الربا محرم في النقدين: “الذهب والفضة” بالنص، وهو محرم فيهما بقسميه: ربا الفضل وربا النسيئة. لما روى الشيخان من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز))([1]) والورق: الفضة.
فهل علة تحريم الربا فيهما هي الثمنية، أو غيرها؟
ذهبت طائفة من أهل العلم على رأسها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم. إلى ارتباط حكم الربا في الذهب والفضة بالثمنية، فإن زالت بالصنعة مثلا لم يجر فيهما الربا، ومبنى هذا الرأي على أن الثمنية هي العلة، ومتى فقدت فقد حكم الربا. وأن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، وهذا يقتضي كون العلة المستنبطة تعود على حكمها بالإبطال كالمنصوصة، فيدور الحكم معها وجودا وعدما.
قال ابن القيم: (وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة . وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب)([2]).
وما دامت العلة هي الثمنية، فالحكم يدور معها. جاء في الاختيارات لابن تيمية: (ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة سواء كان البيع حالا أو مؤجلا ما لم يقصد كونها ثمنا. انتهى)([3]). وهذا القول نقله عنه غير واحد من أئمة الحنابلة ([4]) وما نقل عنه من خلافه ([5]) يعتبر رأيا قديما، وأما رأيه الجديد والذي استقر عليه، فهو اعتبار الثمنية علة، وتأثير الصنعة واتخاذ الذهب واستعماله حلية ونحوها لا ثمنا([6]).
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين -وهو من أخص تلاميذ شيخ الإسلام به، وأكثرهم له ملازمة واتباعا-: (الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها.)([7])
وهذا الرأي منسوب أيضا إلى معاوية بن أبي سفيان ، ونقل عن الحسن وإبراهيم والشعبي في المحلى بالنقد ما يشبهه، وهو اختيار جماعة من الحنابلة، قال في الإنصاف وعليه عمل الناس.([8])
فجعلوا مطلق الثمنية علة ضابطة لحكم الربا في الذهب والفضة، ويمكن القول بأن ما ذكر من مسألة الصنعة والصياغة أنه ليس قيدا وإنما القيد هو وصف الثمنية؛ لأنهما قد يخرجان عنها بغير صنعة ولا صياغة كما هو واقع الناس اليوم. وابن القيم يقول “فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها” وشيخ الإسلام يقول: “ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة سواء كان البيع حالا أو مؤجلا ما لم يقصد كونها ثمنا”
فجعلا المدار على مطلق الثمنية، فإن انتفت جاز التفاضل، وجاز النساء ، ومتى وجدت، أو قصدت: امتنع التفاضل واشترط التقابض.
وخرج بعضهم هذا القول أيضا على مذهب الحنفية بناء على قولهم بجواز بيع الخبز بالخبز متفاضلاً؛ لأنهم عللوا ذلك بأن الخبز خرج بالصنعة من كونه مكيلاً، فلم يحرم التفاضل فيه. فليكن الحلي خرج بالصنعة من كونه ربوياً، ولا يصح هذا التخريج.
كما نسب البعض هذا القول إلى المالكية، لكنهم أنكروا ذلك. نقل النووي في المجموع عن القاضي عبد الوهاب المالكي أنه قال في شرح الرسالة: (وحكى بعضهم عنا في هذا العصر أنه يجوز أن يستفضل بينهما قدر قيمة الصياغة وهذا غلط علينا وليس هذا بقول لنا ولا لأحد على وجه والدليل على منع ذلك عموم الظواهر التي قدمناها وليس فيها فرق بين المصوغ والمضروب)([9]).
وقد ذهب ابن عبد البر إلى أبعد من ذلك فقال عن هذه المسألة:
(رواها جماعة من أصحاب مالك عن مالك. وهي مسألة سوء منكرة، لا يقول بها أحد من فقهاء المسلمين، وقد روي عن مالك في غير مسألة ما يخالفه. قال مالك في الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجر الضرب ويأخذ منهم وزن ورقه مضروبة. قال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحوه فأرجو أن لا يكون به بأس . وقال سحنون: عن ابن القاسم: أراه خفيفا للمضطر ولذي الحاجة، قال ابن وهب: وذلك ربا ولا يحل شيء منه، وقال عيسى بن دينار: لا يصلح هذا ولا يعجبني)([10]) .
وقد روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن مثل ذلك إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؛ أنا أخبره عن رسول الله ﷺ ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن ([11]) .
