لا أحد ينكر المكانة الفلسفية والمنزلة الأخلاقية والسيرة النضالية التي يعرف بها ”علي عزت بيجوفيتش“ (2003م) ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في العالم الغربي أيضا، فالرجل عرف بكفاحه الطويل وتضحياته الجسام في سبيل الحرية والسلم والتعايش، كما عرف بحسه الفلسفي النقدي العميق الذي تجلى في نصوصه الفكرية والفلسفية، لكن، رغم هذا كله، بقي فكر هذا الرجل حبيس نصوصه وكتبه، فلم يلق العناية المستحقة التي تدرس أفكاره وتصوراته قصد الاستفادة من تجربته الفكرية ورؤيته الفلسفية للعالم والمجتمع والإنسان، على اعتبار أن الرجل جمع في مسيرته بين النظر والممارسة، أي جمع بين الجهاد النظري التنويري والجهاد العملي التحرري، وعليه رأيت في هذا الفصل أن أبحث في جانب من جوانب فكره الفلسفي، وهو الجانب المرتبط بمقاربة سؤال الأخلاق في سياق تسلط ثقافة الحداثة الغربية على ثقافات الأمم الأخرى، وذلك من خلال الوقوف على الإشكالات أو القضايا الأخلاقية الكبرى التي شغلته أثناء مناظرته النقدية للتصورات الفلسفية الغربية في مجال الأخلاق، والتي قمت بحصرها في ستة إشكالات كبرى، وهي: (1) الشعور بالمعنى بين الدين والعقل المجرد، (2) حقيقة التخلق بين الدين والعقل المجرد، (3) الأخلاق ومحدودية التأسيس العقلي المجرد، (4) الأخلاق بين الفطرة والدين، (5) الأخلاق الحداثية وتهافت الأسس، (6) عَمَه العقل المجرد والحاجة إلى الأخلاق الإلهية.‎

ومن أجل مزيد من الكشف عن حكمة الفلسفة الإسلامية ، اخترت منهج المقارنة لتقييم الجواب الفلسفي الذي قدمه بيجوفيتش عن هذه الإشكالات الأخلاقية، وذلك بإبراز أوجه تقاطعه مع جواب ”طه عبد الرحمن“. تهدف هذه المقارنة، بالأساس، إلى الوقوف على التقاطعات الفكرية التي تجمع بين المفكرين في التصورات النقدية والبنائية التي استندا إليها في اشتغالهما على الإشكالات التي يثيرها سؤال الأخلاق في السياق التاريخي الحداثي المعاصر، وذلك بهدف الكشف عن الإمكانات الفلسفية التي يتميز بها العقل الفلسفي الإسلامي المعاصر، والإسهام في البحث عن القواسم المشتركة بين فكر الرجلين في إطار السعي إلى رسم فضاء فلسفي إسلامي جامع بين جميع المفكرين المسلمين، بحيث يكون هذا الفضاء بمثابة نموذج فلسفي-معرفي حضاري قادر على التفاعل مع إشكالات الحضارة الحديثة، وأسئلتها الراهنة، وما يولده ذلك من تحديات على العقل المسلم المعاصر.‎

1-‎ الشعور بالمعنى بين الدين والعقل المجرد‎

يرى بيجوفيتش وعبد الرحمن أن الشيء الذي يضفي المعنى على أفعالنا الخلقية المجردة عن المصلحة الدنيوية لا ينتمي إلى هذا العالم المرئي، أو قل عالم الشهادة، وإنما ينتمي إلى العالم غير المرئي، أو قل عالم الغيب، وليس هذا الشيء سوى الإيمان بشهادة الله هذا الفعل، فهو الذي يبث في أعمالنا الخلقية الخالصة معنى، والشعور بهذا المعنى لا يد للإنسان في إيجاده أو خلقه، بل هو موجود في داخلنا، أو إن شئت قل جزء من فطرتنا التي خلقنا بها، فهو أثر من آثار ميثاق الشهادة الأولى (1) التي تحفظها ذاكرتنا الروحية.‎

إن الأخلاق—باعتبارها ظاهرة واقعية في السلوك الإنساني—لا يمكن—في نظر بيجوفيتش—تفسيرها تفسيرا عقليا، فالسلوك الأخلاقي في ميزان العقل المجرد لا يعدو كونه واقعة، ولا يمكن أن يكون له معنى إلا في عالم الإيمان بالله تعالى الذي يتجاوز حدود العقل (بيجوفيتش 1993، 177–178). فالمعاني التي تشير إليها المفاهيم والحقائق الأخلاقية تنطوي على معقولية خاصة تخرق حدود معقولية العقل المجرد، ولا يمكن للعقل المجرد أن يدرك هذه المعاني—في نظر بيجوفيتش—إلا إذا خرج من طور العقلانية المادية إلى طور العقلانية الدينية، أو قل باصطلاحه التحرر من قبضة الحضارة والانفتاح على أفق الثقافة؛ لأن الإنسان في نظره كائن ليس ذا طبيعة واحدية مادية كما تدعي الفلسفة المادية، وإنما، على العكس من ذلك، كائن ذو طبيعة مزدوجة، تزدوج فيها الروح بالمادة، أو قل بتعبيره تزدوج فيها الحضارة بالثقافة. فالثقافة، تمثل الجانب الروحي في الإنسان؛ بحيث ”تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل تعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها“ (بيجوفيتش 1993، 94)، أما الحضارة فلا تمثل سوى الجانب العلمي المادي، أو الأداتي والآلي في الإنسان، إذ ليست أكثر من ”استمرار للحياة البيولوجية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة، استمرار للتقدم التقني، وهذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان في الدرجة والمستوى والتنظيم فقط“ (بيجوفيتش 1993، 94–95).

وعلى هذا فعلاقة الإنسان بالحضارة، التي تعتبر من إنتاج العقلانية المادية، تختلف اختلافا جوهريا عن علاقته بالثقافة التي تتجاوز حدود العقلانية المادية. فالثقافة تنور، لأنها تدفع الإنسان إلى البحث عن المعاني والأسرار الوجودية والاستغراق في الذات للوصول إلى بعض الحقائق الدينية والأخلاقية والفنية، أما الحضارة فتعلم، لأنها تدفع الإنسان إلى مواجهة الطبيعة لمعرفتها وتغيير ظروف الوجود بواسطة تطبيق الملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار (بيجوفيتش 1993، 98–99). بإمكان العلم الذي يعد من أبرز تجليات الحضارة، أن يفسر الأوضاع البيولوجية التي تقلب فيها الإنسان، وضروب العلاقة التي أقامها مع الأدوات بناء على دراسة التاريخ السابق، بدءًا بما يسمى بالأشكال البدائية للحياة إلى المرحلة التي ظهر فيها الإنسان ـ—الحيوان الكامل، ”أما الجوانب الروحية فلا يمكن استنتاجها أو تفسيرها بأي شيء وجد قبله، فالإنسان قد هبط من عالم آخر مختلف، هبط من السماء طبقًا للتصور الديني“ (بيجوفيتش 1993، 93)، هكذا يبقى العقل العلمي عاجزا عن تفسير ظاهرة الروح، التي تعد العبادة أبرز تجلياتها الكبرى، لأن هذا العقل لا تخرج آفاقه عن نطاق التجربة المحسوسة التي لا تتجاوز حدود العالم المادي، فأينما توجه لا يرى إلا المحسوس. إن الحضارة، باعتبارها القطب المادي الذي يعبر عن علاقة الإنسان بالطبيعة والأشياء من حوله، لا يمكن، في نظر بيجوفيتش، أن تمدنا بمعاني الوجود، فهي ”أبعد من أن تمنح لحياتنا معنى، إنما هي في الحقيقة جزء من الهراء في وجودنا“ (بيجوفيتش 1993، 125).

إن الاستغناء عن الجانب الروحي الديني والأخلاقي، بالعلم المادي، لن يزيد هذا الإنسان إلا تيها وتشردا في هذا العالم، ولن يزيد معاني الوجود إلا انحجابا، فـ”حياة الإنسان تصبح بلا معنى بغير نوع من الدين والأخلاق، والإسلام هو الاسم الذي يطلق على الوحدة بين الروح والمادة، وهي الصيغة الأسمى للإنسان نفسه“ (بيجوفيتش 1993، 27).‎

إن وجود الإنسان، في نظر بيجوفيتش، لم يكن عبثا، فلقد كانت من ورائه إرادة مطلقة، لكن الإنسان ظلوم جهول، ينسى كل شيء يذكره بوجود هذه الإرادة، ووجود المريد صاحب هذه الإرادة. ينسى أنه لم يكن شيئا مذكورا ثم كان، ينسى أنه لم يوجد في هذا العالم بإرادته، ينسى أنه الكائن الذي يموت، ينسى أنه لم يكن له دخل في إيجاد ما ينسبه إلى نفسه من الأشياء، فلو أن الإنسان تأمل في نفسه حق التأمل لوجد أنه يحمل ذاكرة روحية غشيها النسيان، ”تشتاق النفس الإنسانية إلى اللاتناهي، والخلود، والكمال، والخير، والسلام، وإلى الله، ألا يعد هذا الاشتياق نوعا من الذاكرة؟ ألا يكشف عن ذكرى عالم مفقود (مؤقتا)“ (بيجوفيتش 2016، 102). بل إنه يجعلنا نستشعر بقلوبنا وجود هذا العالم الغيبي الذي قدمنا منه، عالم منقوشة معانيه في ذاكرتنا الروحية التي كثيرا ما يغشاها النسيان.‎

يتقاطع تصور طه عبد الرحمن مع هذه الرؤية الفلسفية، فهو ما فتئ يؤكد أن الدين الإلهي المنزل هو المصدر الوحيد الذي بمقدوره أن يدل الإنسان على السبيل الأنجع إلى إدراك معاني انوجادنا في هذا العالم، على اعتبار أن معاني هذا الانوجاد لا يمكن أن نظفر بها خارج الحقيقة الدينية، ذلك لأن ”دخول الإنسان في العالم دخول ديني أصلا، أي دخول بالفطرة التي خلقه الله عليها“ (عبد الرحمن 2013، 108)، فالمعاني التي تنطوي عليها الأفعال الخلقية والأشياء التي من حولنا هي معان خلقية إلهية مبثوثة في الروح الإنساني، فـ”الروح الإنساني هو سر هذه المعاني الخلقية الإلهية التي يجدها الإنسان في فطرته، والتي تظل نورا فيها يصله بالأصل الأقدس الذي فاضت منه، ألا وهو الروح الإلهي“ (عبد الرحمن 2014، 127–128). إن فهم معاني الإلهية يتطلب من الإنسان أن يتعلم لغة الوجود، فبدونها ينسد في وجهه طريق الوصول إلى هذه المعاني، وليست هذه اللغة سوى العبادة؛ لأننا ”إذا تأملنا العبادة بكلية مداركنا، ظهر لنا أن العبادة هي بمنزلة لغة الوجود التي يتواصل بها الإنسان مع الإله كما يتواصل باللغة المنطوقة مع أخيه الإنسان“ (عبد الرحمن 2014، 115).‎

