رمضان شهر القرآن ولذا كان الزهري رحمه الله تعالى إذا دخل رمضان يقول: “إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.
وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف. كما ذكر ابن عبد الحكم.
وهكذا كان سفيان الثوري رحمه الله تعالى إذا دخل رمضان تفرغ لقراءة القرآن.
ومما يدل على حرص السلف رحمهم الله تعالى على الإكثار من قراءة القرآن في رمضان، وإعمار أوقاته ليلا ونهارا بتلاوته، ما روي عن الأسود أنه كان يختم القرآن في رمضان في كل ليلة، ونقل عن قتادة أنه كان يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة.
وذكر النووي في التبيان في آداب حملة القرآن: أن مجاهدا كان يختم القرآن في رمضان في كل ليلة.
وروى أبو نعيم في الحلية والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن الربيع بن سليمان قال: كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة ما منها شيء إلا في صلاة.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : قال الربيع بن سليمان من طريقين عنه، بل أكثر: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، ورواها ابن أبي حاتم عنه.
وقد ذكر السيوطي رحمه الله تعالى حال بعض السلف في ختم القرآن وإكثارهم من ذلك فقال في الإتقان 1/360 :” وقد كان للسلف في قدر القراءة عادات فأكثر ما ورد في كثرة القراءة: من كان يختم في اليوم والليلة ثماني ختمات: أربعا في الليل وأربعا في النهار، ويليه من كان يختم في اليوم والليلة أربعا، ويليه ثلاثا ويليه ختمين ويليه ختمة.
وقد ذمت عائشة رضي الله عنها ذلك كما في شعب الإيمان للبيهقي عن مسلم بن مخراق قال: قلت لعائشة: إِنَّ رِجَالًا يَقْرَأُ أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، قَالَتْ: ” أُولَئِكَ قَرَؤُوا وَلَمْ يَقْرَؤُوا، كُنْتُ أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ التَّامِّ فَيَقْرَأُ بِالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ، فَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ دَعَا، وَرَغِبَ وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ دَعَا وَاسْتَعَاذَ .
وقريب من ذلك ما ذكره الآجري البغدادي في أخلاق أهل القرآن ص 100: عن الحسن البصري أنه قال: ” إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: إِنِّي لَأَقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهِ مَا هَؤُلَاءِ بِالْقُرَّاءِ وَلَا الْحُكَمَاءِ وَلَا الْوَرَعَةِ، مَتَى كَانَتِ الْقُرَّاءُ تَقُولُ مِثْلَ هَذَا؟ لَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي النَّاسِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ”.
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري وغيره: قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ ابْنَتَهُ فَيَسْأَلهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُول: نِعْمَ الرَّجُلُ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُذْ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْقَنِ بِهِ فَلَقِيته بَعْدُ فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ قُلْت: كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: مَتَى – أَوْ كَيْفَ – تَخْتِمُ؟ قُلْت: كُلَّ لَيْلَةٍ. قَالَ: صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ. قُلْت: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ: قُلْت إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُد صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً ”
وفي لفظ: ” اقرأ القرآن في شهر قلت: إني أجد قوة، قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك “.
وفي رواية عند أحمد وأبي داود: ” اقرأ القرآن في كل ثلاث”
وعنه أيضا عند أحمد قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم -: “من قرأ القرآن في أَقلَّ من ثلاثٍ لم يَفْقَهْهُ”.
الجمع بين الآثار والترجيح
وجمعا بين هذه الآثار التي تُنفّر من الإسراع في القراءة، وتحث على العناية بالتدبر وتقتضي كراهة الختم في أقل من ثلاث، وبين ما ورد عن السلف من الحرص على الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته ولا سيما في رمضان شهر القرآن وما يتضمنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ” والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي.
فهو دال على الترغيب في الإكثار من القراءة، فمن ختم المصحف حاز أكثر من ثلاث ملايين حسنة.
جمعا بين ذلك يقول ابن حجر في الفتح 9 / 97: “وثبت عن كثير من السلف أنهم قرأوا القرآن في دون ذلك”. أي الثلاث وأكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة.
وقد ذكر ابن حجر عن النووي أنه قال:” والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر، واستخراج المعاني. وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة”.
ويحتمل أنهم رأوا استثناءَ الأوقاتِ الفاضلة كشهر رمضان، لما فيه من الخصوصية عن غيره من الشهور وعن ابن رجب ما يشير إلى ذلك.
وأما رواية ” من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه ” فهي محمولة على الغالب كما قال المناوي في التيسير 1/192.
والثواب على القراءة يحصل للقارئ ولو لم يفهم ما يقرأ لكن الجمع بين التدبر والقراءة أكمل وأعظم أجرا وقد قال الغزالي:” وإياك أن تتصرف بعقلك فتقول كلما كان أكثر كان أنفع، فإن العقل لا يهتدي إلى أسرار الأمور الإلهية وإنما يتلقى من النبوة فعليك بالاتباع … وأثر الفساد ظاهر على هذا القياس فإنه كقولك الدواء نافع للمريض وكلما كان أكثر فهو أنفع مع أن كثرته ربما تقتل”.
وكلما أمعن المرء التأمل والتدبر في كتاب الله ازداد إيمانا وأُنسا به وحبا له وذاق حلاوته. “وكيف لا وهو كلام الله جل* ومن له أمعن بالتأمل * بان له كل خفي وجلي”
نعـم السمير كتـاب الله إن له *** حلاوة هـي أحلى من جنى الضَّرَب
به فنـون المعاني قـد جمعن فما *** تفتـرّ من عجـب إلا إلى عجـب
أمر ونـهي وأمثـال وموعظـة *** وحكمة أودعت في أفصـح الكتب
لطائف يـجتليها كـل ذي بصر *** وروضة يجتـنيـها كـل ذي أدب
وكما ذكرنا سابقا ، رمضان شهر القرآن شهر تلاوته وتدبره والعمل به فالغاية من القراءة والتدبر هي العمل وأن يظهر أثره على سلوك المرء يقول الحسن البصري: “لقد كان من تقدم يقرأ القرآن، ويقوم بالسورة منه طولَ ليلته، فإذا أصبح عُرِف ذلك في وجهه، وإن أحدكم يقرأ القرآن لا يتجاوز لَهَواته، والله سبحانه يقول: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه ”
أمَا – والله – ما هو حفظُ حروفه وإضاعةُ حدوده، …ولقد توفِّي رسول الله ﷺ، وما استكمَلَ حفْظَ القرآن من أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – إلا النفرُ القليل؛ استعظامًا له، ومتابعة أنفسهم بحفظ تأويله، والعمل بمحكمه ومتشابهه”.
وكان الحسن رحمه الله يقول أيضا: “قُرَّاء القرآن ثلاثة نفر: قوم اتخذوه بضاعةً؛ يطلبون به ما عند الناس، وقوم أجادوا حروفه، وضيعوا حدوده؛ استدَرُّوا به أموال الولاة، واستطالوا به على الناس، وقد كثر هذا الجنس من حملة القرآن، فلا كثَّرَ الله جمعَهم، ولا أبعد غيرهم، وقوم قرؤوا القرآن، فتدبروا آياته، وتداوَوْا بدوائه، واستشفوا بشفائه، ووضعوه على الداء من قلوبهم، فهم الذين يُستسقَى بهم الغيث، وتُسدَى من أجلهم النعم، وتُستدفَع بدعائهم النقم، أولئك حزب الله، ألاَ إن حزب الله هم الغالبون”.