اقرأ أيضا:
وأما الحجة العقلية فأولها استظهاره من قوله تعالى (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) الدلالة “بمفهومه على مدح الصوت الحسن، ولو جاز أن يقال إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن للزمه أن يحرم سماع صوت العندليب لأنه ليس من القرآن، وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعاني الصحيحة”.
وثانيها ادعاءه أن الغناء يؤثر في الإنسان كما يؤثر فيمن لا يعقل ويسوق لذلك مثالين، الطفل الصغير في مهده حين تهدده أمه فينصرف عن بكائه ليستمع إليها، والجمل “مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة، … فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آذانها وتسرع في سيرها” ويستخلص من ذلك “أن من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج”.
ويذهب الإمام الغزالي أن الغناء يصح بلا نكير في عدد من المواضع وحكمه فيها يدور بين الندب والإباحة، ومنها:
لكن الإباحة لديه ليست مطلقة فالغناء ينقلب محرما إن اعترضه خمسة عوارض، كأن يكون الغناء لامرأة لا يحل النظر إليها ويخشى الفتنة منها، أو تكون الآلة من شعار أهل الشر والفساد وهي: المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه الأنواع الثلاثة محرمة لديه، أو كان الشعر الذي يتغنى به فحش وخنا، أو أن تغلب على المستمع شهوته وخصوصا إذا كان شابا، وأخيرا أن يكون المستمع من العوام الذين لم يتمكن حب الله من قلوبهم فيؤثر اللهو والسماع على العبادة والقربات.
لم يجد المسلمون إذن غضاضة في الاهتمام بالموسيقى، وخصوصا عندما تصبح احدى طرق تهذيب النفس أو وسيلة لإظهار الفرح والسرور في المناسبات الاجتماعية، ويبدو أنهم لم ينظروا إليها بوصفها نشاطا ترفيهيا وإنما علما من العلوم، ومن أوائل من ذكر ذلك الخوارزمي وهو من أهل القرن الرابع في موسوعته (مفاتيح العلوم) التي أحصت العلوم في عصره علما علما، حيث تناول علم الموسيقى من ثلاث وجوه، هي: الآلات وأسمائها وهي إحصاء دقيق وشرح للآلات الموسيقية في القرن الرابع، وما كتبه الحكماء حول الموسيقى، وأخيرا الإيقاعات الموسيقية والفروق بينها.
وتحدث ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) في القرن التالي عن موقع علم الموسيقى بين العلوم، وأن العلوم عند أهل الديانات على ثلاثة أقسام:
يستفاد مما ذكره ابن عبد البر أن العرب صنفوا الموسيقى ضمن فئة العلم الأوسط واعتبروها فرع عن العلوم الرياضية، وظل هذا التصنيف سائدا حتى القرن الحادي عشر الهجري- وربما بعده- حيث تحدث حاجي خليفة عن علم الموسيقى باعتباره ” علم رياضي” يبحث في: أحوال النغم من حيث الاتفاق والتنافر، وأحوال الأزمنة المتخللة بين النقرات من حيث الوزن وعدمه؛ ليُعرف كيفية تأليف اللحن.
ويشتمل علم الموسيقى لدى خليفة على بحثين: أحوال النغم أو ما يسمى علم التأليف، والأزمنة أو ما يطلق عليه علم الإيقاع والغرض منه: حصول معرفة كيفية تأليف الألحان، وهو في عرفهم أنغام مختلفة الحدة، والثقل، رتبت ترتيبا ملائما، وغاية علم الموسيقى ليست المتعة وإنما هي “تأنيس الأرواح، والنفوس الناطقة، إلى عالم القدس، لا مجرد اللهو، والطرب” كما يفترض حاجي خليفة.
ويتصل بالموسيقى علم آخر هو “علم الآلات الموسيقارية العجيبة” يبحث في الآلات الموسيقية ويذكره صاحب (كشف الظنون) ضمن العلوم المتداولة في عصره، وهو علم يتعرف منه كيفية صنعها وتركيبها، وأورد فيه ثلاث مجموعات من الآلات الموسيقية :
هناك الكثير من الكتب الموسيقية التي ذكرتها المصادر الأدبية وأشارت إليها وجلها مفقود لم يعثر عليه، وأقدمها يعود إلى عهد الخلافة الأموية ويسمى (كتاب النغم) ليونس الكاتب (ت: 148)، ويمكن تصنيف ما وجد منها ضمن فئات، وبيانها كالتالي:
تحملنا هذه المصنفات على الاعتقاد أن الموسيقى لم تكن علما هامشيا أو مهملا لدى العرب، وأن دائرة التصنيف فيها اتسعت وتنوعت بحيث لم تقتصر على الجانب النظري وإنما شملت كذلك الجانب العملي، وقد حفلت بالمصنفات بالرسوم التوضيحية والنظريات الموسيقية والمصطلحات، وهو الأمر الذي يبرهن أن العرب أسهموا في تطوير علوم الموسيقى ولم يكونوا مجرد نقلة لتراث اليونان.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين