يناقش الباحث القطري الدكتور نايف بن نهار في كتابه “مقدمة في علم أصول الفقه” جملة من القضايا المهمة المتعلقة بتاريخ علم أصول الفقه الذي حظي بأهمية بالغة عند علماء الإسلام قديماً وحديثاً، وقد دفعت تلك الأهمية بعض العلماء إلى الدعوة إلى تقديم علم الأصول على الفقه من خلال مقولات أصبحت مشهورة، منها على سبيل المثال:”من حُرِمَ الأصول حُرِمَ الوصول”، و”قدِّم الأصول حتى تَبني عليها الفروع، فاعرف أصول الفقه قبل أن تعرف الفقه”.
ومهما كانت نتيجة نقاشات علمائنا الأجلاء حول تقديم علم أصول الفقه على علم الفقه أو العكس، إلا أن علم أصول الفقه يُعدُّ من العلوم الإسلامية التي لا غنى عنه لمن يريد التعامل مع الشريعة الإسلامية وخاصة من كانت صنعته تقتضي التحاكم إلى النصوص، ولهذا فقد تمت العناية بهذا العلم النافع منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم فأصبح من أعرق العلوم الإسلامية، وقد كان الدكتور نايف بن نهار صادقاً حين قال في كتابه “مقدمة في علم أصول الفقه” إن علم أصول الفقه يُعدُّ “من نتاج العقل الإسلامي المحض، فقد مضت مرحلة تأسيسه دون أن يكون لسوى العقل الإسلامي سهمٌ في صناعته”.
ونظراً لحاجة المتخصص وغير المتخصص والمبتدئ وغير المبتدئ إلى علم أصول الفقه الخادم للشريعة الإسلامية، سنقوم في هذه المقالة بجولة في كتاب “مقدمة في علم أصول الفقه” الصادر عام 2020 عن مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث، فالدكتور نايف بن نهار يرى أن كتابه “مقدمة في علم أصول الفقه” “يُعدُّ الخطوة الأولى في علم أصول الفقه، والهدف منه إعطاء القارئ صورة عامة عن مباحث هذا العلم، وإيجاد أرضية ينطلق منها إلى كتابات علماء أصول الفقه المتقدمين”، وسيتكشف قارئ هذا الكتاب “مقدمة في علم أصول الفقه”أن مؤلفه سار على طريقة السؤال والجواب تسهيلاً على الطلاب واقتداء بمؤسس هذا العلم الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204 هـ).
مفهوم أصول الفقه
قبل الانتقال إلى استعراض الركائز الخمس لعلم أصول الفقه، ينبغي الإجابة على أسئلة جوهرية تتعلق بمفهوم أصول الفقه، منها على سبيل المثال: ما المقصود بعلم أصول الفقه؟ وما أهميته ومتى نشأ؟ وكيف كان الصحابة يفتون مع عدم وجود علم أصول الفقه؟ وفي محاولة للإجابة على الأسئلة السابقة، يمكن القول إن علم أصول الفقه علم يدرس الأدلة والقواعد الشرعية التي تُستنبط من خلالها الأحكام الشرعية، ويقوم على خمس ركائز أساسية هي: الأدلة الشرعية، وقواعد معاملة الأدلة الشرعية، والتعارض والترجيح فيما بين الأدلة الشرعية، والأحكام، والاجتهاد والتقليد.
وقد حظي علم أصول الفقه بأهمية بالغة عبر تاريخ الإسلام المجيد تتمثل في أن الشريعة عبارة عن مجموعة من الأحكام التي لا يمكن معرفتها دون علم أصول الفقه، فهو “قاعدة الشرع والأصل الذي يردُّ إليه الفرع”، وقد دفعت هذه الأهمية العلماء إلى القول إن يجهل علم الأصول لا تصح الفتوى منه، لأنه لا يدرك قواعد معاملة النص الشرعي، ومن الأمثلة على ذلك صعوبة تحديد المقصود بالرقبة في الآيتين التاليتين: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}، وقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.
والحقيقة أن نشأة علم أصول الفقه يمكن النظر إليها من زاويتين هما: علم الأصول بوصفه مسائل مفهومة، وعلم الأصول باعتباره مسائل مكتوبة، فإذا نظرنا إلى هذا العلم كمسائل مفهومة فإننا سنجد أنه كان موجوداً عند زمن الصحابة كسجية اللغة عند أهلها، و”لذلك لم يحتج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم” كما يقول ابن رشد الحفيد في كتابه “الضروري في أصول الفقه“، أما علم أصول الفقه كمسائل مكتوبة فقد تأخر ظهورها إلى القرن الثاني وتحديداً مع الإمام الشافعي رحمه الله.