إن غياب المعنى في أفعالنا وتصوراتنا الخلقية الذي وقع فيه الإنسان الحداثي الغربي لا يمكن أن نجد له تفسيرا مقنعا خارج سياق أفول الحقائق الإيمانية الكبرى والقطع الإبستمولوجي مع اليقينيات والثوابت الدينية التي كانت تمده بالمعاني الوجودية. إن الشعور بغياب المعنى والوقوع في العدمية والسقوط في التبخيس ما هو إلا آثار لسلسلة طويلة من التحولات والتغيرات التي عرفها المجتمع الحداثي الغربي، ولا يمكن أن ندرك سببها الحقيقي إلا بالرجوع إلى الوراء والغوص في الماضي، وبالذات التنقيب عن الأساس الذي قامت عليه الحداثة الغربية في مختلف تجلياتها، وعند رجوعنا إلى الماضي، أو قل الغوص في اللاشعور التاريخي للمجتمعات الغربية، نجد أن هذا الأساس يتمثل في حقيقة ”التنازع مع الدين“. إن ما نراه اليوم من مظاهر العدمية وأفول المعاني الوجودية للأشياء يجد تفسيره في هذا الأساس الذي قامت عليه الحداثة الغربية، أي هو نتاج لمحاربة الدين الذي تطور، مع مرور الزمن، إلى ضرب من إقصاء الدين وإخراجه من الحياة، إلا أن هذا الأفول لم يكن دفعة واحدة، وإنما مر بطورين بارزين:‎

الأول: طور الحداثة وعقلنة المعنى، ويتميز هذا الطور باعتراف الحداثة الغربية بوجود معان تتجاوز المظاهر المادية للوجود والحياة، إلا أن هذه المعاني—في نظر روادها—لا تقوم على أصول دينية وإنما، على العكس، ينبغي أن تقوم على مقتضيات النظر العقلي الخالص في الطبيعة الإنسانية، على اعتبار أن هذه المعاني، ولو أنها متعالية ومطلقة وثابتة، توجد داخل العالم وليس خارجه، كما تنتمي إلى الإنسان، أي توجد داخل ذات الإنسان وليس خارجه، لأن الإنسان في نظرها مركز الكون وسيده، قادر على تجاوز الطبيعةالمادة، وبإمكان العقل الذي يمتلكه أن يكتشف هذه المعاني الأخلاقية المبثوثة فيه. وبناء على هذا التصور وضع فلاسفة الحداثة الغربية جملة من الأنساق الأخلاقية والتصورات الوجودية والغايات الكونية التي أصبحت بمنزلة ديانة طبيعية جديدة حلت محل الدين المسيحي، تحدد للإنسان معاني الوجود وأسراره التي ينبغي أن يعيش حياته وفقها.‎

الثاني: طور ما بعد الحداثة الغربية وانتكاس المعنى المعقلن، ( 2 ) ويتميز هذا الطور بدخول التهافت على مجمل الأنساق الأخلاقية والتصورات الفلسفية الميتافيزيقية والأهداف الوجودية التي وضعتها الحداثة الغربية، نظرا للمفارقات التي انطوت عليها والنتائج العكسية التي أفضى إليها تطبيقها، فضلا عن التطورات التي تمخضت عنها الممارسة العلمية والمعرفية، وأبرزها اثنان:

الأول: إلحاق الإنسان بالطبيعة، على اعتبار أنه كائن مادي مثله مثل البهيمة تحركه مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية.

والثاني: ظهور نسق فلسفي جديد يدحض كثيرًا من الأسس والمفاهيم التي قام عليها العقل الغربي في الطور الأول من حداثته، ما أدى إلى إضفاء النسبية على النظر العقلي المجرد.

ولقد أدى هذا التحول في التصورات إلى سقوط كل الدساتير الأخلاقية والسلوكية وتهافت كل الإيديولوجيات الفكرية الكبرى التي وضعها العقل الغربي لإضفاء المعنى على وجود الإنسان، وفي هذا الطور بالذات أصبح الإنسان يستشعر غياب المعنى في الأفعال الخلقية والأشياء التي توجد من حوله، بل أصبح يستشعر غياب معنى وجوده في هذا العالم، بحيث أصبح يعيش تحت علمانية مادية وعدمية شاملة تقوم، وفق تعبير عبد الوهاب المسيري (ت. 2008م)، على أساس ”أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم مكون أساسا من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت، هذه المادة تشكل كلا من الإنسان والطبيعة، فهي رؤية واحدية كونية مادية“ (المسيري 2007، 105)، وتعتبر فلسفة ”نيتشه“ خير من يمثل أفول المعنى المتعالي عن الحضارة الغربية الحديثة، حيث صرح بنهاية عصر الآلهة، أو بتعبيره ”موت الإله،“ بحيث أصبح العالم كله يرد لا إلى ثنائية الروح/المادة وإنما إلى واحدية المادة/الطبيعة.‎

وخلاصة هذا المحور أن المعنى عند بيجوفيتش وعبد الرحمن، لا يمكن أن نجد أساسه في عالم الشهادة، أو قل العالم المادي، وإنما نجد جذوره في العالم الغيبي الذي قدمت منه أرواحنا، وحتى المعاني التي تدل عليها الأشياء من حولنا، تجعلنا نفكر في عوالم أخرى مختلفة عن عالمنا المشهود اختلافا مطلقا، إن الأسئلة الوجودية الكبرى التي حيرت العقول عبر التاريخ نجد الجواب عنها ليس في العقل وإنما في الدين الإلهي المنزل، أو قل التجربة الايمانية الدينية، وبغير هذه التجربة يظل السبيل إلى الجواب عنها مسدودا في وجه العقل المجرد إلى الأبد، وعلى هذا فلا مطمع للإنسان الحداثي الغربي في استرجاع هذا المعنى الذي فقده ما لم يجدد صلته بعالم الغيب، ويجدد صلته بربه تجديدا جذريا يمكنه من كشف الحجاب النفسي عن الروح، فيستعيد فطرته الدينية الأصلية التي تنطوي على معاني الوجود وأسرار الأخلاق.‎

2 –حقيقة التخلق بين الدين والعقل المجرد‎

يقوم تصور ”علي عزت بيجوفيتش“ لطريق التخلق، أو التدين، على أسس ثلاثة:‎

الأول: الحرية، والمقصود بالحرية هنا ليس جملة التصرفات والسلوكيات والأفعال التي يقوم بها الإنسان ولا تشملها الرقابة القانونية، وإنما المقصود بها هو الحرية الجوانية، أو قل الحرية الداخلية الباطنية المتمثلة في الإرادة، أو قل نية الاختيار؛ فالحرية هنا بمعنى الاختيار الحر، فالتخلق ينبغي، وفق هذا الأساس، أن يكون ثمرة إرادة التخلق وليس نتاجًا للتسلط من الخارج، فالأخلاق—في نظر بيجوفيتش—”ليست في العمل المخلص وإنما فقط في النية المخلصة“ (بيجوفيتش 1993، 181)، فالعمل الديني يحكمه العالم الجواني وليس العالم الخارجي (بيجوفيتش 1993، 181).

إن التخلق—في نظر بيجوفيتش—كما يكون لله قد يكون لغير الله، والذي يتحدد به التخلق الحقيقي هو الإرادة الخالصة لله، فالإنسان المتخلق ليس هو المستقيم الملتزم بالقانون في الظاهر؛ لأن ”استقامة السلوك قد تكون نتيجة العادة أو الخوف، والعادة ليست شيئا أخلاقيا وكذلك الخوف، بل هو أقل أخلاقية، وحدها السلوكيات التي تكون وفقا لما يمليه الضمير هي السلوكيات الأخلاقية حقا، فكما ينبع قراري بالصوم والصلاة من ضميري، ينبغي كذلك أن ينبع قراري بالسلوك القويم“ (بيجوفيتش 2016، 80). وعلى هذا فكل محاولة لفرض الأخلاق على الإنسان من غير وازعه الداخلي، كأن تكون بواسطة القانون أو التدريب مثلا، لا تفضي، في نظره، إلى تخلق حقيقي للإنسان وإنما تفضي إلى تغيير سلوكه الخارجي مثلما يتغير سلوك الحيوان بواسطة التدريب، لأن هذا الضرب من التخليق يتعامل مع الإنسان كما لو كان آلة بدون إرادة حرة، أو وازع داخلي، بينما الواقع أن التخلق الحقيقي عند الإنسان يقوم، أساسا، على الوازع الداخلي وليس الإكراه الخارجي، سواء كان هذا الإكراه بالقانون أم بالتدريب أو بالقوة أو بالترهيب.

فـ”الخير والشر في باطن الإنسان، فلا توجد تدريبات أو قوانين ولا تأثيرات خارجية يمكن بها إصلاح الإنسان، فكل ما تستطيعه هذه الأشياء هو أن تغير السلوك [الخارجي] فحسب … تستطيع أن تدرب جنديًّا أن يكون خشنًا، ماهرا، قويا، ولكنك لا تستطيع أن تدربه لكي يكون مخلصا، شريفا، متحمسا، شجاعا، فهذه جميعا صفات روحية … ويرجع هذا إلى الخاصية الإنسانية للإنسان، فلا يمكن تدريب الإنسان كما يدرب الحيوان، وهذا القصور في التدريب، والتشكك في التعليم هما البرهان الواضح الصريح أن الإنسان حيوان قد منح روحا، أي حرية“ (بيجوفيتش 1993، 183).‎

يتقاطع عبد الرحمن مع بيجوفيتش في هذا الأساس، فهو يرى أن الأصل في التعبد لله تعالى هو الاختيار، كأن الحق سبحانه خاطب كل إنسان إنسان من وراء حجاب: هل لك أن تكون عبدا لي مختارا؟ (عبد الرحمن 2012، 115)، كما أن هذا التعبد لا يكون حقيقيا إلا إذا انبنى على الحرية في الله، أو قل الإخلاص، فـ”تحصيل الإخلاص هو الأصل في تحصيل كل سلوك نافع“ (عبد الرحمن 2005، 188).‎

الثاني: التجربة الروحية الفردية، فالتخلق أو التدين مكابدة تحدث في باطن الإنسان، أي عبارة عن إنشاء للصرح الأخلاقي في العالم الداخلي أولا، فالتخلق الحقيقي ليس تدريبا من الخارج على الأخلاق وإنما بناء من الداخل للأخلاق، بحيث تكون الأعمال الخارجية الصالحة التي يأتيها الإنسان عبارة عن انعكاس صرح المعاني الخلقية المترسخة في الباطن، فـبيجوفيتش يذهب إلى أن اليقظة الخلقية، أو قل التدين، عبارة عن ”حركة في أعماق الروح، [أو قل] مسألة تجربة تتزامن مع وجود طاقة ذات طبيعة جوانية خاصة تغير بقوتها الخالصة الإنسان تغييرا كليا، إنه تحول ينبع من ذات الإنسان … وكل تأثير خارجي للقضاء على الشر لا يثمر“ (بيجوفيتش 1993، 182–183). إن التدين عند بيجوفيتش أشبه بعملية التطور البيولوجي التي تخضع لها الكائنات الحية في الزمان والمكان، مع وجود فرق جوهري بينهما، وهذا الفرق هو أن التطور البيولوجي موضوعي براني. أما التطور الذي ينتج عن التدين فعمل باطني أو جواني، يخرجه من عالم اللاإنسانية إلى عالم الإنسانية، وبتعبيره ”الدين طفرة تعني خروج الإنسان من الحالة غير الإنسانية، ولكن بعكس التطور الدوري التدريجي الذي هو تطور موضوعي براني، يكون الدين دائما طفرة إنسانية جوانية، أي إمكانية ذاتية“ (بيجوفيتش 2016، 101).‎

يتوافق عبد الرحمن مع بيجوفيتش في هذه الرؤية، فهو، أيضا، لا يفتأ يؤكد في معظم كتبه على أن التدين عبارة عن تجربة إيمانية روحية يدخل فيها الإنسان بكليته، أو إن شئت قل عبارة عن عمل تزكوي روحي، ”يدور في أعماق الإنسان، نافذا إلى الجذور المعلولة في نفسه، فيجتثها من أصلها، مستبدلا مكانها بذورا روحية لا تفتأ، بعد حسن الرعاية، أن تنشئ فضاء معرفيا في باطنه، تتحول معه مدارك الإنسان رأسا على عقب، بدءا بعقله وانتهاء بحسه“ (عبد الرحمن 2012، 161).‎

الثالث: التوسل بالقدوة والمشاهدة والاعتبار على تحفيز الفطرة الخلقية والمبادرة الخلقية، فمنهج التخليق لا يقوم على الاسترسال في القول الخطابي الوعظي، وإنما يقوم على الاقتداء المباشر بالقدوة أو المشاهدة المباشرة للأفعال الخلقية، فـبيجوفيتش، يعتبر المشاهدة والمثل الصالح، فضلا عن النصيحة، أفضل الطرق لتحفير القوى الداخلية في الإنسان إلى الخير، أي أن التربية تنشئة داخلية، والفعل الخارجي، المتمثل في مشاهدة القدوة الصالحة أو سماع النصيحة أو الاطلاع على الأقوال الخلقية، ليس أكثر من إثارة القدرة الخلقية والذاكرة الخلقية الروحية في الإنسان، على اعتبار أن ”هدف التنشئة الصحيحة ليس تغيير الإنسان تغييرا مباشرا، حيث إن هذا غير ممكن، وإنما هي تحفز فيه قوى جوانية دافعة من الخبرات، وتحدث قرارا جوانيا لصالح الخير عن طريق المثل الصالح والنصيحة والمشاهدة … ولا يمكن تغيير الإنسان بغير هذا الأسلوب، لعل سلوكه قد يتغير ولكنه سيكون تغييرا ظاهريا ومؤقتا“ (بيجوفيتش 1993، 183–184).‎

يلتقي عبد الرحمن مع بيجوفيتش في ضرورة اعتبار القدوة في مجال التربية الخلقية، فهو يرى أن المتخلق ”لا يباشر فعل التخلق بقراءة كتب السيرة والأخبار والمواظبة على هذه القراءة، لأن هذه الأخيرة وإن أفادته علما، فإنها لا تفيده عملا، نظرا لأن العمل ليس من جنس ما يقال أو يقرأ، وإنما من جنس ما يشاهد بعين البصر وينال بأداة الحس،“ أي ”أنه يحتاج إلى الاقتداء بمن تحقق فيه التخلق النبوي، بحيث يكون هذا التخلق الذي يتصف به القدوة قد ورثه متخلقا عن متخلق إلى أن يصعد به إلى النبي “ (عبد الرحمن 2005، 85). ذلك لأن التوسل بالقول النظري لا يمكن أن يثمر في العمل، على عكس النظر، يثمر أعمالا صالحة وأفعالا خلقية.‎

وخلاصة القول في هذا المحور، أن التخلق الحقيقي في نظر الفيلسوفين هو أولا، ذاك الذي يكون مبنيا على الاختيار الخالص الذي لا تحكمه سوى الرغبة في التعبد، وثانيا يكون تجربة إيمانية يدخل فيها الإنسان ليس بجوارحه فحسب، بل بجوانحه أيضا، أو قل بكليته، يبني فيها أخلاق الظاهر على أخلاق الباطن، بحيث يكون التجلي الخلقي الخارجي ثمرة المكابدة في الباطن أو المجاهدة من الداخل، وثالثا، أن تكون هذه التجربة الإيمانية في سياق وجود قدوة متحقق بأخلاق النبوة، وعارف بأسباب التزكية وطرائقها، فإذا توفرت هذه الأسس التربوية الثلاثة للعمل التخليقي، فإنه يصبح بمقدوره، بإذن الله تعالى، تنشئة إنسان يحمل ليس نصيبا من القيم الخلقية الرفيعة فحسب، بل، أيضا، نصيبا من فقه معاني هذه القيم وإدراك أسرارها الروحية، فيكون ذلك كله سببا لمزيد من التنمية الأخلاقية ورسوخ الممارسة الأخلاقية.‎

3‎- الأخلاق وقصور التأسيس العقلي المجرد‎

يرى بيجوفيتش وعبد الرحمن أن أي محاولة لإقامة الأخلاق على أساس عقلي مجرد مآلها الفشل لا محالة؛ لأن العقل الذي يعتبر الجانب الآلي في الإنسان، ليس بمقدوره أن يكتشف إلا ما هو من قبيل الطبيعة والآلية، أي ما ينطبق عليه وصف المادة، فهو—في نظر بيجوفيتش—”يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكما قيميا عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي“ (بيجوفيتش 1993، 186)، والشاهد على ذلك—في نظر عبد الرحمن—أن المرء لو اشتغل على جمع الوقائع، قاصدا أن يستخرج منها قيمة مخصوصة، فإن الأمر قد يمتد إلى ما لا نهاية، حتى ولو استنفر الآخرين جميعا واتخذهم ظهيرا؛ لأنه لن يجد بين يديه إلا مجموعة من الوقائع المتراكمة التي تزداد حجما ولا تزداد معنى (عبد الرحمن 2013، 108). فالعقل باعتباره فعالية إدراكية آلية، لا يستطيع أن يتخطى نطاق العلم الذي ينتجه هذا العقل، وهو نطاق محدود بعالم الأشياء، أو لا يتعدى عالم الظواهر، وحتى على فرض إمكان توصل العقل إلى بعض الحقائق، فإن هذه الحقائق تبقى نسبية، لأن أحكام العقل ”لا تتصف بالقطع المطلق ولا قوانينه بالثبات المرسل، وإنما مثلها مثل غيرها من الأحكام والقوانين الطبيعية، فهي عبارة عن أشباه حقائق، لأن صدقها في الحال لا يرفع إمكان التعرض لها بالإبطال في المآل“ (عبد الرحمن 2012، 103).‎

إن العقل المنفصل عن الحقيقة الدينية لا يستطيع أن ينتج سوى العلم بالظواهر التي تنتمي إلى عالم الطبيعة. أو قل الخِلقة، أي القابلة للملاحظة والتجربة، فالمعرفة التي ينتجها العقل المجرد ”تنبذ كل ما يستلزم تفسيرا فوق طبيعي، ولا يستبقي إلا ما يستند إلى سلسلة من الأسباب الطبيعية ومسبباتها التي يتم إثباتها بالتجربة والملاحظة كلما كان ذلك ممكنا“ (بيجوفيتش 1993، 191).

إن الدراسات والأبحاث التي لا تفتأ تقدمها علوم الآثار والحضارات والأمم الماضية تؤكد أن دخول الإنسان التاريخ لم يكن كدخول غيره من الحيوانات والبهائم، وإنما على العكس من ذلك كان دخولا فريدا ومخصوصا، ويتمثل ذلك، في نظر بيجوفيتش، في كونه ”تميز عنها بسمات إنسانية خاصة وقيم أخلاقية تحير العقل، لقد دخل برأس مال أخلاقي مبدئي هائل، لم يرثه من آبائه المزعومين“ (بيجوفيتش 1993، 219)، ولا يمكن إرجاع هذه القيم إلى نظام الطبيعة، لأن ”الطبيعة متجانسة ومحايدة“ (بيجوفيتش 1993، 139)، كما لا يمكن إرجاعها إلى الحيوان، لأن جميع الأشكال المختلفة للرعاية التي نلاحظها عند بعض الحيوانات قائمة على أساس المنفعة فلا إنسانية فيها (بيجوفيتش 1993، 222)، فعلى كون الحيوان يتفوق على الإنسان في بعض المهارات، إلا أن هذا ”لا ينطبق على الأخلاق، لأن الأخلاق تتطلب الاختيار الحر الواعي للخير ورفض الشر، أما الحيوانات فلا يمكنها القيام بهذا الاختيار … الأخلاق أمر قاصر على الإنسان، وكذلك الانحراف الأخلاقي“ (بيجوفيتش 2016، 218)، ولا يمكن إيجاد فهم حقيقي لهذه الظاهرة إلا بقبول المسلمة الدينية (بيجوفيتش 2016، 219)، وكل محاولة لإقحام العقل المجرد في أحكام القيمة ذات الطبيعة الأخلاقية سوف يكون مآلها التخبط، لأنه يكون من باب إقحام العقل فيما يتجاوز نطاقه الإدراكي، أو حدوده المعرفية، فكل ”الوصايا الجوانية التي تجعلنا بشرا في حقيقتها لا عقلانية“ (بيجوفيتش 2016، 83).

