اقرأ أيضا:
وفي مسيرة حياته العلمية والثقافية، ترك الثعالبي كنوزا من العلم والمعرفة، فهو رجل يقال عنه “مؤلاف” (أي كثير التأليف) ندب نفسه فداء للجزائر خاصة والعالم الإسلامي عامة، فقد كان رجلا مجتهدا في ميدانه، حتى قيل إنه كان موسوعة تمشي على الأرض، عالما بعلمي المعقول والمنقول، ومترجم يتسم بالحفظ والذكاء فجمع بينهما، كما كان من القلائل الذين استثمروا أوقاتهم في الجد والاجتهاد نافعا ومنتفعا، مؤثرا ومتأثرا، بل قام بتصحيح كثير من المفاهيم والقضايا الخطيرة التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية.
هو أبو زيد عبد الرحمان بن محمد بن مخلوف بن طلحة بن عامر بن نوفل بن عامر بن منصور بن محمد بن سباع بن مكي بن ثعلبة بن موسى بن سعيد بن مفضل بن عبد البر بن قيس بن هلال بن عامر بن حسان بن محمد بن جعفر بن أبي طالب.
وُلِدَ عبد الرحمان الثعالبي سنة 786هـ (1384م) بالجزائر موطن آبائه وأجداده الثعالبة، قرب وادي يسر وبجوار مدينة يسر الواقعة حاليا بولاية “بومرداس” (63 كلم شمال شرقي العاصمة الجزائرية)، وهذه المدينة هي موطن آبائه وأجداده الثعالبة، فيقال أبناء “ثعلب بن علي” من عرب المعقل الجعافرة.
تزوج الإمام الثعالبي قبل ذهابه إلى تونس مع امرأة اسمها “مريم”، كما ورد في مخطوط “أنباء أبناء الزمان” للشيخ علي بن الحاج موسى. وكانت “مريم” الأم الوحيدة لثمانية (8) أولاد، وقَابِلَتُهُمْ جميعا عند ولادتهم اسمها “تلاتيماش” من منطقة القبائل، أربعة ذكور وأربع إناث.
نشأ عبد الرحمان الثعالبي في بيئة علم ودين وصلاح في جبال الخشنة المطلة على وادي يسر ووادي الجمعة، استهل تعلمه على يدي علماء منطقة القبائل. وزيادة على كونه ينحدر من أسرة ذات حسب ونسب وجاه وعلم وثقافة، فإن المحيط الداخلي كان مساعدا له، وسط يجعل من العلم جهاد في سبيل الله، فقد كان الثعالبي على درجة عالية من الصبر والانضباط في طلب العلم رغم تقدم العمر به، فكان مقتنعا بما يسمى بـ “الجهاد العلمي”، مفنيا زهرة شبابه في خدمة العلم والثقافة والأمة، لذلك فقد تحصل على إجازات كثيرة ومتباعدة زمانا ومكانا. كما ساعدته في مساعيه ظهور الإرهاصات الأولى لظهور بوادر النهضة العربية والإسلامية.
تكون الثعالبي في قصبة الجزائر ثم قصد المغرب الأقصى بصحبة والده محمد بن مخلوف فتعلم أصول الدين والفقه المالكي فأخذ عن العجيسي التلمساني المعروف بالحفيد.
وزار مدينة بجاية فمكث بها سنة ثم عاد إلى مسقط رأسه في يسر بعد وفاة والده ثم رجع لمدينة بجاية فنزل بها سنة 802هـ (1399م) ومكث فيها حوالي سبع سنوات، وتعلم فيها داخل “مسجد عين البربر” وكذلك “جامع بجاية الأعظم” في قصبة بجاية مع زملائه يحيى العيدلي وسيدي بوسحاقي مع آخرين.
وكان تتلمُذه على أئمة مقتدى بهم في العلم والدين والورع، أصحاب الفقيه الزاهد الورع عبد الرحمن الوغليسي، وأصحاب الشيخ أبي العباس أحمد بن إدريس كالشيخ الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عثمان المنجلاتي، والشيخ الولي الفقيه المحقّق أبي الربيع سليمان بن الحسن، وأبي الحسن علي بن محمد البليليتي، وعلي بن موسى، والإمام العلامة أبي العباس النقاوسي، فحضر مجالسهم.
ثم انتقل إلى تونس سنة 809هـ (1406م) فتعلم على تلاميذ ابن عرفة كالشيخ أبي مهدي عيسى الغبريني، والشيخ الجامع بين علمي المنقول والمعقول أبي عبد الله الأبي، وأبي القاسم البرزلي، وأبي يوسف يعقوب الزغبي، وغيرهم.
ثم ارتحل إلى مصر سنة 814هـ (1412م)، فسمع صحيح البخاري واختصار إحياء علوم الدين بها على البلالي، وحضر مجلس شيخ المالكية بها أبي عبد اللَّه البساطي، وحضر كثيرًا عند شيخ المحدثين بها ولي الدين العراقي الذي أجازه بعدما أخذ عنه علم الحديث مع علوم ومعارف أخرى، كما أخذ عن غيرهما من العلماء.
