ليس من المبالغة القول بأنه: يستحيل أن ينعدم في الإنسان بذرة خير، وجوهر الإنسانية كيفما طغى وتجبر، ولو كان غير مسلم، بل وإن كان ملحدا. وذلك أنه لا يمكن الفصل بين الإنسان وبين ما فطر عليه من سمات إنسانية هي التي تجعله إنسانا، بما في ذلك القيم الأخلاقية والإنسانية.

 ولو صح إمكانية انفكاك الإنسان من القيم الأخلاقية الإنسانية كليا لما صح أن يكون خلقة الله المسمى إنسانا: {فطرةَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم:30). فالرحمة، والعطف، والتحسين والتقبيح من أبجديات ما يقر به الإنسان. ما يحدث هو أن الخير في هذا الكائن تقوى وتضعف بنسب متفاوتة، وبخاصة لو خلى من قيادة دينية ربانية المهذبة للإنسان عبر الشريعة الإلهية.

تحليل القيم الأخلاقية والإنسانية بين السطحية والعاطفة

مع تراكم وكثرة الصراعات الإنسانية وأزماتها، وبخاصة ما يحدث في الشرق الأوسط، ويسلّط الإعلام الضوء عليها أكثر من غيرها من صراعات العالم؛ نجد أن الكثير من محلّلي الأمة يتفوهون بإطلاق أحكام عامة دون مراعاة سياق الحال والوضع، ودون توسيع النظرة باستحضار أزمات إنسانية أخرى عالمية معاصرة وموازية، نجدهم يتداولون عبارة: “الكيل بمكيالين”، و”سقوط القيم الغربية” أو “ازدواجية المعايير لدى كبريات المؤسسات المدنية العالمية”، و”أين حقوق الإنسان؟!” و”أين الدول التي تحمي حقوق الإنسان وتتبجح بها؟!”.

ولعل هذه العبارة سوداوية وسلبية، وتنشر اليأس والإحباط والميل نحو التطرف والعنف، ناهيك عما يحمل من مغالطات والمصادرة عن المطلوب كما يقول المناطقة، ولو كان هذا الحكم العام نتيجة تحليل العامة ورؤاهم لهان، لكنه أصبح يقدم وبكثرة من الذين ينظر إليهم على أساس أنهم مثقفون وقدوة.

والحقيقة أن أغلب ما يسمى حقوق الإنسان ليست غربية، والكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية ليست غربية، إنما هي إنسانية وفطرية. إذ أثبت الكثير من الدراسات والأبحاث أن مقاصد الشريعة وكلياتها حاضنة لحقوق الإنسان، كما أن الأديان الأخرى لا تعارضها. وبالتالي فإن مسمى المواثيق الدولية وحقوق الإنسان هي في الأصل إنسانية الأصل، فطرية النزعة، وإن ولدت وترعرعت في أحضان الغرب (للأسف) الذي يزعم أنه حاميها وحارسها والحريص عليها، ناسيا أن الخير يُحمى بالخير وأن الشر لا يمكن أن يحمي الخير، على أن هذا لا يجعل الإشكالية في الخير وعدم حمايته، إنما في الحامي!

معضلة منطق القوة والمصالح

لعل قائلا يقول: كيف تفسّر قتل الأطفال والأبرياء هناك، أين الدول الكبرى من منع هذه الانتهاكات والسعي لإيقافها، بل على العكس هي تدعم وتشجع وتموّل! ولماذا تحركت الدول الكبرى لما تعلّق الأمر بـدول أوروبية ولم تتحرك مع أوضاع دول الشرق الأوسط، العربية والإسلامية منها خاصة؟!

الإشكال أولا يكمن في سلّم الأولويات والاهتمام لا في الإقرار بحقوق الإنسان ولا بمواثيقها، ويكمن ثانيا في فهم مجريات الأمور وتفسيراتها لا في انعدام القيم الأخلاقية الإنسانية. دول الشرق الأوسط ومواطنيها انزعجت كثيرا من هذا الاهتمام الغربي فأطلق بعض مثقفيها هذه العبارات؛ لكن هؤلاء المثقفين لم يطلقوا هذه العبارات لما تعلق الأمر بصراعات دول غرب إفريقيا مثلا، وقد يكونون غير عالمين بما يحدث فيها. تكاد تكون منطقة غرب إفريقيا تعج بالاضطرابات وحالة من عدم الاستقرار، تعيش هذه المنطقة في صراع لاستعادة أراضيها واستتباب الأمن،

ناهيك عن إشكالات في البنى التحتية والتعليم وغيرها. لا يكاد يكون هناك حراك لا شرقي ولا غربي في العمل على استتاب الأمن، فهل يصح القول أن دول الشرق تكيل بمكيالين وأنها فرّقت بين المسلمين، أو أنها غلبت القومية على حساب الدين، وهل يصح اتهامها بازدواجية المعايير؟!

الكثير من أبناء هذه المنطقة لا يعرفون الكهرباء والماء ناهيك عن الإنترنت والتعليم، ولم نسمع مثقفا يهتم بذلك، إذا كان عارفا به أساسا. وفي مقابل ذلك نجد أنه لما قُطعت الكهرباء والنت في حالة حرب لفترة قامت القيامة! هذا ليس تأييدا للحرب ولا تأييدا لما تم من قطع الكهرباء أو النت، لكن الغرض هو لفت الأنظار إلى أن اهتمامات الأفراد المتفاوتة وبالمثل تتفاوت اهتمامات الدول وفقا للمصالح. ومن هنا فمن الجميل أن يكون معيار القيم الأخلاقية والإنسانية هو مراعاة الخي المطلق من كل الحسابات، والاهتمام بالضعيف يكون مطلقا أيّا كان، وأينما وجد، ولعل هذا سرّ اهتمام الإسلام بأن تكون القيادة بيد الأمة وباسم الدين، حيث لا مصالح تعلو على مصلحة الدين والإرادة الإلهية.

لقد تعدّدت مواقف الدول تجاه إشكالات الشرق الأوسط وصراعاتها، لا يمكن أن نجعل القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة ضحية هذه الإشكالات وما ترتب عليها من مواقف. والأولى أن نسعى إلى تطبيق مسمى حقوق الإنسان حالة السلم ولدى الدول التي تحتاج، ولا نضيق واسعا. والأهم من كل هذا أن المواقف التي ترفض ما يحدث في الشرق الأوسط لم تستطع هي مساندة إخوتها والوقوف معهم ودعمهم لإيقاف الحرب والصراعات.

ولا علاقة لهذا العجز بازدواجية المعايير أو ادعاء انعدام القيم الإنسانية وسقوطها، بقدر ما الأمر يتعلق بمنطق القوة. أجل، نعرف أن في الحياة يفقد بعض المظلومين فرصة الحصول على حقهم رغم إقرار الكل أنهم مظلومون لكن مع ذلك يعجز الكثير عن رد حقهم إليهم. فالإشكال في أكابر مجرميها، والإشكال هو ما بينه القرآن الكريم: { لتفسدن في الأرض ولتعلون علوّا كبيرا } (الإسراء: 4). وإن البول لا يُنظَّفُ بالدم كما في المثل الإفريقي. فكأنه لا وجود للقيم لما يغطي عليها ضبابية الحرب واتخاذ موقف.

عالمية قضايا القيم الأخلاقية والإنسانية

اليوم نجد على مستوى الأفراد والمؤسسات تزايد أعداد المنحازين لعدالة القضية الفلسطينية من غير العرب والمسلمين، أما على مستوى الدول فسجلت مواقف جديدة من قبل عدة دول غير عربية وغير مسلمة مع أكبر قصية تشغل عقول الناس اليوم، (بغض النظر عن ادعاء الحق الديني، أو التاريخي، أو السياسي، أو الجغرافي، على أن هذه الادعاءات هي أصل الإشكال أساسا)، كما وقفت أعداد كثيرة من أبناء الجيل الجديد في الغرب مع القضية العادلة، وندّد بالحرب ناس كثر، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل على فطرية القيم الأخلاقية والإنسانية.

 باختصار لنكن إيجابيين، ولننشر الخير والتفاؤل بين الناس. ونرجو أن تتغير نظرة بعض المثقفين قليلا، ولا يقودوا الأمة نحو فهم خاطئ بحكم وإدراك جزئي وسطحي. لا توجد ازدواجية معايير، ولا القيم الإنسانية العالمية تساقطت، ولا الأقنعة سقطت، إنما هو ما هي أولويات الفرد والدولة، وأين نطاق نفكيره وتركيزه، وما موقفه من القضايا الجارية، وإنما هو غلبة منطق القوة كما يحدث في هذه الحياة أحيانا إن لم أقل كثيرا على حساب منطق الحق والخير، وقوة المنطق.