إن الأخلاق—في نظر بيجوفيتش—ليست طبيعية، وإنما هي معان فوق طبيعية، مثلها مثل حقيقة الإنسان. فكما أنه لا يوجد إنسان طبيعي فكذلك لا توجد أخلاق طبيعية، فالإنسان في حدود الطبيعة ليس إنسانًا، بل هو على أحسن الفروض حيوان ذو عقل، وكذلك الأخلاق في حدود الطبيعة ليست أخلاقا، وإنما على الأرجح هي شكل من أشكال الأنانية (بيجوفيتش 2016، 194).‎

يتقاطع تصور عبد الرحمن مع هذا التصور، فهو يرى أن الأخلاق باعتبارها أحكام قيمة، تنتمي إلى عالم ما فوق الطبيعة؛ لأن القيمة ”عبارة عن معنى يتجاوز الواقع، إذ يحدد لا ما هو كائن وإنما ما يجب أن يكون“ (عبد الرحمن 2012، 82)، وحتى في حالة ما إذا تمكن الإنسان من وضع دستور أخلاقي على أساس النظر العقلي، فإن هذه الأخلاق لا تعد كونها كومة من الأخلاق الاجتماعية أو قل بتعبير بيجوفيتش: ”قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي“ (عبد الرحمن 2012، 186)، فتصرف الإنسان وفق هذه القواعد لا يعتبر من قبيل الممارسة الأخلاقية؛ لأن هذا التصرف ليس، كما يتوهم، في سبيل المبدأ الأسمى وإنما هو، في الحقيقة، تصرف يستهدف تحقيق المصلحة الشخصية ( 3 ) تحت غطاء أو شعار الواجبات أو الالتزامات الاجتماعية، فما يطلق عليه المصلحة المشتركة هو مصلحة شخصية تتساوى في أنانيتها ولا أخلاقيتها (عبد الرحمن 2012، 204)، ولا يمكن لسلوك اجتماعي أن يتحول إلى أخلاق إلا إذا انبنى على الواجب لا المصلحة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان باسم الله تعالى؛ لأن ”مفهوم الأخلاق يتنافى مع النفعية، وهذا المفهوم يفترض وجود إله حي“ (بيجوفيتش 2016، 83)، كما أن المصلحة المشتركة، على عكس الأخلاق، لا يمكن أن تكون مصلحة البشر جميعا، إنها دائما مصلحة مجموعة محددة مغلقة قد تكون مجموعة سياسية، أو وطنية، أو طبقة (بيجوفيتش 2016، 205)، وهذا كله يؤكد—عند بيجوفيتش—أن الحقائق الأخلاقية تتميز بضرب من الثبات في الزمان، فهي لا تتغير تغير القواعد والنظم الاجتماعية وأساليب الإنتاج، والسبب في ذلك، أن ”لغز الإنسانية قد بدأ في لحظة الخلق، تلك المقدمة السماوية أو الفعل الإلهي، الذي سبق تاريخ الإنسانية كله، وليس في مقدور العلم أو العقل أو الخبرة في حد ذاتها، أن تساعدنا في الاقتراب أو الفهم الأفضل لهذه الأمور كلها“ (بيجوفيتش 1993، 222)، أما في نظر عبد الرحمن، فالأخلاق التي يدعي العقل الغربي المجرد وضعها ليست، في الحقيقة، من إبداعه الخالص وإنما هي أخذ بطريق غير مباشر من الدين مع الاجتهاد في فصلها عن السياق الديني واستعمالها في سياق عقلي مُدَهْرَن (عبد الرحمن 2005، 148)، لأن العقل المجرد باعتبار طبيعته المادية ”لا سبيل له إلى الإدراك إلا بالتوسل بالأسباب المادية الكامنة فيه ومتى اتجه إلى إدراك حقائق غير مادية، كانت هذه الأسباب حجابا عظيما قاطعا له عن إدراكها“ (عبد الرحمن 2006، 47).‎

وخلاصة القول في هذا المحور، أن العقل المجرد والأخلاق، في نظر بيجوفيتش وعبد الرحمن، ينتميان إلى عالمين متباينين، أو قل تعارضهما في قانونهما، فالعقل المجرد ينتمي إلى عالم الأرض، بينما الأخلاق تنمي إلى عالم السماء أو عالم الروح، أو إن شئت قل العقل المجرد ينتمي إلى عالم الطبيعة، والقيم الأخلاقية تنتمي إلى عالم ما فوق الطبيعة، والطبيعة والعقل المجرد على السواء ليس بمقدورهما التمييز بين الجميل والقبيح، والخير والشر، فهذه المعاني ليست موجودة في الطبيعة وإنما هي معاني وصفات عالم ما فوق الطبيعة لا تعقل معانيها وحقائقها سوى الروح، على اعتبار أن الروح تختص بالقدرة على خرق حدود العقل، أي خرق حدود الطبيعة أو المادة.‎

4‎ -الأخلاق بين الفطرة والدين‎

إن الأخلاق على كونها وازعًا فطر عليه الإنسان يوم كتب له الخروج إلى هذا العالم، يبقى تأسيسها خارج الدين، في نظر بيجوفيتش، إمكانا بعيد المنال، على اعتبار أن الدين هو المهد الذي نشأت فيه الإنسانية في مختلف الأطوار التي تقلبت فيها في الماضي الغابر، والأصل الذي تستقي منه الأخلاق معانيها ومعقوليتها، فلا أخلاق بدون دين، كما لا إنسان بدون دين، فالدين هو المرجع النهائي في التمييز بين القبيح والحسن، والخير والشر، فمن خلال تأمل النص الفلسفي لبيغوفيتش، نجد أن الأخلاق عنده حقيقة فطر عليها الإنسان، أي إنها موجودة في فطرة الإنسان بالقوة، ثم جاء الدين بتأكيد هذه الأخلاق من الخارج وبيان كيفية العمل بها وتطبيقها، والقول بفطرية الأخلاق هو ما يفهم من استعماله لبعض المصطلحات التي تفيد هذا المعنى مثل: الروح، الضمير، العالم الداخلي، أو الجواني، ذلك لأن الأخلاق عنده عبارة عن قرارات ليست عقلية وإنما قلبية، فـ”جميعنا يوافق على أنه ليس من الصواب معاقبة شخص تسبب صدفة في جريمة، ومع ذلك لا يمكن تبرير هذا الموقف الأخلاقي علميا فما يقبله القلب لا يستطيع العلم أن يبرهن عليه أو يفسره … والسبب في احتفاظنا بهذا الموقف هو ثقة نابعة من داخلنا، بسبب إيماننا“ (بيجوفيتش 1993، 188). والذي يقدر على تفسير هذا الموقف هو الدين، فالدين مدخل إلى عالم آخر متفوق على هذا العالم، والأخلاق هي معناه (بيجوفيتش 1993، 191) ، بحيث تصبح الأخلاق عبارة عن ”دين تحول إلى قواعد السلوك، يعني تحول إلى مواقف إنسانية تجاه الآخرين وفقا لحقيقة الوجود الإلهي“ (بيجوفيتش 1993، 193)، وهكذا فالدين عند بيجوفيتش هو مهد الأخلاق والأصل الذي تفرعت عنه، أي إنها هبة من الله تعالى لعباده رحمة منه وإحسانا، فـ”لا يمكن وجود نظام أخلاقي بدون وجود الله، والأخلاق ما هي إلا صورة من صور الدين“ (بيجوفيتش2016، 210)، العلم لا يستطيع أن ينشئ أي قيمة خلقية لأن القيم ليست من قبيل ما يخضع للتجربة حتى يتمكن من فهمها وإيجاد قانونها، وإنما هي من قبيل ما يدخل في الغيب بالنسبة للعلم. صحيح أن ”العلم يحاول أن يجيب عن الأسئلة الأبدية والنهائية، وهي التي تدور حول: الله، والخلود، والحرية، ولكن النتيجة إما إجابات خاطئة وضلالات نتداولها فيما بيننا، أو خيبة أمل بسبب عجز العقل الإنساني عن تقديم إجابات مقنعة. إن العلم يستبعد الدين ولكنه يعجز عن أن يحل محله“ (بيجوفيتش 2016، 89).‎

لا يختلف تصور عبد الرحمن عن تصور بيجوفيتش، فهو، أيضا، يرى أن الأخلاق مبثوثة في فطرة الإنسان بواسطة النفخة الإلهية … ووظيفة الوحي هي أن يخبرنا بوجود هذه المعاني في فطرتنا ويرشدنا إلى كيفية التصرف وفقها (عبد الرحمن 2014، 127؛ 2013، 59–60)، أي أن هناك توافقا بين الفطرة والدين، كما لو أن الدين عبارة عن فطرة من الخارج والفطرة عبارة عن دين من الداخل، ويزيد الدين عن الفطرة بكونه بيانًا لكفية تنزيل القيم الفطرية على الواقع، فيبقى الدين دائما هو الذي يحسم في القرارات الأخلاقية ويضفي عليها معاني العلو والسمو.‎

وهنا يثار سؤال عن ظاهرة حيرت عقول المفكرين والفلاسفة، وهو: إذا كان الدين هو منبع الأخلاق وأساسها فلماذا نجد أشخاصا ملحدين متخلقين ومؤمنين غير متخلقين؟‎

