تعرف سورة الناس (قل أعوذ برب الناس) مجموعة إلى سورة الفلق بالمعوذتين، إشارة إلى أمر الله تعالى نبيه بالتعوذ بهما، جاء في الحديث الصحيح: عن أبي سعيد الخدري، قال: «كان رسول الله ﷺ يتعوذ من عين الجان، ومن عين الإنس، فلما نزلت سورتا المعوذتين، أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك»[1]، وأمر النبي ﷺ عقبة بن عامر أن يقرأ بالمعوذات، وأطلق النبي ﷺ عليهما بالمعوذتين وبالمعوِّذات. ورجح ابن عاشور أن السورتين نزلتا متعاقبتين.
أما الغرض العام من هذه السورة فيظهر من إرشاد النبي ﷺ لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي ﷺ وإفساد إرشاده الناس، ويلقي في نفوس الناس الإعراض عن دعوته.
وفي هذا الأمر إيماء إلى أن الله تعالى معيذه من ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس. ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم من قابلية التعرض إلى الوسواس، ومع السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى. [التحرير والتنوير].
أوجه التشابه بين سورتي الفلق والناس؟
وتتضمن سورة الناس على نحو سورة الفلق كذلك استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه، وقد فصل ابن القيم هذه الأمور وبسط الكلام عنها، ونوجز هذه الأوجه فيما يأتي:
1. حقيقة الاستعاذة هي الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا، كما يسمى: ملجأ ووزرا. ومعنى «أعوذ» ألتجئ وأعتصم، وأتحرز. وحين يستعيذ المسلم بالله تعالى فإن العبارات التي تخفى وراءها كثيرة، منها الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه.
2. المستعاذ به: هو الله وحده، رب الناس، ملك الناس، إله الناس. الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم. ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره.
ووقعت في هذه السورة ثلاثة مضافات أوصافا لله تعالى المستعاذ به، وهي: رب الناس – وملك الناس – وإله الناس، وقد وجه ابن القيم هذه الإضافات ومما ذكر:
الإضافة الأولى، وهي في قوله: (رب الناس) إضافة الربوبية المتضمنة لحق الناس وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر عنهم، وحفظهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم. وذلك يتضمن قدرة الله تعالى التامة. ورحمته الواسعة، وإحسانه، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.
الإضافة الثانية: إضافة الملك في قوله: (ملك الناس) فالله تعالى ملك الناس المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق: الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم. فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية في قوله (إله الناس)، فهو إله الناس الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره. فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم. فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.
وهذه الأوصاف الثلاثة (قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس) كما أنها مشتملة على جميع أصول التوحيد، من إقرار الناس بالإلهية ختى العبادة، فإنها تشعر بمراتب النظر في معرفة الله تعالى، “فإن الناظر يعلم بادىء ذي بدء بأن له ربا يسبب ما يشعر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر فيشعر بأن ربه هو الملك الحق الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم”[3].
3. المستعاذ منه في سورة الناسفهو الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها. وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
فسورة الفلق: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد. وهو شر من خارج. وهو لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه، لأنه ليس من كسب الإنسان نفسه. وأطلق على هذا النوع ابن القيم بما سماه شر المصائب.
وسورة الناس: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل. وهذا يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي. فهذا شر المعائب.
فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات. وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة[4].
ما هو الوسواس الخناس؟
والوسواس يشمل الشياطين التي تلقي في أنفس الناس الخواطر الشريرة، قال تعالى: (فوسوس إليه الشيطان) [طه: 120]، ويشمل الوسواس كل من يتكلم كلاما خفيا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سرا لئلا يطلع عليها من يريدون الإيقاع به[5].
ووصف الوسواس بالخناس أي شديد الخنس وهو الاختفاء بعد الظهور، والشيطان يلقب بـ(الخناس) لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنه خنس فيه، وأهل المكر والكيد والتختل خناسون لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم[6]. وذكر هذا الوصف هنا مع الوسواس لتقريب تصوير الوسوسة التي تحدث في نفس الإنسان وخاطره، والتي تردد إليه بالغرور والمعاصي.
موضع الوسوسة في الإنسان
وجاء التأكيد في سورة الإنسان على حقيقة هذه الوسوسة بأوصاف ثلاثة هي:
أحدها: ذكر الوسوسة وشرها، ثانيها: وأنها تختفي وتعود حتى تؤثر، ثم أكد ذلك ثالثا: بذكر محلها، وهو صدور الناس.
فالشيطان يوسوس إلى الإنسان كلما غفل عن ذكر الله تعالى، فإذا ذكر الله تعالى انخنس واختفى. ولا بد من علاج الوسوسة لأنها داعية الشر وحاملة على المعاصي، وكان من علاجه الذكر الدائم وتلاوة القرآن، وعصيان أوامر الوسوسة لأنها من الشيطان، وملازمة الطاعات والعبادات، واتباع كل ما أمر الله تعالى، والانتهاء عن كل ما نهى وزجر، وغير ذلك من الأمور.
قال ابن القيم: وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره. فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث صفية بنت حيي قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرعا. فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم:
على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا».
[1] أخرجه الترمذي (2058)، وابن ماجة (3511) والنسائي في المجتبى والكبرى، قال الترمذي: حسن غريب.
[2] «التحرير والتنوير» (30/ 632)
[3] التحرير والتنوير (30/633).
[4] التفسير القيم (663).
[5] التحرير والتنوير.
[6] المرجع السابق.