كانت قضية الإلحاد هامشيةً في التاريخ، ولم تتبن رسميا كباقي الأديان، إلا أنّ الحضارة الغربية المعاصرة نسفت هذه الحقيقة، ودعت إلى الإلحاد وتبنتها بصورة أو بأخرى، وبنت سلوكياتها على مبدأ المادية البحت، ومعاداة النظرة الغيبية والروحية، فهل بهذا أبعد الدين عن الحضارة الغربية نهائيا، أم وجِد نمط جديد من التدين بالجمع بين الإلحاد والدين؟

مفهوم الإلحاد وصوره

يكمن مفهوم الإلحاد في نفي دور الله في الكون والحياة بتفاصيل متنوعة، ومن صوره:

– نفي دور الله في الخلق: بعزو الموجودات إلى الصدفة أو إلى الطبيعة، وبتفسير الحياة بنظرية التطور والانفجار الكبير.

– إثبات العلة الأولى: وذلك بإثبات شيء يرجع إليه أصل الخلق والكون، دون تسميته إلهاً ومن غير أن توجه إليه أعمال العبادة، وأن وصفه بالخلق لا يشترط منه وقوع الخلق بالفعل والإرادة، ويعرف بـــ “الفيض”، و”العلة الأولى”، و”واجب الوجود.”

– إثبات وجود الله ونفي الحشر والبعث: وهذا مذهب عدد من الفلاسفة، وعرفوا في الخطاب القرآني بالدهريين، ولعل هذا هو النوع الوحيد من صور الإلحاد المذكور في الخطاب القرآني: “وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ” وهذه الآية تكررت بصيغ مختلفة ثلاث مرات في القرآن الكريم، ووقع جميع سياقاتها في إنكار البعث، وليس في إنكار وجود الله، وكان هذا النوع من العقيدة سائدا في الجاهلية، ويؤيده سبب نزول هذه الآيات. وكان الاعتقاد ذاته موجودا لدي (الصدوقيين Sadducees)، وهم طائفة من اليهود، ويؤمنون بالمبدأ ذاته كما  أشار الإنجيل .

– تقاس ديانة أهل الهند قاطبة على مقولة الصدوقيين، وبعض الفلاسفة، فهي تؤمن بالحياة الأبدية للروح، وبإنكار الحياة الآخرة، وإن كانوا لا ينكرون وجود الله.

– إثبات وجود الله، وقطع علاقته بإدارة الكون: فالسببية هي المحكمة، ويدخل في هذا أغلب النظريات الفلسفة الحديثة، على رأسها “العلمانية الشاملة” و”الحداثة” و”ما بعد الحداثة” و”الفلسفة الإنسانية” و”العقلانية، و”الليبرالية”..

فلسفة الإلحاد في الخطاب القرآني

جماع معنى (لحَد) ومشتقاته في العربية لغةً وفي الخطاب القرآني هو الميل. ويأتي بمعنى ترْك القصد (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، أو إخراج الشيء عما وضع له بسوء تفسير أو تأويل: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، وكذا الطعن: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا)، كما يرد بمعنى الإشارة إلى الشيء (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) ؛ يشيرون إليه. ومن جذوره الملتحد: ملجأ، واللحد القبر لكونه حفرة مائلة.

فلم يستخدم القرآن الكريم الإلحاد بمعناه القائم اليوم، ولا عرفته “الكتب المقدسة” الأخرى، والسبب هو عدم الحاجة إلى ذلك، لإيمان الناس قديما بوجود الله وأن له دورا كبيرا في إدارة الكون وتفسير الوجود. ويمكن إجمال أنماط الإلحاد في القرآن الكريم وفق الآتي:

– الله ليس خالق الكون فحسب، بل القائم عليه، وكل شيئ عنده بمقدار وهو عليم بكل شيء، فيجب الإيمان به وبالقدر، وبيوم الحشر.

– وتجب عبادته وحده، إذ بعبادته تتحسن حياة الخلق، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو الرازق، ويصنع الصانع وصنعته، وسر كل هذا هو الإيمان.

– والدعاء مخ العبادة، لأن الله هو الذي ينصر لا الأسلحة والاستراتيجيات، لأن الحضارة تبنى بالإيمان لا الخطط والمصانع والإدارة.