ثم رجع إلى تونس سنة 817هـ (1415م) فإذا في موضع الغبريني الشيخ أبو عبد اللَّه القلشاني خلفه فيه عند موته فلازمه، وأخذ صحيح البخاري إلا يسيرا عن البرزلي، ولم يكن بتونس يومئذ من يفوت الثعالبي في علم الحديث إذا تكلم أنصت العلماء وقبلوا ما يرويه، تواضعا منهم وإنصافا واعترافا لحقه، وكان بعض فضلاء المغاربة يقول له لما قدم من مصر: “كنتَ آيَة فِي علم الحديث”، وحضر أيضا مجلس الشيخ الأبي وأجازه. ثم قدم تونس الشيخ ابن مرزوق عام 819هـ (1417م) فأقام بها نحو سنة فأخذ الثعالبي عنه كثيرًا وسمع عليه موطأ الإمام مالك بقراءة الفقيه أبي حفص عمر القلشاني ابن الشيخ أبي عبد اللَّه مع علوم أخرى، وأجازه وأذن له هو والأبي في الإقراء، وأخذ عن غيرهم من الأئمة كالشيخ المحدث عبد الواحد الغرياني وحافظ المغرب أبي القاسم العبدوسي وابن قرشية.
ثم ارتحل إلى الأناضول أين زار مدينة بورصة التي لقي فيها استقبالا عظيما، فأقيمت له زاوية صوفية هناك وحبست عليه، وماتزال تلك الزاوية وقفا حبسا على الثعالبي إلى اليوم. ثم قصد الحجاز فأدى فريضة الحج، واختلف إلى مجالس العلم هناك، ثم قفل راجعا إلى مصر ليواصل دراسته فيها، ومنها إلى تونس، فوافى بها ابن مرزوق الحفيد التلمساني، فلازمه وأخذ عنه الكثير.
ثم عاد بعد هذه الرحلة الطويلة في طلب العلم والمعرفة إلى قصبة الجزائر، فاهتم بالتأليف وصار يلقي دروسه بأكبر مساجد الجزائر آنذاك وهو “الجامع الكبير”.
تولى القضاء زمنا قصيرا، ثم تركه لينقطع إلى الزهد والعبادة، كما قام بالخطابة على منبر الجامع الكبير بالجزائر، ويروى أن من بقايا آثاره المتبرك بها إلى اليوم بهذا المسجد (مقبض عصا خطيب صلاة الجمعة).
تخرج على يدي الإمام الثعالبي كثير من العلماء، من بينهم:
كان معروفا عن عبد الرحمان الثعالبي أنه عالم زمانه في المغرب العربي في علم التفسير والذي تميز فيه باتباع “منهج مميز” جمع بين “النقل والعقل”، وكذا علم العقيدة (علم الكلام وأصول الدين) والفقه والتصوف، وغيرها من العلوم الدينية الأخرى، وهو أحد أعلام القرن التاسع الهجري، ذلك أن الإنتاج الفكري للثعالبي انتشر في مختلف مكتبات العالم العربي والغربي.
عكف على التدريس والتأليف، وكانت معظم مصنفاته في علوم الشريعة، وقد ترك في هذا الحقل ما يزيد على تسعين مؤلفا في التفسير والحديث والتصوف والفقه واللغة والتاريخ والتراجم وغيرها، من أهمها:
كما له مخطوطات أخرى في التوحيد واللغة والتصوف والفقه.
للشيخ الفقيه عبد الرحمان الثعالبي تفسير معروف باسم “الجواهر الحسان في تفسير القرآن“، تأثر فيه بمصادر مشرقية، كما تأثر بمصادر مغربية وأندلسية، فجاء تفسيره مزيجا بين الفكر المشرقي والفكر المغربي، حيث ضمنه المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزاده فوائد من غيره من كتب الأئمة، حسبما رآه أو رواه عن الأثبات، وذلك قريب من مائة تأليف، وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين، ومعدود في المحققين.
أما المخطوطات التراثية للشيخ عبد الرحمان الثعالبي فقد بلغت ما يفوق 200 مخطوطة.
ويقول الثعالبي في كتابه الجامع الذي ذيل به شرحه لمختصر ابن الحاجب الفرعي “وينبغي لمن ألف أن يعرف بزمانه وبمن لقيه من أشياخه فيكون من يقف على تأليفه على بصيرة من أمره ويسلم من الجهل به وقد قل الاعتناء بهذا المعنى في هذا الزمان وكم من فاضل انتشرت عنه فضائل جُهل حاله بعد موته لعدم الاعتناء بهذا الشأن”.
ومن خلال تآليفه أعطى لنا الثعالبي صورة كاملة عن العلوم المتداولة آنذاك والتي كانت أغلبها في العلوم الدينية كالفقه والتفسير والعقائد والتصوف. إلى جانب اللغة والأدب كعلوم البلاغة والشعر والنثر وغيرها من العلوم اللغوية. وكانت كتبه تحضى بالقبول والاستحسان والتقدير بين أواسط الأدباء والعلماء في حياته قبل مماتــه. وكان معروفا ومتداولا بعد مماتــه وإن كان قد طغى عليه الزهد والتصوف، وأغلب الناس يعرفونه من هذه الزاوية فقط.
حظي الإمام عبد الرحمن الثعالبي بالذكر والثناء الحسن من قبل عدد من العلماء المعاصرين واللاحقين له من بينهم:
الشيخ أبو زرعة العراقي الذي قال عنه: “الشيخ الصالح الأفضل الكامل المحرر المحصل الرحال أبو زيد عبد الرحمان بن محمد بن مخلوف الثعالبي”. كما وصفه العلامة عيسى بن سلامة البسكري بـ “الشيخ الصالح الزاهد العالم العارف أبو زيد عبد الرحمان الثعالبي”.
وقال عنه شمس الدين الذهبي في “التفسير والمفسرون” : “الإمام الحُجَّة، العالم العامل، الزَّاهِد، الوَرِع، وليِّ الله الصَّالِح، العارِف بالله، كان من أولياء الله المُعْرِضين عن الدُّنيا وأهلها، ومن خيار عِبَادِ الله الصَّالحين.
وقال عنه الإمام السَّخاوي: “وكان إماما مصنِفا .. وعمِلَ في الوعظ والرقائق وغير ذلك”. وقال عنه تلميذه الشيخ أحمد بن زروق: “شيخنا الفقيه الصَّالح كانت الديانة أغلب عليه من العلم، يتحرَّى في النقل أتمَّ التحري”. وقال ابن سلامة البكري: “كان شيخنا الثعالبي رجلاً صالحاً زاهداً عالماً عارفاً ولياً من أكابر العلماء، له تآليف جمَّة..”. كما وصفه الغزي في “ديوان الإسلام” بأنه “الإمام، الحِبر، العلَّامة”.
يعتبر عبد الرحمان الثعالبي رمزا معروفا وشهيرا لمدينة الجزائر (العاصمة) التي كانت ولا زالت لحد اليوم تعرف باسمه، فلا زال سكان الجزائر حتى يومنا هذا يقولون على العاصمة الجزائرية “مدينة سيدي عبد الرحمان”.
وكثيرا ما لقبت مدينة الجزائر “بالمحروسة”، لكن مفهوم الحراسة والحماية والضمان ارتبط بضريح عبد الرحمن الثعالبي، والذي يعدّ رمز المدينة وبركتها في المخيلة الشعبية، حيث تمكّن مقام عبد الرحمن الثعالبي من تقويّة رساميل رمزيّة ومعنوية وسّعت من أدواره داخل المجتمع، وهو ما وفّر له مسؤوليّات دنيوية ودينية أين لعب عدّة وظائف مختلفة إلى أن أصبح مكوّنا ضروريا في الإصلاح وتوازن الأفراد والضبط الإجتماعي، لما له من تأثير على الثقافة الجزائرية الأصيلة.
وتعتبر زاوية “سيدي عبد الرحمن الثعالبي” الواقعة في أعالي القصبة بالجزائر العاصمة، إحدى الصروح الدينية التي كانت ولازالت تحافظ على تعاليم الدين الإسلامي من خلال الطقوس الدينية في المناسبت والأعياد الدينية وفي شهر رمضان المبارك، وهي من أقدم المعالم الإسلامية بالجزائر القديمة.
وقد تأسست هذه الزاوية عام 1612، حيث قام الأتراك بإجراء بعض التعديلات والتوسعات على بعض أجزائها. وبعد الاستقلال استرجعت السلطات الجزائرية ضريح سيدي عبد الرحمن وغيره من الأضرحة والمعالم التاريخية التي استولى عليها الاستعمار الفرنسي، وقد أولت الدولة الجزائرية اهتماما كبيرا وعناية فائقة بالمعالم التاريخية التي تكتسي طابعا دينيا وثقافيا وحضاريا، خاصة معلم الشيخ عبد الرحمان الثعالبي، التي تمت ترقيته إلى مستوى مؤسسة علمية وثقافية وروحية، وإعادة بعث مكتبته، وكذا تشجيع الباحثين على تحقيق تراث الشيخ الثعالبي وإخراجه من حال المخطوط إلى حال المطبوع، وضمان نشره بين أبناء الجيل حتى يتشبعوا بالثقافة الدينية التي ساد بها أجدادهم.
توفي الإمام الثعالبي في ضحى يوم الجمعة 23 رمضان 875هـ، منتصف شهر مارس 1471م، ودفن في مقبرة سيدي عبد الرحمان الثعالبي المجاورة لزاويته في”قصبة الجزائر” حيث ضريحه قرب مسجد سيدي عبد الرحمان بها إلى اليوم.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين