تمثل الرواتب التي يتقاضها الموظفون في القطاعين: العام والخاص المصدر الأكبر انتشارا لدخول الناس ومكاسبهم، وذلك إذا قارنا بين وسيلة ( الراتب الشهري) وغيره من طرق الكسب.

وفي عالمنا المعاصر أضحت رواتب بعض المهن المعاصرة تفوق دخول غيرهم من وسائل الكسب التقليدية القديمة، كالزراعة والتجارة وغيرهما أضعافا مضاعفة.

وتمثل الإشكالية الأولى في زكاة الرواتب أن مثل هذه الحالات لا يوجد لها نصوص صريحة في الكتاب والسنة، كما لا يوجد لها تخريج معتبر من كتب الفقهاء قديما أيضا عند بعض الفقهاء، وهذا مما أوجد اختلافا فقهيا في بعض الفروع التي تتعلق بزكاة الراتب، هل لابد فيها من بلوغ النصاب أم لا؟ وهل يجب فيها حولان الحول أم لا؟ وكيف يزكي صاحب الرواتب، وعلى أي شيء يقيس؟ هل يقيسها على زكاة الأموال من الذهب والفضة أم على زكاة المال المستفاد من التجارة؟ أم تقاس على زكاة الزروع والثمار؟

غير أن الاختلاف الأضعف في سلسلة الاجتهاد الفقهي في هذه القضية هو في حكم الزكاة في أموال الرواتب الشهرية، فجماهير الفقهاء المعاصرين – مؤسسات وأفرادا- أفتوا بوجوب الزكاة في أموال الرواتب، مع اختلافهم في الأمور التي أشير إليها.

ومن أقوى الأدلة التي استند إليها جمهور الفقهاء المعاصرين عموم النصوص التي يستفاد منها وجوب الزكاة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]، كما استدلوا بحديث البخاري بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه :” فأعلِمْهُم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وتُردُّ على فقرائهم”، والقياس على أنواع الزكاة الأخرى.

والاستناد الأقوى أيضا هو النظر إلى روح أحكام الزكاة ومقاصدها، والنظر المعقول، من أن الله تعالى أوجب زكاة الزروع والثمار على من يملك أقل بعشرات أو مئات أو آلاف من بعض من يملكون أموالا طائلة من خلال الرواتب الشهرية، ولأن الرؤية العامة في الشريعة تنحو أن الغني وجب في ماله حق لإخوانه الفقراء، وهو أمر عام، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وهو ملمح تعبدي من جهة أن الإنسان يخرج زكاة ماله؛ طاعة لله رب العالمين الذي أمره بذلك، حتى عظم شأن الزكاة بأن قرن بينها وبين الصلاة في غالب آيات الصلاة>

كما أنه تحقيق لمقصد اجتماعي تقوم عليه المجتمعات الإسلامية، وهي قاعدة عظيمة النفع، مفادها: أن المسلم لا يعيش لنفسه في مجتمعه، بل واجب عليه أن تكون حاجات إخوانه الفقراء محل نظر واهتمام؛ حتى تتحقق إخوته لإخوانه في مجتمعه، وأن يبرهن على عضويته الصادقة في ذلك النادي الكبير، أو تلك المؤسسة العظمى، وهي مؤسسة ( المجتمع المسلم) بما يحمل من معاني الإخاء والعون لأقرب الناس إليه من ذوي الحاجة والفقر وغيرهم من المصارف التي بينها الله تعالى في كتابه، بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

والناظر إلى تلك الجهات المستفيدة من الزكاة يجد أنها تحقق مقاصد متنوعة، من عون الفقراء والمحتاجين لسد احتياجاتهم من الطعام والشراب والدواء وغير ذلك من الضرورات والحاجات، كما أنها تشمل جانب قوة الأمة من خلال التسليح وتجهيز الجيوش حماية للأمن العام من خطر الأعداء، وهي تسعى لحفظ الدين من خلال الزكاة للمؤلفة قلوبهم، كما لم تنس عون من انقطعت به السبل حتى يصل إلى وطنه ويتحقق له الأمن الكامل والاستقرار الاجتماعي.

