من أمثال العرب قديماً “أنا النذير العريان”. وأصله أن الرجل إذا كان في الطليعة من قومه ورأى أمراً داهماً مما يوجب التحذير الفوري وأراد إنذار قومه بأسرع طريقة وبشكل لافت للانتباه ومشعر بجدية الأمر وخطورته نزع ثوبه ولوّح به؛ ليراه قومه من بعيد رجاء أن ينتبهوا ويتأهبوا قبل أن يباغتهم الخطر القادم.

وقد استشهد نبينا البشير النذير بهذا المثل في حديث صحيح إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم:  ” إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا [أي ساروا من الليل] فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق”.

ولا نجد أبلغ من هذا المثل استهلالاً لهذه الصيحات التحذيرية التي نطلقها في هذه الرسالة تنبيهاً لخطورة الحالة المتردية للتعليم النظامي والوضع المؤسف الذي آل إليه؛ لأن الأمر جلل بحق، وله آثار وخيمة بالفعل، ومنذر بعواقب أنكى متوقعة، ما لم تتضافر الجهود في السعي لتداركه بعزم وحزم وعلى الفور لا على التراخي.

قد يقول قائل: لماذا كل هذه المبالغة وهذا التهويل ونحن نرى تواصل زيادة أعداد الخريجين وحملة الشهادات التخصصية بمختلف المستويات في كل عام دراسي؟!

والجواب ينطق به الواقع التعليمي لو أرعينا السمع له من وراء الضجيج المشوش لحفلات الخريجين، ويشهد به الحال لو أبصرناه من وراء الغشاوة المضللة لأرقام الحاملين للشهادات الأكاديمية التي تمنحها مؤسساتنا التعليمية، وتؤكده نتائج اختبارات معيارية لمهارات التعلم الأساسية لو قرأناها بتجرد قراءة صحيحة.

ولتوضيح ما نرمي إليه؛ يجدر أن نؤكد هنا – بتصرف وزيادة توضيح وتصريح – ما أشرنا إليه في سلسلة مقالات نشرناها من قبل حوالي ست سنوات بعنوان “سرطان المؤسسات“..

يجدر أن نؤكد هنا أن هذه الصيحات التحذيرية  قائمة على واقع عشناه وخبرناه ومازلنا نعيشه، ولدينا عليه أدلة وشواهد عديدة ومتزايدة، وليست مبالغة ولا تهويلاً. فنحن في الواقع التدريسي الجامعي نشهد – كما يشهد غيرنا من الأساتذة في التدريس الجامعي والمدرسي كذلك – نشهد بأسى فئات كبيرة من الطلبة والطالبات لا يحسنون – بصراحة مريرة وبدون مبالغة – لا يحسنون القراءة الصحيحة والكتابة السليمة مع أنهما ألف باء التعلم، وبعضهم يلحن في تلاوة القرآن لحوناً جلية تغيّر المعاني، ولا يحفظ حتى سورة الفاتحة وقصار السور!

ورغم ذلك كله؛ نرى هؤلاء يتخرجون ويُمنحون شهادات تخصصية!! مما يدعونا لنتساءل بحيرة وأسى: كيف اجتاز هؤلاء الطلبة والطالبات – وهم بهذا المستوى التكويني الضحل – المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية ووصلوا إلى الجامعة، ثم كيف تخرجوا من الجامعة؟! كما أننا في الواقع الحياتي والوظيفي نتعامل ويتعامل غيرنا مع نماذج من تلك الفئات من “الخريجين” غير المؤهلين في ميادين مختلفة، فنرى العجب العجاب في أدائهم الوظيفي والحياتي، كما نجد العنت الشديد في التعامل معهم بسبب قلة وعيهم وبساطة تفكيرهم وضعف تكوينهم العلمي.

وبصراحة وأمانة؛ إن ما تعانيه مجتمعاتنا من “أنصاف المتعلمين” لا يقل شدة وخطراً مما تعانيه من الأميين بل هو أشد وأخطر. والسبب واضح وهو أن الأميين – وهم قلة قليلة – لا تؤهلهم أميتهم لتقلد المناصب التي تؤهلها شهادات “أنصاف المتعلمين”.

بالإضافة إلى أننا نشهد أن كثيراً من الأميين في مجتمعاتنا يتلقون تثقيفاً عبر ما يطرح في مجالس الوجهاء وأهل التجارب و”الشياب” من “سوالف” تتمتع في الغالب بدرجة ليست هينة من الوعي والعمق والحكمة والفائدة تفوق بمراحل الطرح التسطيحي السائد في مؤسساتنا التعليمية التي يتلقاها الطلبة. وهذه مفارقة لافتة تستحق أن تفرد بالدراسة.

وفي الحقيقة أن كثيراً من الخريجين ليسوا “أنصاف متعلمين” بل هم “أخماس أو أسداس أو أعشار متعلمين”، فهم في الواقع أقرب للجهل والأمية منهم للعلم والأهلية العلمية، مما يزيد الطين بلة.

ولا سيما مع استشراء ظاهرة الغش بمختلف صورها سواء حالاتها الفردية أو حالاتها المنظمة (عبر جهات ومكاتب تؤدي أعمال الطلبة بمقابل مادي، جهاراً نهاراً وبمرأى ومسمع من أولياء أمورهم، بل وبدعم وتأييد وتشجيع وسعي منهم، وهذه قضية أخلاقية خطيرة تستلزم بذاتها المعالجة) مما يعني أن كثيراً من الطلبة لا يؤدون بأنفسهم ما ينبغي أن يؤدوه من تكاليف تأهيلية وأنشطة تعليمية ومع ذلك يحصّلون درجاتها من غير أن يحصّلوا ثمارها التحصيلية، وهم رغم ذلك يتخرجون.

وكما نشهد في الواقع؛ هؤلاء الخريجين “الجهلة” “الغشاشين” مع ذلك قد يتقلدون مناصب حيوية في المجال التعليمي والتوجيهي والديني والإعلامي والقضائي والدبلوماسي والأمني والصحي والاقتصادي والهندسي وغيرها من المجالات الحساسة والأساسية لنهضة المجتمعات، وهي كلها مجالات تحتاج إلى تأهيلات عميقة وأمانة تخصصية يفتقر إليها هؤلاء، فيصبحون بذلك “رؤوساً جهالاً” كما حذر النبي في الحديث الصحيح، فيفتون بغير علم في مجالات اختصاصاتهم التي لا يشهد لهم بها إلا شهاداتهم المضللة، “فيضلون ويضللون”، ولا سيما مع عدم وجود وازع لهم من الأمانة التخصصية.

والحق أنه لولا الشهادات الممنوحة لهؤلاء لما استحقوا الألقاب التخصصية التي أصبحوا يحملونها، ولكن يحسبهم الجاهل متخصصين من التوهم والانخداع بشهاداتهم، وهنا مكمن الخطورة. إن من يحمل شهادة مدرب على السباحة وما هو بسباح ماهر قد يُغرق من يسلمون أنفسهم له ليدربهم. هذا مثال لخطورة حملة الشهادات التخصصية من غير استحقاق. إن هؤلاء قد يشكّلون خطراً على الأمن القومي في وطنهم مع تفاوت في درجة الخطورة حسب الوظائف التي سيشغلونها بشهاداتهم التي منحت لهم.

والحق يقال ولو كان مراً إن هذه الحالة من التأهيل الظاهري الخاوي أمية مبطنة يسهم أصحابها في ظاهرة البطالة المقنعة في المؤسسات التي يعملون فيها، ولا أدل على ذلك من أن أرباب العمل في عدد من المؤسسات يضطرون إلى توظيف آخرين مع أولئك ليسدوا عجزهم في أمور أساسية مثل كتابة التقارير بل حتى كتابة الرسائل. إن في ذلك – بصراحة مرة – خيانة للوطن بكامله. بل هو خيانة للدين كذلك، من حيث إن ضعف التعليم والتثقيف السطحي هو بوابة الانحراف والإلحاد.

وهذا ما يؤكده دارسو ظاهرة انتشار الإلحاد المعاصر في مجتمعاتنا. فكما لاحظ الأستاذ عبد الله العجيري في كتابه “ميليشيا الإلحاد“، وتحديداً في سياق الحديث عن أهم أسباب تأثر مجموعات شبابية خليجية بظاهرة الإلحاد الجديد المتمرد على القيم الدينية، أن “الانفتاح المعرفي الهائل، الذي يحقق: دورا تثقيفياً حقيقياً إلی حد ما، كما يخلق حالة من: وهم الثقافة أيضاً، فكثير من الشرائح الشبابية بات يتلقی معرفة أفقية سطحية في ملفات متعددة، ويحصل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي جرعات معلوماتية مخففة ومبعثرة، تخلق مع الوقت حالة: من الانتفاخ المعرفي الخاوي…» اهـ. وهذا أمر في غاية الخطورة.

وقد يقول قائل: هل اللوم على الخريجين أم المؤسسات التعليمية التي تقبلهم والتي تخرجهم بغير تأهيل حقيقي نوعي؟!

ونقول هذا سؤال مشروع وخطير ويجب أن يطرح ويناقش على مختلف الأصعدة بل يجدر أن يتحول إلى قضية وطنية. وحسبنا هنا أن ندق ناقوس الخطر ونطلق هذه الصيحات عسى أن تلفت عناية كل من يعنيه إنقاذ التعليم وأن تستحثهم للتحرك الجاد لإصلاحه، كل بحسب مسؤوليته وصلاحياته وقدراته.

آملين أن تصل هذه الصيحات التي أطلقناها إلى مبتغاها، وأن تعيها آذان واعية، وأن يستجاب لها بإطلاق حملة وطنية مخلصة لإنقاذ التعليم ابتداء بتشخيص أمين وسليم لحال التعليم وأسباب ترديه.

إن التشخيص السليم للعلل التي استشرت في التعليم هو مدخل المعالجة الصحيحة، فكما يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء؛ إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء، فكل داء حصل من سبب فدواؤه حل ذلك السبب ورفعه وإبطاله، ولا يبطل الشيء إلا بضده.

والتشخيص السليم لعلل التعليم يستلزم إشراك جميع شرائح الوطن وعدم الاقتصار على “خبراء” التعليم و”المتخصصين” في التربية، إذ التعليم قضية وطنية بالأساس. وهذا ما يؤكد عليه زعماء الإصلاح التربوي. وقد كان عميد التربية العربي د. عبد الله عبد الدايم – رحمه الله – ينادي بذلك منذ أكثر من خمسين سنة! حيث كان يقول ويؤكد على أن “الخطة التربوية ينبغي أن تكون في النهاية شيئاً من صنع المجتمع كله؛ تشترك فيه هيئاته ومنظماته المختلفة، ويسهم فيه سائر المعنيين بالتربية من آباء ومعلمين وطلاب ونقابيين واقتصاديين وسياسيين وسواهم، ولا يجوز أن تكون من عمل مكتب مستقل أو جهاز منعزل أو أفراد فنيين قلائل”.

إن حال التعليم الخطير الذي شخصنا أبرز ملامحه وآثاره يستلزم استنفار جميع شركاء المصلحة في التعليم، أي المجتمع بأسره، ليقوموا بتشخيص جذور أسباب هذا التردي المهول – بما في ذلك القرارات والسياسات التي أسهمت في هذا التردي – ومن ثم معالجتها معالجة جذرية.

فهلا تضافرنا للاستجابة لهذه الصيحات وتعاونا على القيام بفريضة إنقاذ سفينة التعليم قبل فوات الأوان؟