قواعد “التبين”

أورد النص القرآني منهجًا قويمًا للتَبَيُّن ولتحصيل العلم، يتألف من طلب ثلاثة أدلة – أثنين منهم في حادثة الإفك والآخر في سورة البقرة.

1- الدليل الباطني – الوجداني

 ويتضح هذا الدليل في قوله تعالي ( لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا )، طلب جل شأنه من المؤمنين أن يستبطنوا أنفسهم، ويعودوا إلى وجدانهم،ـ فذلك أحد السبل التي توقف سيل هذا الإفك وربما تقضي عليه، ولم تذكر الروايات أن أحدًا فعل ذلك من الصحابة سوي أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل : قال نعم! وذلك الكذب ! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ! قالت لا والله ! قال: فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم، وفي رواية أخري قالت أم أيوب لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءًا؟ قال لا، قالت ولو كنت بدل عائشة ما خنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعائشة خير مني وصفوان خير منك.

2- الدليل الخارجي – المادي

 ( لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ )، وإذا كان هناك اعتبار للدليل الباطني، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى وقائع وشواهد تصدقه أو تكذبه، لذلك أرسي القرآن الكريم قواعد هذا البرهان الحسي، مؤكدًا على أهمية الحواس ومسئولية الإنسان عنها ” إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا “، ونعي أولئك الذين يعطلون هذه الحواس فلا يرون ولا يسمعون ( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا)

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة بني المصطلق، أرسل خالد بن الوليد ليتثبت من قول ابن أبي معيط، وطلب منه أن يتثبت ولا يعجل، وهذا طلب للدليل الحسي والواقعي فرآهم خالد بن الوليد متمسكين بالإسلام، وسمع منهم الآذان والصلاة. لذلك فإن من أبرز أدلة التبين هو: السمع والرؤية، أي استخدام الحواس وهي من أهم أدوات “المنهج التجريبي” الذي  يقوم على المشاهدة والملاحظة العلمية، وتعتبر نتائجه من أكثر نتائج البحوث والعلم اقترابًا للحقيقة.

نخلص من هذا التناول إلى :

أن المنهجية الإسلامية في “التبين” تنهي عن:

– نشر الشائعات.

– الخوض في أحاديث لم يتم التأكد منها.

– الكذب بحديث المرء كل ما يسمعه دون تثبت أو ترو.

– تعطيل العقل وتقديم اللسان عليه في تلقي الأخبار.

– تعطيل الحواس ودورها في المعرفة اليقينية.

– الإسهام بإشاعة الفاحشة بنشر أخبارها والإفاضة فيها.

وأن المنهجية الإسلامية في “التبين” تؤكد على “

– التثبت وعدم التعجل في إصدار الأحكام.

– إدراك خطورة اللسان في الدنيا والآخرة.

– دور العقل في التفحص للوصول للحقيقة.

–  دور الحواس والملاحظة للوصول لليقين.

– الدليل الوجداني في إدراك الحقيقة.

3- الأصول المعرفية القرآنية لـ” التبين “

أ. إعمال العقل

 

Tabayyun

 شكل يوضح جوانب إعمال العقل في القرآن

1- التعقل [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج : 46).
2- التدبر [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ] (النساء: 82)
3- التفكر [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ] (النحل: 44).
4- النظر [أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] (الغاشية: 17).
5- التفقه [انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ] (الأنعام: 65).
6- البرهان [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (النمل: 64).
7- التذكر [وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (القصص:51).
كما قدم القرآن الكريم منهجًا عقليًا متميزًا يكون في خلاله إصدار الأحكام الصحيحة، سواء أكان ذلك في ميدان العقيدة أو المعاملات أو الأخلاق، أو في عالم الغيب أو الشهادة، في التعامل مع الخالق أو مع المخلوق. وقد اتسم القرآن في هذا التقديم بالنظرة المتوازنة للعقل، والجمع بينه وبين الحس، وهو ما يفيد تكامل المعرفة الإنسانية في القرآن. ومن ثم فعند الحديث عن “الأسس العقلية” فإن المقصود بها جملة العمليات العقلية التي يصل بها الإنسان لحل مشكلة ما أو تفسير موقف، أو التحقق والتثبت، وهي تتم عن طريق العقل والحواس. “والقرآن يتميز هنا على المذاهب الفلسفية التي جعلت مسألة الإدراك مسألة نظرية فيها طابع التحكم المادي حتى المذاهب العقلية قد غالت في نظرتها إلى العقل وقدسته، وجعلت دوره في تحصيل المعرفة حتميًا. ولا يخلو من الآلية، وإن لم تكن هذه الآلية مادية بحتة”([1]).

ب. مبدأ التخصصية “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ” [7 : الأنبياء]

إن الله تعالي نفي عن اللذين خاضوا في الكذب والشائعات العلم بما يقولون وقال لهم ” مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  “، لهذا أرسي القرآن مبدأ آخر هو “السؤال” إذا نزلت بالمسلم واقعة لا يعلم حقيقتها و “السؤال” هنا لأهل العلم وأهل الذكر، وهذا إرساء لمبدأ التخصصية بما يجعل قيام العمران على اليقين والحقيقة، وليس على الشك والارتياب، وقد فعل ذلك الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكان يحدد المهام والوظائف في الحروب والسلم لمن هم أهل لها، فهذا قائد للجيش وهذا داعي يدعو الكفار إلى الإسلام، وهذا في جهاز المخابرات علي الأعداء بما يحقق توظيف الإمكانيات، والحصول علي حقائق وبيانات، وإقامة التخطيط الإسلامي على بيان وتبين، ولهذا قامت الدولة الإسلامية الأولى متكاملة الأركان على الحقائق والبيان.

ج. معوقات إعمال العقل وتحصيل المعرفة

أ. المعوقات الذاتية

ب. المعوقات الخارجية

نخلص إلى أن المنهج القرآني قائم على التبين والفحص المعرفي لكل ما يتحصل عليه المسلم من أخبار أو معارف, ويرفض في ذات الوقت: التعميم المبنى على الشائعات وترويجها لأنها تهدم المجتمع وتهدم بنائه الذي يسعى القرآن أن يكون بناءا متينا وقويًا ” إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ” فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضًا وهذا لايتأتى إلا بنشد اليقين في علاقات أبنائه ومؤسساته.


([1]) راجح عبد الحميد الكردي: نظرية المعرفة بين القرآن والسنة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992، ص630