عن ثلاثة وثمانين عامًا، مترعة بالفكر والإبداع والترجمة، ودَّعَنا الأستاذ الكبير والمترجم القدير، محمد يوسف عدس، المستشار السابق بمنظمة اليونسكو، يوم السبت الماضي، 30 سبتمبر.

كان أستاذنا رحمه الله نموذجًا للمثقف المسلم، الغيور على دينه وأمته، غير المحصور في حدود بقعة جغرافية ضيقة..

امتدت همومه بامتداد مآسي عالَم الإسلام شرقًا وغربًا، وكان المحامي الأول عن مأساة المسلمين “البوسنة والهرسك” حين دهمها الصرب، تتار العصر، وأبادوا الإنسان والشجر فيها، بوحشية وسادية، وسط صمت- وتواطؤ- دولي!

سنوات الغربة في حياة أستاذنا، طالت كثيرًا، وقد توفي حيث مستقره في السنوات الأخيرة، بأستراليا.. لكن نبضه كان متصلاً بمصر والعالم العربي، وهُمومهم لم تغب عنه، وكان يعالج شؤونهم الفكرية والسياسية كأنه أحد المكتوين بها صباحًا ومساءً..!

جسر بين الشرق والغرب

كان الأستاذ الكبير محمد يوسف عدس جسرًا للثقافة والفكر بين الشرق والغرب؛ فاهتم بأعمال الرائدين الكبيرين: فيلسوف الإسلام وشاعره محمد إقبال، رمز نهضة باكستان وفخرها.. والمفكر الرئيس علي عزت بيجوفيتش، رئيس البوسنة السابق.

فيما يخص الأول، أعاد يوسف عدس ترجمة الكتاب المهم لإقبال “تجديد الفكر الديني في الإسلام”، ضمن إصدارات مكتبة الإسكندرية، بعد عقود من صدور ترجمته الأولى والتي لم تتصف بالدقة اللازمة، خاصة في رحاب مفكر وفيلسوف بحجم إقبال.. بجانب أنه أنجز عددًا من الدراسات تناولت فكر إقبال وفلسفته.

أما فيما يتصل ببيجوفيتش، فقد ترجم له كتابه الأشهر والأهم “الإسلام بين الشرق والغرب”، بأسلوب بديع رائق، لفت نظر الكثيرين، وبما جعل النص المترجَم “عملاً فلسفيًّا راقيًا يتسم بالدقة والجمال” كما قال د. عبد الوهاب المسيري في دراسته التي صدر بها الكتاب في طبعته الثانية، عن دار الشروق.

حين تواصلت مع أستاذنا، قبل نحو عام، لإجراء حوار عن إقبال في ذكرى ميلاده، الـ139 نُشر بـ إسلام أون لاين رحب بي.. وأجاب عن الأسئلة باستفاضة.. وكان ذلك مدخلاً لمزيد من التواصل في قضايا أخرى.. برحابة صدر، معي ومع غيري من متابعي صفحته بـ”فيس بوك”، رغم تقدم سنه ووهن صحته..

قبل ذلك.. عرفته بدراساته المطوَّلة في مجلتَيْ “المختار الإسلامي” و”الهلال”، ثم بمقالاته في جريدتَيْ “المصريون، و”الشعب”.. وكنت شديد الإعجاب بأسلوبه وبأفكاره، وأشعر أنني أمام رجل أخذ حظًا كبيرًا من الفكر والأدب.. مع إلمام عميق بشتى المذاهب والفلسفات، وبحسِّ نقدي يستطيع به أن يبصر مواطن الخلل فيها، ويقدم إزاءها رؤية إسلامية مبصرة واعية..

عطاء فكري متنوع

انتمى محمد يوسف عدس للإسلام، فكرًا وثقافة، ولم يصبه داء التغريب، شأن كثيرين من أبناء جيله!.. فكان الإسلام حاضرًا في كل ما يخطه قلمه، ومعيارًا يدرك به صحيح الأفكار من باطلها.

وإن مراجعة سريعة لعناوين كتب أستاذنا، لتبين لنا عمق ثقافته، وتنوع عطائه الفكري، واتساع دائرة همومه واهتماماته؛ سواء في ترجماته، أو أعماله الإبداعية.. بجانب أن عناوين كتبه تلخص لنا محاور فكره.

ومن أهم كتبه، إضافة إلى ترجمة “الإسلام بين الشرق والغرب“، و”تجديد الفكر الديني في الإسلام“:

ترجمة “الإعلان الإسلامي”، لعلي عزت بيجوفيتش.

ترجمة “الدولة اليهودية” لتيودور هرتزل.

ترجمة “البؤساء”: مجموعة من القصص الفلبينية القصيرة للأديب الفلبيني بيِينْفِِنيدو سانْتوس.

البوسنة في قلب إعصار: دراسة في التاريخ السياسي.

كوسوفا بين الحقائق التاريخية والأساطير الصربية.

الحرب الشيشانية بين التأليف والتزييف.

الإسلام والمسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز.

محمد أسد: سيرة عقل يبحث عن الإيمان.

سقوط الأكاذيب: تفنيد شبهات العلمانيين حول الشريعة الإسلامية.

المترفون والمفسدون في الأرض.

الإمبريالية الأمريكية من الغطرسة إلى الانهيار.

نهب الفقراء: الإنسان في عالم التكتلات الاحتكارية.

من رحلة حياته

وُلد محمد يوسف عدس في سنة 1934 في قرية بهوت، بمحافظة الدقهلية، وحفظ أجزاء من القرآن في كُتّاب القرية، وأمضى ثلاث سنوات في المدرسة الأولية، ثم انتقل إلى مدينة الزقازيق لاستكمال تعليمه في المدرسة الابتدائية حيث تخرج منها سنة 1948. ثم تدرج في مراحل التعليم حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، قسم الدراسات الفلسفية وعلم النفس؛ وتخرج سنة 1957.

تقدم لمسابقة العمل في المراكز الثقافية المصرية في الخارج، حيث انتدب مديرًا للمركز الثقافي بمانيلا (الفلبين) سنة 1964. ثم قرر الهجرة إلى أستراليا. وفي أبريل 1971 تمكن من الحصول على وظيفة مُفهرِس بمكتبة جامعة “بنديجو” الأسترالية.

انتقل سنة ١٩٧٤ إلى المكتبة القومية الأسترالية في كانبرا Canberra (العاصمة الفدرالية) ليسهم في إصدار الببليوجرافيا الوطنية، وفى تطوير المكتبة الوطنية للأفلام. وأتاحت له المكتبة القومية (أثناء العمل) فرصة الالتحاق بالدراسات العليا بجامعة كانبرا؛ فأتم دراسة المكتبات والمعلومات وإدارة المؤسسات خلال ثلاث سنوات انتهت سنة ١٩٧٧م.

في سنة 1980 انتدبته منظمة اليونسكو خبيرًا ليشرف على إنشاء وتجهيز مكتبة جامعة قطر الجديدة، ووضع سياسة للتزويد وبرامج لتدريب الأمناء والعاملين بها، وإنشاء وسائل منهجية لتقييم الأداء الوظيفي. وفى وقت لم يكن هناك شيء اسمه “شبكة الإنترنت” أنشأ بالمكتبة نظاما إليكترونيًا للاتصال بقواعد المعلومات العالمية بمركز لوكهيد ديالوج بكاليفورنيا، وذلك لخدمة الباحثين وطلاب الدراسات العليا، بالاطلاع على أحدث المقالات والأبحاث العلمية، وخلاصات للرسائل الجامعية في شتى المجالات. ولم يكن يوجد في العالم العربي حينذاك ما يماثل هذا النظام إلا في مركز البحوث العلمية بالكويت.

كما انْتُدِبَ في مهام استشارية من قِبل منظمة اليونسكو في عدد من الدول العربية منها مصر: لتطوير وصيانة مكتبة الجامع الأزهر ومكتبة جامعة الأزهر. ومنها عُمان: لبحث مشكلات مكتبتي التليفزيون في كل من مسقط وصلالة. ومنها اليمن الجنوبية: لبحث نظم المعلومات في مكتبة وزارة التربية والتعليم، ومكتبة الجامعة، ومركز البحوث التربوية.

في يوليو سنة 1990 استقال من عمله قبل أن يصل إلى السن القانونية للتقاعد بأربع سنوات، لكي يتفرغ للكتابة التي يعشقها ويحلم بها من زمن طويل، بعيدا عن أسْر الوظيفة وقيودها. وقد تمحورت دراساته ومؤلفاته ابتداء من سنة 1992 حول الكشف عن مشكلات الأقليات المسلمة في العالم، وإبراز المعاناة والمظالم التي يتعرضون لها، ابتداء من الفلبين، ثم البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان.

قالوا عنه

لقد خسر عالَم الفكر والثقافة كثيرًا برحيل هذا المفكر والأديب الكبير الأستاذ محمد يوسف عدس، وفقد الإسلام قلمًا مبدعًا غيورًا منافحًا عنه.. لكن حسبه ما قدمه، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين، ويجزل له العطاء والأجر..

وإذا كان الفضاء الإعلامي والثقافي لم يكترث بالدرجة المطلوبة لفقد رجل بوزن يوسف عدس.. فإن مما يسرِّي النفس، ويجعل باب الأمل مفتوحًا؛ ما رأيناه من رثاء في “الفضاء الأزرق”، حيث عبرت تدوينات الشباب في “فيس بوك” عن بالغ حزنهم وأسفهم لرحيل هذه القامة الكبيرة، وبدا أنهم أكثر تقديرًا له، وعلى إلمام جيد بجهوده وكتاباته وأفكاره.. وكفى بهذا تكريمًا وتقديرًا.

كما رثاه عدد من المفكرين والعلماء وعارفي فضله.. فكتب د. يوسف القرضاوي: “رحم الله الأخ الحبيب والمفكر الكبير الأستاذ محمد يوسف عدس.. اللهم اجزه خيرًا عن أمته، وارفع درجاته في عليين، واخلفه في عقبه بخير”.

وكتب د. خالد فهمي، أستاذ اللغويات بآداب المنوفية: “رحل المفكر والمترجم المنتمي محمد يوسف عدس، أشهر من عرَّف القارئ العربي المعاصر بمنجز المفكر والمجاهد علي عزت بيجوفيتش. لقد عرفت الرجل مفكرًا ومبدعًا مهمومًا بقضية الإسلام المعاصرة، وظل إلى وفاته متحركًا لنصرته. اللهم ارحمه واغفر له”.

وكتب الأستاذ جمال سلطان، رئيس تحرير “المصريون” مقالاً جاء فيه: “كان موفور الثقافة والمعرفة، كما كان واسع التأمل في شئون الحياة والدين، وكانت له اهتمامات استثنائية بأوضاع الأقليات المسلمة حول العالم، بمنظور ثقافي وحضاري وليس بمنظور طائفي.. غيَّبه الموت دون أن يشعر به كثيرون؛ لأنه كان بعيدًا عن جلبة الإعلام وضجيجه، كما كانت اختياراته الفكرية وهمومه أعلى من أن يستوعبها الإعلام الحالي الذي غلبت عليه السطحية والتفاهة.

رحم الله الأستاذ محمد يوسف عدس رحمه واسعة.. وتقبله في الصالحين..