفرار الآخر؟، وعن النماذج التي اعتبرها البعض معبرة عن الدين ويراها آخرون نموذج للقطيعة المعرفية بين العلم والدين والعقل والنقل. وأحب أن أسجل هاهنا أن كثيرا ممن يدعي التنافر بين الدين والعلم لم يطلع على النصوص المؤسسة في الكتاب والسنة، أو ربما طرحت عليه نصوص لم يقرأها في سياقها أو قرأ تفسيرات لا تتوافق حتى مع الأصول الشرعية لقراءة النصوص.
أحد المعاذير التي ينبغي أن نلتمسها لمن زلت أقدامهم ورأوا في الإسلام دينا ظلاميا يقوم على امتهان الأنثى وينفر من الحضارة إلى آخر لائحة الاتهامات التي يرفعها من لم يعرف الإسلام، أقول ما رآه هؤلاء من سلوك اجتماعي منحرف عن تعاليم الإسلام وقيمه، ومن التزام بالشعائر دون أن تترك آثارها على النفوس وتحقق الغاية منها بوجود سلوك أخلاقي منضبط، ومع التماسنا للعذر إلا أن الحق يقتضي الباحثين عنه أن تكون أحكامهم بعد معرفة صحيحة بالدين من مصادره الأصلية، ثم الحكم على تصرفات أتباعه من خلال هذه النصوص وليس العكس، وعلى كل مجتمع أن ينتج قدواته من خلال اتباع التعاليم الدينية لتكون نماذج يحتذى بها، ولتكون دليلا متجددا على صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان.
وعذر آخر يمكن أن نلتمسه لهؤلاء، هو أن بعضهم يقف موقف المتمرد على المألوف فقط لأن من حاول تعريفه بالإسلام كان إلى الإكراه أقرب منه إلى الإقناع، ولم يكن يحمل أفقا واسعا يتحمل السؤال والنقاش والاعتراض ،وسائر العمليات العقلية التي تظهر عندما ينفتح الإنسان على الآخر دون أن يملك الحصانة اللازمة لهذا الانفتاح، ولذلك جاءت مواقفه من الإسلام وتعاليمه وقيمه متطرفة، وكأنها تعبر عن القدرة على الرفض والثبات على الموقف حتى لو لم يدرك بشكل صحيح حقيقة ما هو مُصرّ عليه وحقيقة ما يرفضه.
ونلمس في الكتاب شجاعة أدبية حين استطاع الكاتب مواجهة نفسه بأخطائها وتسجيل هذه الأخطاء في كتاب يقرؤه المحب والكاره، وهذه الجرأة تكشف عن معدن صاحبها حين يحاول البعض تبرير أخطائهم وتسويغها حتى في اللحظات التي يدعون فيها أنها لحظات مكاشفة.
و نجد كذلك أن المشاعر الراقية التي شعر بها خلال هذه الرحلة المباركة لم تمنعه من تسجيل ما يراه سلبيا ،وطرح الأسئلة الحائرة التي ربما تعكر صفو هذا الجو الروحاني، لكنها أسئلة ضاغطة حائرة لا تترك لصاحبها قرارا حتى تجد الإجابة المقنعة في نظر صاحبها.
والكتاب يعيدنا إلى ما ينبغي أن يكون في رحلة الحج من مراجعات للنفس والفكر والمواقف،
وما ينبغي أن يكون فيها من تعارف وتراحم، تلك القيم والمعاني التي قد تغيب في زحمة الحجيج،والرغبة في أن يكون الحج مريحا بلا عناء ولا مشقة، وفي ظل من يقول كما قال النبي ﷺ :”افعل ولا حرج” ومن يضيق ما وسعه الله، ومن يقوم بالشعائر كما سجلها العلماء ومن يتأمل في هذه الشعائر ليخرج من ذنوبه كما ولدته أمه، ولينتقل إلى حياة جديدة يكون فيها أقرب إلى قيم الإسلام العليا محققا للغاية من خلق الإنسان وهي عبادة الله وعمارة الكون، وفق منهج نبوي رشيد تحتل فيه الإنسانية أعلى مكان.
والكتاب من قبل ومن بعد تسجيل للحظة من لحظات الكرم الإلهي حين يمن الله تعالى على عبد من عباده بالإفاقة من الغفلة ،وباتصال قلبه وروحه بالملأ الأعلى حيث يشرق النور وتحل الرحمة والسكينة.
إنني أدعو كل من يمر بتجربة مثل هذه أن يدونها بمشاعرها المختلطة وبحلوها وبمرها هي وسائر لحظات الصدق مع النفس، لتكون زادا لغيره في زمن تهب علينا فيه رياح الفتن لتقلعنا من جذورنا، ويصور البعض أن عالم الروح قد ذهب لغير رجعة وأن اللذة فقط هي ما تدركه بحواسك، لنتكشف في واقعنا كما وجدنا في تراثنا أن هناك لذائذ أخرى تهبط من السماء تحتاج لمن يبحث عنها فقط بصدق وإخلاص.
إن الفارق بين الأديب والشاعر والمفكر وسائر الناس، هو حساسية روح كل واحد منهم وعقله ورؤيته للأحداث التي لا تلفت انتباه الكثيرين، وقدرته على التحليل والتفسير والربط بين المواقف المختلفة؛ ربما بتقديم رؤية مجردة بقلم فنان أو بتشخيص المشكلة وطرح الأسئلة المستحقة ومحاولة تقديم إجابات عنها.
وفي هذا السياق أحب أن أؤكد على أن عودة أشد الناس عتوا وانصرافا عن الله تعالى قد تحدث بسبب بسيط لا يتوقع أحد أن يكون له هذا التأثير الكبير على مسار الحياة فلا نيأس من الهداية.
والكتاب كذلك خواطر نفس تتعرض لزلازل عنيفة من داخلها ومن خارجها، ونستحضر حين نسمع هذه الخواطر التي أبدى فيها معاناته ومعاناة كل من تعرض لما تعرض له ونرجوا الله تعالى لنا وله أن نصل إلى من قال الله عنهم { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم: 27].
إن رواء مكة ليس رحلة جسد إلى البلد الأمين، بل رحلة عقل وقلب من حال إلى حال حيث أشرق النور ونزلت السكينة.