ورأي شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فيه تيسير وتخفيف -وخاصة في هذا الزمن- مع ما عمت به البلوى من الوسائل الحديثة التي يتم أغلب المعاملات عن طريقها: كالهاتف أو الانترنت، ويعسر حصول التقابض بين البائع والمشتري من خلالها.
فلو قيل بجواز النساء عند بيع الذهب، أو الفضة المصوغين ونحوهما مما لم يقصد كونه ثمنا، لحُلت كثير من المشكلات ونوازل هذا العصر، ولا سيما لو اعتبرت علة مطلق الثمنية هي المدار، فمتى انتفت انتفى الربا، ولو لم يكن الذهب والفضة مصوغين لكنهما صارا سلعا تتداول بالبيع والشراء لا أثمانا . يقول الدكتور رفيق يونس المصري في بحث له حول أحكام بيع الحلي نشر في مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي، المجلد 9، 1417هـ :”ولئن كانت هذه الآراء-يقصد آراء القائلين بعدم جريان الربا في ما ليس ثمنا من الذهب والفضة- لا تعبر عن مذاهب جماهير العلماء، إلا أن لها وجها شرعيا مقبولا…على أننا ندعوا تجار الذهب والفضة إلى العمل بالأحوط كلما أمكن لاستحباب الخروج أوالتقليل من الخلاف الفقهي بين العلماء ولاستحباب العمل برأي الجمهور.”انتهى وهو قد رجح مذهب الجمهور في بحثه تجارة الذهب، لكنه هنا قصد الميل إلى التيسير كما قال: وآثرت في هذا البحث التيسير والوضوح. انتهى
غير أن الراجح ما قرره جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة والظاهرية . وأغلب العلماء المعاصرين ، وصدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي([12]).
وسبب رجحان ما ذهب إليه الجمهور إجمالا: النصوص الدالة بعمومها على شمول حكم الربا وجريانه في كل ذهب وفضة، بل من الأدلة ما نص على حكم المسألة وعدم التفرقة بين المصوغ وغيره كحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ((الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها، … فمن زاد أو ازداد فقد أربى…))([13]).
فقد دل على وجوب التساوي والمماثلة في مبادلة الجنس منهما بمثله سواء كان تبرا وهو: الذهب أو الفضة قبل الصنعة، أو عينا، وهو: الذهب، أو الفضة بعد الصنعة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وعلة مطلق الثمنية المستنبطة لا تقوى على إبطال حكم الربا الثابت بالنص دون تعليل بالثمنية أو غيرها والقاعدة الأصولية على “أن العلة المستنبطة لا تعود على حكمها بالإبطال”.
والأصوليون قسموا العلل إلى ثلاثة أقسام وأنها مرتبة في القوة على درجاتها في الترتيب التالي:
الأول: ما دل النص الشرعي على أنه هو علة الحكم.
الثاني: ما علم أنه هو العلة بواسطة دلالة الإيماء والتنبيه.
الثالث: ما استنبط استنباطاً أنه هو العلة. وكون الثمنية هي على الربا في النقدين مستنبطة،
وحرمة الربا في النقدين ثابتة بالنص ، والعلة المستنبطة لا يمكن أن تعود على الحكم بالإبطال؛ لأن النص دلالته قطعية والعلة المستنبطة دلالتها ظنية.
قال العلوي في مراقي السعود:
وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم
أي لا تفسد أصلها ولا تعود عليه بالإبطال.
([1]) البخاري كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة، الحديث رقم :(2177)، ومسلم كتاب المساقاة، باب الربا، الحديث رقم :(1584).
([2]) إعلام الموقعين ج2ص 140.
([3]) الاختيارات ص127.
([4]) كشاف القناع للبهوتي ج3ص 252.
([5]) مجموع الفتاوى ج 29ص464 .
([6]) القول المنقول عنه ورد في الفتاوى ج29ص425.
([7]) إعلام الموقعين ج2ص 108.
([8]) الإنصاف للمرداوي، الناشر، ج5ص14.
([9]) المجموع للنووي ج10ص 84.
([10]) المجموع للنووي ج10ص 84..
([11]) الموطأ ج 4ص916 الحديث رقم (561).
([12]) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم، 84 (1/9).
([13]) سنن أبي داود الحديث رقم: 3349 وقال أبو داود روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار بإسناده . وقال الشيخ الألباني فيه: صحيح ج 2 ص268..