يرى بيجوفيتش أن الجواب عن هذا الإشكال يقتضي منا التفريق بين علاقة الأخلاق بالدين من حيث الوجود، وعلاقة الأخلاق بالدين من حيث الممارسة الواقعية اليومية، فالأخلاق من حيث المبدأ لا يمكن وجودها بغير دين، أما الأخلاق كممارسة أو حالة معينة من السلوك فلا تعتمد بطريق مباشر على التدين، إذ ليست هناك علاقة تلقائية بين العقيدة والسلوك، فسلوكنا ”ليس بالضرورة من اختيارنا الواعي ولا هو قاصر عليه، إنه على الأرجح نتيجة التنشئة والمواقف التي تشكلت في مرحلة الطفولة أكثر منه نتيجة للمعتقدات الفلسفية والسياسية الواعية، التي تأتي في مرحلة متأخرة من مراحل الحياة“ (بيجوفيتش 1993، 208). وعلى هذا فقد نجد أشخاصا متدينين مؤمنين لا يختلف سلوكهم عن سلوك من لادين له، بحيث تكون سلوكات مناقضة للدين، لكن هذا ليس راجعا إلى معتقدات المرء وإنما راجع لطبيعة التنشئة التي تلقاها في الصغر والمحيط الاجتماعي الذي ترعرع فيه، بحيث يكون ذلك السلوك غير الأخلاقي من مخلفات الطفولة، أما ما يتصف به بعض الملحدين من حسن الخلق وصفات حميدة، فلا يعني أن هذه الأخلاقيات لا علاقة لها بالدين، وإنما على العكس من ذلك، فهي من صميم الدين، تلقاها الفرد في تنشئته، وعايشها، ومارسها في محيطه الاجتماعي والمدرسة، إبان فترة الطفولة، فإذا تأملناها بعمق نجد أن هذه الأخلاقيات ”مدينة للدين ومنقولة منه“ (بيجوفيتش 1993، 208)، فقد نقل التعليم والفكر التربوي عن الدين مجموعة من الفضائل والخصال الحميدة لكن تم التستر على أصلها الديني، فكل الأخلاق الحميدة التي يتميز بها اللاديني هي أثر من آثار الماضي الغابر، ثمرة من ثمار الماضي الديني، الذي يستمر فينا في الحاضر والمستقبل، أي إنها ”أخلاق ترجع في مصدرها إلى الدين (…) دين ظهر في الماضي ثم اختفى في عالم النسيان، ولكنه ترك بصماته على الأشياء المحيطة، ثؤثر وتشع من خلال الأسرة والأدب والأفلام والطرز المعمارية (…) لقد غربت الشمس حقًّا ولكن الدفء الذي يشح في جوف الليل مصدره شمس النهار السابق“ (بيجوفيتش 1993، 209). يتقاطع جواب عبد الرحمن عن جواب بيجوفيتش؛ إذ يقول: ”نجد في واقعنا مسلمين لم يتحقق فيهم شرط الأخلاق المستمدة من دينهم، بينما نجد آخرين غير مسلمين تحققوا بشرط الأخلاق، ولو أنهم فصلوها عن الدين، وهذا لا يعني أن القيم التي عمل بها هؤلاء ليست مأخوذة من الدين، وإنما تمت علمنتها وعقلنتها، بل أرخنتها، لتصبح صفات جزئية انتهى المحدثون بحصرها في مجال الحياة الخاصة للأفراد“ (عبد الرحمن 2013، 59)، بحيث يبقى أن الأصل في القيم الأخلاقية هو النص الديني، ويرجع السبب في ذلك عنده إلى ”أن القيم الأخلاقية ليست مُثلاً تجرد من الوقائع الخارجية كما تجرد الكليات من الجزئيات“ (عبد الرحمن 2013، 59).‎

وخلاصة القول في هذا المحور أن الدين عند بيجوفيتش وعبد الرحمن، هو المنبع الأصلي للقيم الأخلاقية، فلا أخلاق بدون دين، فعلى الرغم من أن الأخلاق مبثوثة في الفطرة بواسطة النفخة الروحية الإلهية، يبقى الدين من الخارج هو المرجع الفاصل بين الخير والشر، والحسن والقبح، والمبين لكيفية تنزيل هذه القيم في الواقع الإنساني، والمرشد للإنسان إلى أنجع الوسائل العملية للتحقق القلبي بهذه القيم.‎

5‎ -الأخلاق الحداثية وتهافت الأسس‎

إن رد الأخلاق إلى الدين عند الفيلسوفين يجعلهما في خصومة فلسفية صريحة مع جواب عقل الحداثة الغربية عن سؤال الأخلاق، ذلك لأن هذا الجواب كان جوابا منفصلا عن الحقيقة الدينية من جهة أسسه النظرية ومنطلقاته الفلسفية، فبسبب الخصومة الفكرية التي دخل فيها عقل الفكر الحداثي الغربي مع الفكر الديني، اتجه معظم مفكري الحداثة الغربية وفلاسفتها البارزين إلى الدخول في تأسيس الأخلاق على مقتضيات غير دينية، أي الرجوع بها إلى أصول ومبادئ توجد في هذا العالم المرئي، أو إن شئت قل تنتمي إلى عالم الإنسان المحايث، ويزعمون أنه بمقدور العقل معرفتها واكتشافها، مع اختلافهم في هذه الأصول والمبادئ بحسب الاختلاف في المنطلقات والمرجعيات الفكرية، غير أن قول الفلاسفة الغربيين بإمكان تأسيس الأخلاق على أسس غير دينية لا يعدو، في نظر الفيلسوفين، أن يكون مجرد ادعاء يبطله واقع الممارسة الفلسفية الغربية في مجال الأخلاق، إذ أفضت هذه الممارسة بأصحابها إما إلى الوقوع في الاقتباس من الدين مباشرة والتستر على هذا الاقتباس بواسطة مقولات عقلية، وإما إلى السقوط في ضرب من الفوضى الأخلاقية التي لا يقبل بها من كانت عنده مسكة عقل.‎

1- هيوم وكانط والاقتباس الخفي من الدين‎

لا يبرز الاقتباس من الدين في الفكر الأخلاقي الحداثي الغربي مثلما يبرز في جهود فيلسوفين غربيين بارزين: وهما ”ديفيد هيوم“ (ت. 1776م) و”إيمانويل كانط“ (ت. 1804م).‎

ذهب ”ديفيد هيوم“ إلى أن الأصل في نسبة قيم الخير والشر إلى الأفعال الإنسانية يوجد في الوجدان الإنساني، ويتمثل في ”الحس، أو الشعور، الداخلي المشترك بين الناس“، فبفضل هذا الحس الداخلي المباشر نحكم على أفعالنا بالحسن متى وجدنا منها لذة وبالقبح متى وجدنا منها ألمًا. ويتميز هذا الحس الداخلي بالخصائص الآتية:‎

  • أنه مباين للعقل من جهة أن العقل لا يدخل في التحسين والتقبيح.‎
  • أنه عبارة عن إدراك وجداني طبيعي لا صناعة معه، وعفوي لا تكلف فيه.‎
  • أنه بمثابة ذوق مشترك بين الناس جميعا، فيكون في جانب منه تجربة جمالية (مدين 2009، 111–120).‎

وفي نظر عبد الرحمن، إذا نحن تأملنا هذه الخصائص بعمق تبين أن هذه الصفات تطابق السمات التي اختص بها ما أسماه الدين باسم ”الفطرة“، فالفطرة، إجمالا، عبارة عن شعور أخلاقي يولد به الإنسان في كمال خلقته، ولا بد لشعور هذه حقيقته أن يكون تلقائيا، لأن الإنسان مخلوق به، وأن يكون جماليا لكمال هذا الخلق، وأن يكون عمليا لتعلقه بأفعاله (عبد الرحمن 2005، 45–46). وفي هذه الحالة لا يسعنا، في نظر عبد الرحمن، إلا واحد من أمرين: إما أن مفهوم ”الحس الأخلاقي“ هو نقل مقصود لمفهوم ”الفطرة“، وإما أنه ليس نقلا مقصودا. فعلى مقتضى الافتراض الأول، يجوز القول إن ”هيوم“ وقف على معنى ”الفطرة“ في النصوص الدينية، فعمد إلى نقله مخرجا معناه عن وصفه الديني باختيار اسم له يصرف عنه كل دلالة غيبية ويناسب توجهه الحسي التجريبي، في إطار ”العلمنة“ الذي عرف انطلاقته في عصره، وفي هذه الحالة يكون ”هيوم“ قد اقتبس من الدين الأصل المباشر الذي أقام عليه نظريته في الأخلاق.‎

أما على مقتضى الافتراض الثاني، يجوز القول إن ديفيد هيوم لم ينقل مفهوم الحس الاخلاقي من الدين، و إنما ظفر به في نصوص الفلاسفة الذين تولوا الرد على الفلسفة الأخلاقية القائلة بأن الدافع الوحيد للأفعال الإنسانية هو حب الذات والمصلحة الشخصية،3 خاصة نصوص الفيلسوف جوزيف باتلر (1752م) الذي تكلم في الحس المشترك الأخلاقي وتأثيره في توجيه أفعال الإنسان، وكان هيوم شديد الاعجاب بهذا الفيلسوف، حتى إنه أشاد به في كتابه ”رسالة في الطبيعة البشرية“، ومعلوم أن جوزيف باتلر كان فيلسوفا ورجل دين، يقضي جل وقته للعمل بالكنيسة، وألف أهم كتبه للدفاع عن الوحي الإلهي الأرثوذكسي المسيحي، ويجوز أن يكون مفهوم ”الشعور الأخلاقي“ أحد المفاهيم التي استوحاها من النصوص الدينية، بحيث يكون نقلا فلسفيًّا لمعنى الفطرة، وفي هذه الحالة يكون ”ديفيد هيوم“ قد استمد مفهوم الحس المشترك الأخلاقي من الدين بطريقة غير مباشرة.‎

أما كانط فقد ذهب إلى أن الأخلاق ”لا تحتاج إلى فكرة كائن مختلف وأعلى من الإنسان، ولا إلى الدين لكي يعرف الإنسان واجبه، وإنما تجد أساسها في الإنسان نفسه“ (كانط 2012، 45 وما بعدها)، وعلى وجه الدقة، في الإرادة التي تخضع لمقتضيات العقل الخالص، فلمعرفة خيرية فعل من الأفعال لا نحتاج فيه إلى الرجوع إلى كائن أعلى وأسمى من الإنسان، ولا إلى توجيهات دينية، ولا إلى آثار هذا الفعل علينا ونتائجه، ولا إلى الشعور الوجداني، وإنما نحتاج إلى أن تكون الإرادة التي صدر عنها إرادة خيرة، ولا تكون الإرادة خيرة إلا إذا عملت بمقتضى الواجب الذي يمليه العقل الخالص، ومن أجل الواجب ذاته، وفق القانون الأخلاقي بشروطه وقواعده، وهذه الشروط والقواعد هي:‎

أ. ينبغي للواجب الأخلاقي أن يكون له طابع الشمول، بحيث ينطبق على جميع الكائنات العاقلة (افعل كما لو كانت قاعدة فعلك يجب أن تقيمها إرادتك قانونا كليا للطبيعة).‎

ب . لابد للإرادة أن تتصرف تحت الشمول الذي يأمر به القانون الأخلاقي.‎

ج . تصرف بحيث تعامل الإنسانية غاية وليس وسيلة (كانط 1970، 108–125).‎

هذا تصور موجز جدا عن نظرة كانط إلى المشكلة الأخلاقية، وفي نظر عبد الرحمن، عند التأمل العميق في نظرية كانط الأخلاقية وفي علاقتها بالدين، نتبين أن كانط اقتبس معظم جهازه المفهومي من الدين، مع التستر على هذا الاقتباس باستبدال المصطلحات الدينية بمصطلحات عقلية، وسلك في هذا الاقتباس طريقين اثنين:‎

الأول: طريق المبادلة، ويتمثل في اعتماد كانط بدل المقولات المعروفة في الأخلاق الدينية مقولات أخلاقية مقابلة لها، غير معروفة بنفس الاستخدام النظري في هذه الأخلاق، والجدول أسفله يوضح نماذج من هذه المبادلة:

صورة مقال سؤال الأخلاق بين الدين والعقل المجرد‎
صورة مقال سؤال الأخلاق بين الدين والعقل المجرد‎

والثاني: طريق المقايسة، ويتجلى في أن كانط كان يقدر أحكامه الأخلاقية على مثال الأحكام التي تأخذ بها الأخلاقية الدينية، والجدول أسفله يوضح بعض الأمثلة.

صورة مقال سؤال الأخلاق بين الدين والعقل المجرد‎
صورة مقال سؤال الأخلاق بين الدين والعقل المجرد‎

هكذا يتضح أن كانط كان متأثرا بالدين، حتى إنه ”لا مجال للشك في أنه أقام نظريته الأخلاقية العلمانية على قواعد دينية مع إدخال الصنعة عليها، حيث استبدل الإنسان مكان الإله مع قياس أحكامه على أحكامه“ (عبد الرحمن 2005، 40).‎

ولعل هذا الوقوع في الاقتباس من الدين يؤكد من الناحية الفلسفية بما لا يدع مجالا للشك، أن العقلانية الإنسانية عاجزة، وستظل عاجزة، عن الوصول إلى الحقائق الأخلاقية وأمهات القيم الفضلى من غير طريق الدين، فالعقل، كما يرى بيجوفيتش، ”يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، لكن لا يستطيع أن يصدر حكما قيميا عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي“ (بيجوفيتش 1993، 186)، ولعل هذا ما يجعل بيجوفيتش يجزم بأنه ”لا يمكن بناء الأخلاق إلا على الدين“ (بيجوفيتش 1993، 193)، ذلك لأن ”القيم التي تسمو بالحياة الحيوانية إلى مستوى الحياة الإنسانية تبقى مجهولة وغير مفهومة بدون الدين“ (بيجوفيتش 1993، 191)، والسبب هو أن ”لغز الإنسانية قد بدأ في لحظة الخلق، تلك المقدمة السماوية أو الفعل الإلهي الذي سبق تاريخ الإنسانية كله، وليس في مقدور العلم أو العقل أو الخبرة في حد ذاتها أن تساعدنا على في الاقتراب أو الفهم الأفضل لهذه الأمور كلها“ (بيجوفيتش1993، 222).‎

2-‎‎ نيتشه ونهاية الأخلاق‎

لقد أدى البحث عن أصل الأخلاق ببعض الفلاسفة الغربيين، إلى الوصول إلى نتاج ومواقف تنقض الأخلاق من جذورها، وتأذن بنهايتها، ويعتبر الفيلسوف الألماني نيتشه (1900م) الشاهد الأمثل على هذا النوع من الفلاسفة، فقد تجسدت في فلسفته الأخلاقية الفوضوية كل معاني انحطاط الأخلاق وأفول بريقها، فلقد ذهب إلى أن معيار القيم الخلقية ليس الإرادة الخيرة كما تصور كانط و لا ”الحس المشترك“ كما قال هيوم، ولا الدين كما يعتقد رجال الدين، و إنما هو ”إرادة القوة“، سواء كانت هذه القوة مادية أم عقلية، فقيمة الخير أو الشر التي ننسبها إلى أفعالنا تقف وراءها الرغبة في الحصول على القوة، فكل فعل من الأفعال التي تشعرنا بالقوة و التفوق والانتصار يكون فعلا حسنا، و العكس بالعكس، كل فعل من أفعالنا التي تشعرنا بفقدان القوة والتفوق يكون فعلا قبيحا، يقول: ”ما الخير؟ هو كل ما يعلي في الإنسان شعور القوة وإرادة القوة والقوة نفسها، وما الشر؟ هو كل ما ينشأ عن الضعف. وما السعادة؟ هو الشعور بأن القوة تنمو، وبأن مقاومة ما قد قضي عليها“ (إبراهيم 2005، 258)، وعلى هذا الأساس، أي إرادة القوة، فسر تاريخ الأخلاق، بحيث يذهب إلى أن الأخلاق الموجودة في الدين المسيحي ليست سوى أوصاف من ابتكار الضعفاء، أو قل العبيد، في مواجهة الأقوياء، أو الأسياد، يقول: ”الحكم: ”حسن“، لا يصدر بتاتا عن أولئك الذين تمت معاملتهم بالحسنى، بل الصالحون أنفسهم هم الذين حكموا على أعمالهم بأنها حسنة، أي بمقابلتها بكل ما هو سافل وحقير وعامي ورعاعي، من أعلى هذا الإحساس بالفارق ”يحق ابتكار القيم وتسميتها … أكرر أن الإحساس بالفارق والتميز، هذا الإحساس الشامل الجوهري الدائم والمهيمن الذي تشعر به فئة أعلى، فئة حاكمة تجاه فئة أدنى، اتجاه من هم في الحضيض، هو أصل التضاد بين الحسن والقبيح“ (نيتشه 2006، 20–21). إن الوجود عند ”نيتشه“ ليس إلا الحياة، وليست الحياة إلا إرادة، وليست الإرادة إلا إرادة القوة، إن الحياة لا تستطيع وفق نيتشه أن تحيا إلا على حساب حياة أخرى، لأن الحياة هي النمو وهي الرغبة في الاقتناء، والزيادة فيه، وما دامت كذلك فهي إرادة سيطرة واستيلاء وتملك وتسلط وخضوع، أنى توجهت فلن تجد غير إرادة القوة، فهي الدافع الحقيقي في النفس، وهي العامل الجوهري في الدولة والجماعة، فهي سر الوجود عنده، لذا يجب بناء المستقبل على أساسها (بدوي 1965، 2017–2018). إن الأخلاق عند نيتشه ينبغي أن تكون لا ضد الطبيعة وإنما مع الطبيعة، فكل ما يمنع الإنسان من التمتع بالحياة وفق الطبيعة لا يعتبر أخلاقيا، يجب على الإنسان أن يتغلب على القيم الدينية المزيفة، يجب عليه أن ”يتخلص من الضمير والشفقة والرحمة، تلك المشاعر التي تطغى على حياة الإنسان الباطنية … اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم“ (بيجوفيتش 1993، 195).‎

وإذا تأملنا بعمق هذا التصور النيتشوي، نجد أن تأثير الفكر الدارويني على نيتشه كان حاضرا وبمقدار كبير، فقد كانت نتائج أبحاث داروين في مجال البيولوجيا حاضرة بقوة في هذا التصور، فأطروحة داروين في الصراع من أجل البقاء، كما يقول بيجوفيتش، ”لا يفوز الأفضل (بالمعنى الأخلاقي)، وإنما الأقوى والأفضل تكيفا هو الذي يفوز“ (بيجوفيتش 1993، 195). لقد أقام نيتشه دراسته للأخلاق على هذا الأساس الدارويني، بحيث تصبح الأخلاق معه—بحسب بيجوفيتش—مجرد تطبيق لقوانين البيولوجيا ونتائجها على المجتمع الإنساني، وكانت النتيجة نبذ الحب والرحمة وتبرير العنف والكراهية (بيجوفيتش 1993، 196)، ذلك لأن التقدم البيولوجي، في نظر بيجوفيتش، على كونه يمد الإنسان بمجموعة من الحقائق العلمية التاريخية التي تخص الأطوار البيولوجية التي تقلبت فيها الكائنات الحية والإنسان، لا يمكن أن يمدنا بقيم أخلاقية انطلاقا من هذه الحقائق، لأن هذه الحقائق تبقى من قبيل الوجود لا من قبيل الواجب، أو قل ما يجب، فـ”إنسان داروين قد يصل إلى أعلى درجات الكمال البيولوجي (السوبرمان) أو الإنسان الأعلى، ولكنه يظل محروما من الصفات الإنسانية، ومن ثم محروما من السمو الإنساني، فالسمو الإنساني لا يكون إلا هبة من الله“ (بيجوفيتش 1993، 195)، ولا يخفى أن هذا التصور النيتشوي للأخلاق لا يعبر إلا عن إفلاس أخلاقي حقيقي أصاب حضارة الحداثة الغربية في الصميم، تصور، باسم فلسفة الأخلاق، خرج من الأخلاق بالمرة ليحل محلها قانون الغاب، أو قانون البيولوجيا، الذي لا يعرف معاني الرحمة والشفقة والمحبة والإحسان … وإنما يحكمه قانون حفظ البقاء، حتى إن المرء إذا تأمل في العنصرية النازية تبدو له، بتعبير بيجوفيتش، كأنها خرجت من عباءة داروين ونيتشه (بيجوفيتش 2016، 224). وعلى هذا يمكن اعتبار فلسفة نيتشه الأخلاقية علامة كبرى على بداية أفول المشروع الحداثي الغربي ونكسته الأخلاقية، على اعتبار أن بقاء الإنسانية متوقف لا على قانون حفظ البقاء وإنما على قانون حفظ الأخلاق.‎

وخلاصة هذا المحور أن بيجوفيتش و عبد الرحمن يريان أن أي محاولة لبناء الأخلاق على غير الدين تنتهي بأمرين اثنين لا ثالث لهما، إما الوصول إلى حقائق أخلاقية مقطوعة في الظاهر عن الدين، لكن في الجوهر ذات أصول دينية تستر عليها فلاسفة الغرب لأسباب تاريخية واجتماعية، وإما الخروج بأفكار في الأخلاق هي عبارة عن خروج صريح من الأخلاق باسم فلسفة الأخلاق، وهذا كله يؤكد بالقطع أن الأخلاق ليست قيما من عطاء الأرض وإنما هي قيم نزلت من السماء، أو هبة من الله تعالى لعباده رحمة منه وعدلا.‎

6‎ – عَمَه العقل المجرد والحاجة إلى الأخلاق الإلهية‎

بدأ مشروع عقل الحداثة الغربية بتبشير الإنسان الغربي بمزيد من السعادة والأمن والرخاء، لكن هذا المشروع، على كونه حقق تقدما كبيرا وإنجازات مدهشة على المستوى الحضاري المادي، لم يستطع أن يجعل الإنسان الحداثي الغربي يشعر بالسعادة في نمط حياته والرضا عن وضعه الوجودي، بل على العكس من ذلك، فقد أدى هذا المشروع، مع مرور الزمن، إلى إنتاج إنسان متشرد وجوديا، فعلى المستوى الاجتماعي تشير الاحصائيات إلى ارتفاع معدلات الانتحار والأمراض العصابية النفسية، وازدياد نسب الجرائم والإقبال على المخدرات والكحول، وانخفاض الشعور بالطمأنينة والأمن لدى المواطنين، أما على المستوى الأدبي فـ”تشير الفنون إلى الضياع الإنساني، والبؤس الفكري والأخلاقي، والعنف، والوحشية، والخواء النفسي في قلب الثراء والقوة للعالم المتقدم، يكتشف المسرح إنسانا يائسا عنيفا تطوقه النفس اللوامة“ (بيجوفيتش 1993، 128)، وعلى المستوى الفلسفي ظهرت الفلسفة العدمية والتشاؤمية التي ترى أن مصير الإنسان مصير مأساوي لا أمل فيه، وأن النتيجة النهائية لجميع مساعي الإنسان والوجود الإنساني بأسره ظلام وضياع (بيجوفيتش 1993، 127)، حتى أصبح التقدم الذي أحرزته الحداثة الغربية، وتحرزه، على المستوى الحضاري المادي، يبدو كما لو كان محكوما بقاعدة ”المعاملة بنقيض المقصود“، بحيث بدل أن يعود هذا التقدم المادي والرفاه الاقتصادي على الإنسان بالشعور بالسعادة، يعود عليه، بخلاف ذلك، بالشعور بالفراغ الروحي والقلق النفسي والغربة والاستلاب … حتى أصبحت ”الرفاهية تبدو في الصورة البرانية، والعبثية هي الصورة الجوانية للحياة“ (بيجوفيتش 1993، 127).‎

والأسئلة الملقاة على الإنسانية اليوم في نظر بيجوفيتش إزاء هذه الحقيقة التاريخية، هي: ما سبب عمه أو انتكاس الحداثة؟ أين يوجد العطب؟ وكيف يمكن تجاوز هذا الوضع؟‎

إن سبب عمه أو انتكاس الحداثة الغربية يتمثل، عند بيجوفيتش، في الإخلال بأهم خاصية يتحدد بها الإنسان، وهي ”وحدة ثنائية القطب،“ أي ثنائية الجسد/الروح، أو بتعبيره الحضارة/الثقافة، أو الحضارة/الدين، إن مظاهر البؤس والشقاء والتعاسة التي يعيشها الإنسان الحداثي الغربي راجعة، بالأساس، إلى إخلال الحداثة الغربية بتوازن الإنسان المادي/الروحي، إذ قامت بتقوية جانب المادة، أو الحضارة، على حساب تفقير جانب الروح، أو الدين، فأنتجت لنا إنسانا غربيا ماديًّا غريزيًّا يعيش صراعًا داخليًّا بين القيم الفطرة الروحية والقيم النفسية المادية، أو قل يعيش ”صراعا داخليا بين المثل العليا المسيحية والنماذج السياسية للمجتمع الذي تطورت فيه منفصلة مستقلة عن هذه المثل العليا … الكنيسة ترعى الروح، والدولة تتحكم في الأجساد وفقا للمسلمة القائلة: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لقد سمح للإنسان الغربي أن يكون مسيحيا في حياته الخاصة، وأن يكون مكيافيليا في معاملاته العامة وأعماله“ (بيجوفيتش 1993، 316–317)، وفي هذا النمط من الحياة القائم على خصخصة القيم الروحية والخلقية وعوممة القيم المادية والدنيوية، لا نستغرب أن تظهر الفلسفة العدمية والتشاؤمية التي تشكو في ظاهرها من غياب المعنى والغاية، ولكن في العمق يمكن اعتبارها، في نظر بيجوفيتش، ضربًا من ضروب الاحتجاج على غياب المعنى وأفول الغايات ونهاية الأسرار الوجودية، وبتعبيره ”ليست إنكارا للألوهية ولكنها احتجاج على غيابها“ (بيجوفيتش 1993، 130)، فالفلسفة العدمية، في عمقها، عبارة عن بحث ديني عن المعنى والغاية بطريقة غير مباشرة، فهي عبارة عن ”رفض الهدف الدنيوي للحياة الإنسانية، أو رفض الوظيفة الدنيوية“ (بيجوفيتش 1993، 131)، صحيح أنها لا تتحدث بطريق مباشر عن الدين أو الحاجة إلى الدين، ولكنها ”تعبر بوضح عن الاعتقاد بأن الإنسان والعالم ليسا مصنوعين بالمعيار نفسه، إنها تعبر عن القلق، والقلق بجميع درجاته هو قلق ديني“ (بيجوفيتش 1993، 131) والفرق بين البحث الديني الخالص والبحث الديني الذي تنطوي عليه العدمية، هو أن ”الإنسان—وفق التصور الفلسفي العدمي—في هذا العالم كائن غريب وضائع بلا أمل، أما في الدين فهناك أمل في الخلاص“ (بيجوفيتش 1993، 131).‎

لا يمكن، في نظر بيجوفيتش، الخروج من هذا الوضع الحداثي المنتكس إذا سلكنا سبيل الحضارة، لأن الحضارة، باعتبارها تعبيرا عن علاقة الإنسان بالطبيعة والأشياء من حولنا، ”أبعد من أن تمنح لحياتنا معنى، إنما في الحقيقة جزء من الهراء في وجودنا … ومن المستحيل أن نجد في هذه الحضارة ــ إذا اعتمدنا عليها وحدها ــ أي قوى يمكن أن تحارب هذا البلاء، بل أكثر من هذا إذا اقتصرنا على سلم القيم السائدة في هذه الحضارة، فلن تجد قيمة أخلاقية واحدة يمكن أن تسد الطريق أمام غزو الإباحية أو تقاوم انتشار الخمور … إن الحضارة لا يمكن دحضها من داخلها، وإنما فقط من خارجها، أعني بواسطة الثقافة“ (بيجوفيتش 1993، 124–126)، ذلك لأن الثقافة، على عكس الحضارة لا تغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب الحياة الجوانية ولا تدفعه إلى الاستغراق في الحاجات والرغبات، وإنما تميل، وفقا لطبيعتها الدينية، إلى التقليل من احتياجات الإنسان أو الحد من درجة إشباعها، وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الجوانية الإنسانية (بيجوفيتش 1993، 96)، وعلى هذا يصبح السبيل الوحيد لإصلاح ما أفسدته الحداثة الغربية هو إعادة التوازن إلى وحدة الإنسان، أي وصل المادي بالروحي، أو وصل الحضارة المادية بالروح الدينية، أو وصل العقل بالوحي الإلهي المنزل، بحيث يكون الجانب المادي تابعا للجانب الروحي، فلا يسمح بالانغماس في الحضارة إلا بالقدر الذي لا يخل بحاجات الروح، على اعتبار أن ”الإنسان مخلوق ذو طبيعة مزدوجة، جسد وروح، والجسد ما هو إلا حامل الروح، هذا الحامل مر بمراحل نمو، ومن ثم فله تاريخ، بينما الروح لا تاريخ لها، فهي نفخة من روح الله الجسد يخضع للعلم، أما الروح فتخضع للفن والأخلاق“ (بيجوفيتش 2016، 209)، فلابد إذن، وفق تصور بيجوفيتش، من تنشئة إنسانية جديدة، إنسانية تأخذ موقعا وجوديا جديدا في هذا العالم، وليس هذا الموقع سوى الوسطية الأخلاقية، وسطية تجمع بين الباطن والظاهر، أو بين الروح والجسد، أو بين الدنيا والآخرة، فكل ”قدر الإنسان على هذه الأرض، أن يأخذ موقعا بين هاتين الحقيقتين المتضادتين“ (بيجوفيتش 1993، 318)، وفي نظر بيجوفيتش، لا دين يقدر على الوفاء بهذه الوسطية الوجودية مثلما يقدر الإسلام، لأنه يعترف بالثنائية في طبيعة الإنسان، إذ هو دعوة لحياة مادية روحية معا (بيجوفيتش 1993، 318).‎

يتقاطع عبد الرحمن مع بيجوفيتش في هذه النظرة التقويمية للحداثة الغربية، فلقد ذهب إلى أن الحداثة الغربية حداثة أحادية البعد الوجودي، وتتمثل هذه الأحادية في البعد المادي الدنياني فقط، فلا أحد ينكر أن الحداثة الغربية قد حققت تقدما كبيرا وفتوحات عظيمة في المجال التقني والعلمي والاقتصادي، كما أطلقت العنان لحرية إنشاء الحاجات والرغبات في مجال الماديات والشهوات، حتى غدا شعارها هو ”أنت تستهلك إذن أنت موجود“، لكن بالمقابل ينبغي أن نعترف بأن هذا التقدم الهائل في القوة المادية قد ”ورث أهل الغرب ضعفا روحيا فاحشا على قدر هذه القوة المادية الساحقة“ (عبد الرحمن 2006، 57). إن الحداثة الغربية، عند عبد الرحمن، حداثة معوقة تمشي على رجل واحدة، لأن التقدم المادي الذي أحرزته في مختلف المجالات الإنسانية الدنيوية ليس إلا واحدا من عمودين اثنين تقوم عليهما الحداثة الإنسانية الحقة، أما العمود الثاني فهو ”الحداثة الروحية“ (عبد الرحمن 2006، 58)، وعلى هذا فالإنسانية اليوم مطالبة بمداواة هذه الإعاقة، وذلك بمراجعة مسار الحداثة الغربية، بل تقويم هذا المسار. و هذا الدواء، عند عبد الرحمن، يتمثل في تخليق الحداثة الغربية، أي إعادة وصل الحداثة المادية بالحداثة الروحية، أو الخلقية، بحيث يكون التحديث المادي مؤسسا على التحديث الروحي، أو الخلقي، وموجها به، حتى تكون مستوعبة للإنسان في كليته وجمعيته، أو قل طبيعته المزدوجة، وهي طبيعة ليست مادية فقط كما تدعي الحداثة الغربية اليوم، وإنما طبيعة مادية روحية، فعلى الواقع الحداثي الغربي اليوم ”أن يستوعب روح الإنسان كما يستوعب جسمه، فينهض بحاجات روحه كما نهض بحاجات جسمه“، بل يجب ”أن تكون تلبية الحاجات المادية موقوفة على تلبية الحاجات الروحية“ (عبد الرحمن 2006، 58)، وهذا التصور لتقويم الحداثة الغربية يقوم على مسلمة دينية راسخة، وهي أن ”جسمانية الإنسان تابعة لروحانيته“ (عبد الرحمن 2006، 58)، وفي سياق هذا التقويم نتساءل: أي أخلاق قادرة على تصحيح مسار الحداثة الكونية المزعومة اليوم؟‎

في نظر عبد الرحمن، لا يمكن تصحيح الحداثة الغربية بأخلاق من إنتاج هذه الحداثة نفسها، وهي أخلاق ذات طبيعة أنانية ومصلحية تكرس التعلق بالماديات، لأن هذه الأخلاق هي التي كانت سببا في انحراف الحداثة الغربية عن مسارها الصحيح، وإنما المطلوب هو البحث عن أخلاق أخرى تكون قادرة على تقويم اعوجاج الحداثة الغربية ودرء آفاتها المدمرة، وفي نظره لا أخلاق قادرة على هذا التقويم سوى أخلاق الدين الإلهي المنزل، وبالذات أخلاق الإسلام، فالأخلاق التي تقدر على قهر آفات الحداثة الغربية هي أخلاق ”دين الإسلام“(عبد الرحمن 2006، 87)، لأنه ”الدين الخاتم“ (عبد الرحمن 2006، 88)، ومقتضى هذه الخاتمية هو أنه—يعني الدين—اجتمعت فيه جميع القيم الأخلاقية التي جاءت بها الرسالات السماوية السابقة وزاد عليها بقيم جديدة تحقيقا لمزيد من تقدم الإنسانية في سلم القيم الخلقية السنية.‎

وخلاصة هذا المحور أن بيجوفيتش وعبد الرحمن، يريان أن الحداثة الغربية قد انقلبت على الإنسان بآفات مدمرة، وأصبحت تهدد ليس كيانه فحسب، بل وجوده في هذا العالم، ولا سبيل إلى درء هذه الآفات والخروج من هذا الوضع المقلق إلا إعادة الاعتبار للجانب الروحي في الإنسان، وذلك بالرجوع إلى أخلاق الدين الإلهي المنزل، فهي الوحيدة التي بمقدورها النهوض بإنسانية الإنسان المفقودة.‎

والحاصل من هذا المقال كله، أن بيجوفيتش وعبد الرحمن، يريان أن عقل الحداثة الغربية أفلس في مجال الأخلاق أيما إفلاس، ففشل في إخراج إنسان آدمي، بل، على العكس من ذلك، أخرج إنسانا ماديا متمردا على آدميته، وفاقدا لجوهره الإنساني، والسبب هو أن هذه العقل أخل، في مساره التحديثي، بحقيقة ازدواجة الوجود الإنساني، أو قل ثنائية الروح/المادة، إذ اكتفى بالجانب المادي من هذه الثنائية الوجودية، فأصبحت الحداثة، مع مرور الزمن، تبدو أشبه بحداثة الآلات منها بحداثة الإنسان الحقة، فلقد استطاع العقل الحداثي أن يحدث الأشياء التي تحيط بالإنسان، لكنه فشل فشلا ذريعا في تحديث هذا الإنسان، لقد كان تعريفه للإنسان تعريفا خاطئا، تعريفًا يحصره في جملة من العوامل الطبيعية أو الاقتصادية أو الجنسية، بينما الواقع أن الإنسان عبارة عن ذات واحدة، أو قل وحدة متسقة، تجتمع فيها الصفات المادية مع الصفات المعنوية، الروحية والوجدانية، وليس مجموعة من الأجزاء التي يمكن فصل بعضها عن بعض. وعلى هذا فلا سبيل إلى إصلاح أعطاب عقل الحداثة الغربية إلا سبيل الحداثة الدينية، أو قل الحداثة الروحية، فالإنسانية الحديثة اليوم تحتاج إلى جرعة روحية كبيرة، تكون بمقدار الجرعة المادية التي أنتجت هذه الحداثة، فلا يندفع الداء إلا بضده.‎

خاتمة‎

حاولت في هذا الفصل أن أوضح مجمل فلسفة بيغوفيتش في مقاربة سؤال الأخلاق في سياق الحداثة الغربية، وتقاطعها مع فلسفة طه عبد الرحمن، وفي نظري ما كان بالإمكان لهذا التقاطع أن يكون لولا أن الفيلسوفين يشتركان في التسليم بمبادئ ومقدمات، أبرزها ما يأتي:‎

  • الوحي الإلهي المنزل ليس تسلطا على الإنسان ولا تقييدا لحريته، كما ادعت الحداثة الغربية، وإنما هو تشريف للإنسان وتنوير له، وتوسيع لآفاق عقله وحريته، فالعقل الذي لا يفارق المحسوسات كلا عقل، كما أن الحرية التي لا تخرج عن دائرة الهوى كلا حرية.‎
  •  قيمة الفكر تتحدد بالاستقلال والإبداع، فـبيجوفيتش—مثل طه عبد الرحمن—على كونه ممن استوعب مختلف مدارس الفلسفية الغربية وتكون في مناهجها، بقي صامدا في وجه إغراءاتها، فلم تلتهمه في لحظة التكوين مثلما التهمت كثيرا من أقرانه من المفكرين المسلمين، بل كان على قناعة تامة بأن المنتوج الفلسفي الغربي مخصوص بالمجال التداولي الغربي لا يمكن تعميمه على الأمم الأخرى، لذا وجدناه يحرص أيما حرص على أن يكون جوابه على الإشكالات التي يطرحها سؤال الأخلاق جوابا استقلاليا، لا يقلد فيه لا المعسكر الغربي ولا المعسكر الشرقي.‎
  •  لا استقلال في فكرنا ما لم يلبس لباس المجال التداولي الإسلامي ومقتضياته الأخلاقية والمعرفية والعقدية، فـبيجوفيتش وعبد الرحمن، إنما يبنيان تصوراتهما وأفكارهما—فيما يقدمه من أجوبة فلسفية—على مسلمات المجال الإسلامي.‎
  • قصور العقلانية الغربية، فـبيجوفيتش يرى، كنظيره عبد الرحمن، أن العقلانية الغربية عقلانية قاصرة عن إدراك المعاني الغيبية والحقائق الإيمانية ومعاني القيم الأخلاقية السنية؛ لأنها عقلانية حسابية، أو قل أداتية، لا تصلح إلا لعقل الآلات والجمادات، ولا يمكن لها إدراك هذه المعاني والحقائق إلا بالانفتاح على عالم الروح، المتمثل في الحقيقة الدينية، فالدين هو الذي بمقدوره أن يكمل العقلانية المجردة ويمدها بآليات ووسائل إدراك هذه المعاني والحقائق.‎

لقد آن الأوان للمفكر المقلد اليوم أن يعيد النظر في ما يأخذه عن الغير من مفاهيم وتصورات لا تمت بصلة إلى مجاله التداولي ولا تجيب عن أسئلة الإنسان المسلم ولا تنهض بأوضاعه ولا تداوي همومه، بل أصبح من الواجب اليوم أن نستفيد من التجارب الفلسفية الإسلامية المعاصرة التي تقيدت بهموم الأمة، ورفضت الوصاية الفكرية، وسعت إلى إعادة الثقة للمسلم بتراثه، أمثال تجربة محمد إقبال، وبديع الزمان النورسي، وعلي عزت بيجوفيتش، وطه عبد الرحمن؛ لأن الاعتزاز بهذه التجارب، باعتبارها عطاءات فلسفية إسلامية صريحة، بإمكانه أن يجنبنا تكرار بعض الأخطاء الفكرية التي وقع فيها سلفنا الحديث، وأن يسهم في محاربة آفة التقليد والانبهار بحضارة اللوغوس.‎

( 1) الميثاق الأول قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأعراف، 172–173).‎

( 2) المعقلن هنا من العقلنة، والمراد بهذا الأخير في سياق الفلسة الغربية، هو إخضاع الأشياء، مادية كانت أم معنوية، لمقتضى النظر العقلي المجرد، أي النظر العقلي المنفصل عن الدين.‎

( 3) اشتهر بها الفيلسوفان ”هوبز“ و”مانديل.“


المصادر والمراجع‎ :

    إبراهيم، يسري. 2005. فلسفة الأخلاق:فريديريك نيتشه. بيروت: دار التنوير.‎

    بدوي، عبد الرحمن. 1965. نيتشه. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.‎

    بيجوفيتش، علي عزت. 1993. الإسلام بين الشرق والغرب. ترجمة محمد يوسف عدس. بيروت: مؤسسة العلم الحديث.‎

    بيجوفيتش، علي عزت. 2016. هروبي إلى الحرية. ترجمة محمد عبد الرؤوف. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر.‎

    عبد الرحمن، طه. 2013. الحوار أفقا للفكر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث.‎

    عبد الرحمن، طه. 2014. بؤس الدهرانية. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث.‎

    عبد الرحمن، طه. 2012. سؤال العمل. بيروت: المركز الثقافي العربي.‎

    عبد الرحمن، طه. 2006. روح الحداثة. بيروت: المركز الثقافي العربي.‎

    عبد الرحمن، طه. 2005. سؤال الاخلاق. بيروت: المركز الثقافي العربي.‎

    عبد الرحمن، طه. 2006. العمل الديني وتجديدي العقل. بيروت. المركز الثقافي العربي.‎

    كانط، إيمانويل. 2012. الدين في حدود العقل. ترجمة فتحي المسكيني. بيروت: جداول.‎

    كانط، إيمانويل. 1970. أسس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة محمد فتحي الشنيطي. القاهرة: دار النهضة العربية.‎

    مدين، محمد محمد. 2009. فلسفة هيوم الأخلاقية. مصر الجديدة: دار التنوير.‎

    المسيري، عبد الوهاب. 2007. الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان. دمشق: دار الفكر.‎

    نيتشه، فريديريك. 2006. جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.