وصف الله -تعالى- المسجد في موطن المدح والإطراء، حين أتبع سبحانه نوره بذكر بيوت الله، وكأنه -سبحانه- ينبهنا إلى أن ذلك النور وتلك السكينة هي جزء من نوره -جلّ وعلا-، وأن من أراد نور الله فعليه بالمسجد. وهذا المعنى الإيماني للمسجد.

قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ).

واعتبر -سبحانه- من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه اعتبره مرتكبًا لأكبر أنواع الظلم، وتوعده بالخوف والخزي والعذاب في الدنيا والأخرى، قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

هذا هو سمو المسجد ونوره وطهارته الذي ذكره الرافعي -رحمه الله-: “فالمسجد هو في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع، هو فكر واحد لكل الرؤوس، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل، وكما يشق النهر فتقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم،يقام المسجد فتقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله، فليس المسجد بناء ولا مكانًا كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب، فإن في الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها،

وهذه كلها يمحوها المسجد؛ إذ يجمع الناس مرارًا في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس، ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء، كأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخول المسجد”.

ولذلك وصى النبي -- بارتياد المساجد، وحث على ذلك، قال: “من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداها تخط خطيئة، والأخرى ترفع درجة” وقال: “من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح”، وقال: “أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام”.

وقال -عليه الصلاة والسلام-: “ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وكذلك الدهر كله”.
وهذا كان سمت الصالحين، الحرص على الصلاة في المسجد، فالمحدث الثقة بشر بن الحسن، كان يقال له “الصفي”، لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة. وقال قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي: (لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما) مع أنه قارب التسعين. ومثلهما إبراهيم بن ميمون المروزي المحدث الثقة، والذي مهنته الصياغة وطرق الذهب الفضة، قال عنه ابن معين:(كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها).

ولقد أحصى علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- خصال المسجد، فقال:(من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة، وأخًا مستفادًا، وعلمًا مستطرفًا، ورحمة منتظرة، وكلمة تدله على هدى، أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياء أو خشية”.
وقد وصف أ. ياسين خليل جموع المؤمنين الذاهبين للمسجد فقال:


يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا
أرواحـــهم خشــعت لله في أدب
نجــواهم: ربنــا جئنــاك طائـعة
إذا سجــى اللــيل قاموه وأعينهم
هـــم الرجــال فلا يلهيهم لـــعب

الله أكبر” في شوق وفي جذل
قلوبهم من جلال الله في وجل
نفوسنا، وعصينا خـادع الأمــل
من خشية الله مثل الجائد الهـطل
عن الصلاة، ولا أكذوبة الكــسل

ولعل ما يؤكد المعنى الإيماني للمسجد تلك الابتسامة الأخيرة التي ابتسمها رسول الله -- قبل موته، لما كشف ستر الحجرة يوم وفاته، فرأى أبا بكر يؤم الصفوف، وما هذه الابتسامة إلا رضاء منه -- على أمته، واطمئنان على أنها على الطريق الصحيح الموصل لمرضاة الله وجنته، وكأنه يطّلع علينا كل يوم خمس مرات، ويبتسم تلك الابتسامة الجميلة.. ابتسامة الصلاة في المسجد