وغير هذه الأمور من مستلزمات الإلحاد، وإقصاء الله عن الحياة.

فلسفة الإلحاد في العصر الحديث ومظاهره

عقيدة الإلحاد في العصر الحديث تقوم على أغلب النقاط الخمس السابقة سردها في صور الإلحاد، ويرون أنه لا حاجة إلى الدين من أجل تفسير الظواهر الكونية أو لإدارة الحياة وفهمها، وأن العلم شرح كثيرا من المجهولات دون الالتفات إلى الدين، وتبعا لهذه الفلسفة يمكن توليد قيم أخلاقية وإيجاد السعادة والعدالة دون الحاجة إلى الفكر الديني. وتتضح لنا مظاهر الإلحاد في مجالات، منها:

في الثقافة والعلم: يقر كثيرون بانتفاء العلاقة بين الدين والخرافة والمعجزة، وبين لغة البحث العلمي، وإنما العلم بإدارك المجهول، فبالعلم يُعرف سر الزلازل والفياضانات وأوقاتها، وبه تصنع الأجهزة والأسلحة.

في السياسة: يدير الإنسان حياته بنفسه، بناء على ما يرى، لا بخبر خارجي.

في الاقتصاد: تشجيع العمل والكسب والتنافس الشريف، ومبدأ الربح هو قوام الفكر الاقتصادي القائم على نظرية الندرة والحاجة، يديره الإنسان لا الدين.

في الاجتماع: بناء العلاقات الإنسانية وسبل تنظيمها من معطيات الفكر الإنساني وفق الحاجة.

في الفن: يلاحظ أن الفن يركز على هذه المبادئ في منتجاتها، فالإنسان هو البطل، وبجهوده وتخطيطاته يغلب الشرير، دونما دعاء وصلاة وروحانيات، وإن احتاج أحيانا إلى رجل خارق يحل المشاكل دوما، يبقى أن الحل مادي محسوس لا غيبي.

في الدين: ومن أهم مظاهر الدين أن تدرس الأديان بعيون إلحادية؛ لا بوصفه حقيقة قائمة، بل لكونه إحدى الظواهر الآتية:

– الدين من صنع الإنسان: أنتجه خيال الإنسان وحالته النفسية (ودفيغ فويرباخ – Ludwig Feuerbach 1841) ورغم ذلك لا بد من دراسته.

– وجود الله حقيقة لكنه مات، وترك إدارة الحياة للناس. (نيتشة، Friedrich Nietzsche (1844-1900)

– ظاهرة من ظواهر الحياة: أوجد الإنسان الدين لإشباع حاجته لما كان بدائياً لا علم له (دوركايم)، ويحتاج الإنسان إلى الدين لتنظيم الحياة الاجتماعية ومراعاة الروابط الاجتماعية (ماكس ويبر)، والدين سبب للاضطرابات النفسية من خوف ورعب وحزن (سيجموند فرويد)..

ظاهرة الإلحاد: خطابُ ما قبل “الدين والتدين

لا يمكن الحديث عن التدين بدون الإقرار بالدين، وإذا ما تم تعريف الدين بأنه يتمحور حول الإيمان بالخالق، يصنف الإلحاد حينئذٍ خارج مسمى الدين، وتكون ظاهرة الإلحاد؛ خطابَ ما قبل “الدين والتدين.” أما إذا ما تم تعريف الدين بأنه يتمحور حول عقيدة ما فإن الإلحاد يصنف بأنه دين، ويكون التدين ما يتبع ذاك الاعتقاد من الصور والمظاهر السابقة.

أخيرا، هناك دين يؤمن بغياب دور الله في الكون خلقا ومراقبة ومحاسبة (إلحاد)، وهناك أديان تتمحور حول الإيمان بالله (الأديان المعروفة)، من هذه الأديان ما يؤمن بأكثر من إلـه، ومنها ما يؤمن بإله واحد، ويمتاز الإسلام عن هذه الأديان بدعوة التوحيد الخالص. والناس مصنفون في الإسلام إلى: مسلم، وكافر، ومنافق. المسلم من آمن بعقيدة الإسلام وعاش طبقا لذلك، والكافر من أنكر عقيدة الإسلام، والكفر أصناف، إلحاد، وشرك، وديانة أهل كتاب، وأما من يخالف معتقده ظاهره فسمي منافقا