ثم من أنكر زكاة الراتب باعتبار أن الرواتب كانت موجودة في العهد النبوي والعهد الراشد كرواتب الجند والولاة وغيرهم؛ ولم يوجبها الرسول ولا الصحابة، غفل عن أن الرواتب آنذاك لم تكن بتلك الضخامة التي هي عليها اليوم، ثم إنه قد ثبت عن بعض الصحابة – رضوان الله عليهم- أنهم أخذوا الزكاة من أموال الرواتب، فقد ورد عن عائشة بنت قدامة بن مظعون قالت: كان عثمان بن عفان – رضي الله عنه- إذا خرج للعطاء أرسل إلى أبي، فقال: ” إن كان عندك مال قد وجبت فيه الزكاة، حاسبناك فيه من عطائك”، وهو مذهب ابن مسعود ومعاوية وغيرهما رضي الله عنهم.

ثم إن الفقيه الذي تشربت نفسه روح الشريعة، وأضحى الاجتهاد الفقهي ملكة لا تفارقه لا يمكن له إلا أن يسلم بوجوب زكاة الرواتب من حيث الجملة، على أن النظر الفقهي يجب أن يراعي الواقع، وكما أنه ينظر إلى حاجات المستحقين للزكاة، فإنه يجب أن ينصرف – في ذات الوقت- إلى المزكين أصحاب الأموال، فلا يوجب الزكاة على كل من له راتب، فمن كانت أموال راتبه تنفق على احتياجاته؛ فلا زكاة في ماله؛ ذلك أن القاعدة في الزكاة أن الزكاة تخرج من الفائض من المال وليس من كل مال يدخل للإنسان، مهما كان كبيرا، مادام ينفق على الضرورات والحاجات، بل وبعض التحسينات أيضا.

وقد اختلف الفقهاء في وجوب بلوغ النصاب حتى تجب الزكاة في مال الراتب، فمنهم من جعل بلوغ النصاب شرط وجوب، ومنهم من رأى أن يزكى من مال الراتب دون اعتبار لنصاب الذهب والفضة، وجعل نصابه قياسا على زكاة الزروع، ولكل فريق أدلته، لكن الذي يترجح أن يكون النصاب قياسا على الذهب والفضة؛ باعتبار أن المال الوارد من الراتب هو ما يحل محل الذهب والفضة، ويكاد يكون هو الأصل العام في الزكاة، أما ما خرج عن هذا، فلخصوصية في المال، كالزرع والماشية ونحوهما، وزكاة الراتب لا تشبه الزرع أو التجارة أو زكاة الحيوان.

كما أن اختلاف الفقهاء في حولان الحول أيضا هو اختلاف سائغ من حيث النظر الفقهي، ولكن الذي يترجح أنه يجب حولان الحول وهو مرور عام هجري كامل على النصاب حتى تجب فيه الزكاة؛ بناء على الأصل السابق، وهو أرفق بحال المزكي، وليس فيه شيء من الجور على ماله، وبناء عليه يكون المقدار هو 25 في كل ألف، وهو اختيار ابن مسعود – رضي الله عنه- فقد كان يزكي الأعطيات، فيأخذ من كل ألف خمسة وعشرين.

وخلاصة القول: إن وجوب الزكاة في أموال الرواتب أقرب لنصوص الكتاب والسنة وفعل الصحابة واجتهادهم، وأوفق لمقاصد الشريعة الغراء التي ترى أن على الغني صدقة في ماله لاحتياجات المجتمع الذي يعيش فيه، بناء على تحديد تلك الجهات المستفيدة من خلال القرآن الكريم، وهو رأي وصلت إليه المجتمعات البشرية وإن كانت في صور أخرى، كفرض الضرائب المتنوعة في المجتمعات البشرية دون اعتبار للدين، وقد سبق الإسلام إلى تلك الرؤية الاجتماعية بنظام وقانون يتميز بالعدل، منصفا الطرفين؛ المخرج والآخذ، محافظا على روح المجتمع المتسامح فيما بينه.