الأحكام الشرعية
أشرنا في السطور السابقة إلى أن علم الأصول يدرس الأدلة والقواعد الشرعية التي تُستنبط من خلالها الأحكام الشرعية، ولكن ما مصدر الأحكام الشرعية ومن هو الحاكم؟ من المعلوم لدى المسلمين أن الحاكم هو الله جلّ جلاله وأن محمداً ﷺ مبلّغ لحكم الله تعالى للعالمين، ولكن حصل خلاف حول الجواب على سؤال: هل يصلح أن يكون العقل حاكماً ملزماً عند غياب النص؟ والذي يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو مذهب أهل السنة الذي عبّر عنه السبكي بقوله: “مذهب أهل السنة رضي الله عنهم أن الأحكام إنما تثبت من جهة الشرع ولا شيء منها عقلي”، كما عبَّر عنه أبو حامد الغزالي أيضاً بقوله: “وفي البحث عن الحاكم يتبيَّن أنه لا حكم إلا لله، ولا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكمُ الله عز وجل ووضعه لا حكم غيره”، ومن هنا يتضح أن العقل مؤكِّد لحكم الله وليس مؤسِّساً لحكم جديد.
ونحن إذا نظرنا إلى الأحكام في الإسلام وجدنا أنها تنقسم إلى قسمين: أحكام التكليفية وأحكام الوضعية، فالأحكام التكليفية “هي الأحكام الشرعية المتعلقة بما يصدر من المكلف”، وهي خمسة أحكام: الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، وقد اتفق العلماء على أن الإنسان لكي يكون مكلفاً مطالباً بأحكام الشريعة لا بد أن يتحقق فيه شرطان: أن يكون بالغاً، وأن يكون عاقلاً فاهماً، فبدون هذَيْن الشرطَيْن لا تكليف ولا إلزام بأحكام الشريعة الإسلامية، أما الأحكام الوضعية فتعرف بأنها “أحكام وضعها الشارع للدلالة على مطلوب شرعي”، وهي: السبب والشرط والمانع والصحة والبطلان، ومن توابعها: العزيمة والرخصة.
الأدلة الشرعية
وإذا كنا قد قلنا إن الأحكام تنقسم إلى قسمين: أحكام تكليفية وأحكام وضعية، فينبغي أن نقول هنا إنه لا يمكن لأيّ من الفقيه أو العالم إصدار الأحكام دون العودة إلى الأدلة الشرعية، وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس، فالقرآن يمثّل المرجعية التشريعية العليا لجميع المسلمين وعلاقة السنة النبوية بالقرآن وطيدة جداً، وتتمثل في ثلاث حالات: إما أن تكون مؤكدة للنص القرآن، أو مبينة له، أو إضافة، وبهذا يتضح أن القرآن والسنة دليلان أساسيان، أما الإجماع والقياس فهما دليلا فرعيان، ولكل منهما شروطه وأركانه.
ولكن الإشكال الذي يبرز في هذا المضمار هو أنه في بعض الأحيان قد تكون الأدلة الشرعية موجودة عند الفقيه والعالم، إلا أن هناك ظاهرة دائماً ما تعترض طريقهما أثناء التعامل مع الأحكام والأدلة الشرعية، وهي ظاهرة التعارض “الظاهري” في الأدلة الشرعية، مثل قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وقوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، فما الذي يفعل الفقيه أو العالم مع هذه الظاهرة؟
لقد توصل علماء الإسلام إلى أن التعامل مع ظاهرة التعارض “الظاهري” ينبغي أن يتم عبر خطوات معينة ومدروسة، أولها أن نحاول الجمع بين الدليلين الشرعيين المتعارضين “ظاهرياً”، والمقصود بـ “ظاهرياً” هنا أن أدلة الشرع لا تتعارض فيما بينها بل بحسب ما يبدو للعلماء والفقهاء، يقول نجم الدين الطوفي: “لا تناقض بين دليلين شرعيين، لأن الشارع حكيم، والتناقض ينافي الحكمة”. أما إذا لم نستطع الجمع بين الدليلين الشرعيين المتعارضين “ظاهرياً”، فينبغي اللجوء إلى الترجيح بينهما إما من خلال السند أو من خلال المتن، ومن الأمثلة على ذلك حديث: “من مسَّ ذكره فليتوضأ”، وحديث: “هل هو إلا مضغة منك”، فهذان الحديثان متعارضان “ظاهرياً”، ولهذا فقد ذهب الجمهور إلى العمل بالحديث الأول لأن رواته أكثر.
مباحث الألفاظ
يقوم علم أصول الفقه على مجموعة من المباحث المهمة تسمَّى (مباحث الألفاظ)، وقد قدم لنا الدكتور نايف بن نهار في كتابه خلاصة قيّمة عن تلك المباحث التي تشتمل عند علماء أصول الفقه على: الأمر والنهي، والمفاهيم، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، ولكل واحد من هذه المباحث دور محوري في تبيان وتسهيل معاني الشريعة للإنسان المخاطب، ولها أمثلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، فمن الأمثلة على الأوامر الشرعية قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقوله ﷺ: “صلوا كما رأيتموني أًصلي”، ومن الأمثلة على النواهي الشرعية قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وهناك قرائن تدلُّ على أن النهي يفيد التحريم، منها: أن تكون هناك عقوبة أو لعن أو وعيد على الفعل، وتكرار النهي عنه بصورة قطعية، وأن يتم ذم الفعل.
أما المفاهيم فتنقسم عند علماء الأصول إلى قسمين: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، فالأول (مفهوم الموافقة) يعرف بأنه “هو ما كان حكم المسكوت عنه في النص أولى أو مساوياً للحكم الذي نطق به”، ومن الأمثلة عليه أن ضرب الوالدين محرم، رغم أنه لا يوجد نص شرعي يقول بهذا التحريم حرفياً، ولكن هناك آية قرآنية تحرّم علينا أن نقول للوالدين كلمة (أفٍّ) وهي قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، وإعمالاً لمفهوم الموافقة يصبح من الواضح أنه ما دام الشرع الإلهي حرَّم علينا قول كلمة (أفٍّ) للوالدين فإنه من باب أولى حرَّم علينا ضربهما.
وعلى النقيض من مفهوم الموافقة نجد مفهوم المخالفة الذي يُعرف بأنه “هو أن نأخذ بعكس ما نطق به النص”، ومن الأمثلة القرآنية عليه قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}، ففي هذه الآية حكم قرآني واضح وهو أنه لا يجوز أن نقول إن الذين قتلوا في سبيل الله أموات، أما الحكم الثاني الذي لم تذكره الآية ولكننا نفهمه من مفهوم المخالفة فهو أنه يجوز أن نصف غير الذين قتلوا في سبيل الله بأنهم أموات، ولعل من المهم الإشارة إلى أن مفهوم المخالفة له عدة أنواع منها: مفهوم الشرط، ومفهوم الغاية، ومفهوم الصفة، ومفهوم العدد.
ونحن إذا كنا نستطيع من خلال مبحث النص والظاهر أن نفهم طبيعة دلالة الألفاظ، فنفرق بين اللفظ الذي يحمل معنًى واحداً دون احتمال (النص) وبين اللفظ الذي يدل على أكثر من معنى (الظاهر)، فإننا نستطيع كذلك من خلال مبحث العام والخاص أن نفهم بين طبيعة اللفظ العام الذي يشمل مجموعة من الأفراد دون حصر مثل قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وبين اللفظ الذي يدل على فرد معيَّن أو أفراد محصورين.
الاجتهاد والتقليد
ويعتبر الاجتهاد والتقليد من الركائز الأساسية في تاريخ علم أصول الفقه نظراً لارتباطهما بالأدلة والأحكام الشرعية، فغالباً ما يكشف لنا تعامل الفقيه مع النصوص عن مستوى وعيه ومدى دقة فهمه وقدرته على اللجوء إلى الاجتهاد أو التقليد في الوقت المناسب، وقد دفع حضور الاجتهاد في التاريخ الإسلامي العلماء إلى وضع شروط وضوابط تحكمه وتضبطه، فصار من شروط المجتهد: أن يكون عارفاً بعلم أصول الفقه، وصحيح الحديث من ضعيفه، وخبيراً باللغة العربية، كما صار من شروط تبليغ الاجتهاد: العدالة، ومعرفة الواقع، وعدم الاجتهاد في مورد النص، لكي لا يظن البعض أن الاجتهاد لعبة.
وبما أن المقلّد عادة ما يعمل بقول غيره دون العلم بدليل القول، فقد كان لزاماً على العلماء أن يبينوا أحكام التقليد كي لا يعتقد البعض أن الأحكام الشرعية يمكن أن تصدر بطريقة عشوائية دون التيقّن من صحة الحكم ودقة أدلته الشرعية، فأصبح من غير الممكن للمقلد أن يقلد أيّ مجتهد، بل صار من الواجب عليه أن يسأل من يثق فيه من العلماء المجتهدين، وقد ذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة، يقول ابن هبيرة: “الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة وأن الحق لا يخرجهم عنهم”.