شهدت الأندلس في عصرها الإسلامي نهضة زراعية شاملة عدد جوانبها ابن المقري في كتابه (نفح الطيب)، فذكر أن أهلها برعوا في استنباط المياه، وغرس النباتات، واختيار أجناس الفواكه، وتحسين البساتين بأنواع الخضر والزهر، وغرس الأشجار وتشذيبها “فهم أحكم الناس لأسباب الزراعة” كما وصفهم.  وما ذهب إليه المقري ليس محض مبالغة وتعضده الدراسات الحديثة حيث يفترض فيليب حتى أن التقدم الزراعي كان من أمجاد أسبانيا المسلمة الحقيقية، ويشاركه الرأي جوزيف ماكيب الذي يقرر أن العرب لم يتركوا بها فدانا واحدا غير محروث أو مزروع عدا الغابات والجبال. وفي طليطلة ظهر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي، الذي كرس جهوده على الزراعة، وطبقت شهرته الآفاق وصارت أساسا لمن أتى بعده ممن كتبوا في علوم الزراعة. 

بلغت نهضة الأندلس الزراعية أوجها خلال القرنين الخامس والسادس في عهد ملوك الطوائف ثم الموحدين، وتركزت في المدن الكبرى: قرطبة وطليطلة وإشبيلية وغرناطة والمرية، حيث عاش عدد من العلماء الزراعيين الذين طبقت شهرتهم الآفاق؛ ففي قرطبة اشتهر أبو القاسم الزهراوي الطبيب المعروف الذي وضع مختصرا في الفلاحة، وفي غرناطة ظهر محمد بن مالك التغنارى صاحب كتاب “زهرة البستان ونزهة الأذهان”، وفي أشبيلية ذاع صيت يحيى بن محمد العوام صاحب كتاب (الفلاحة الأندلسية) الذي طبع في سبع مجلدات، وأما طليطلة فعاش بها كل من ابن وافد صاحب (المجموع)، وظهر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي الذي كرس جهوده وقصرها على الزراعة، وطبقت شهرته الآفاق وصارت أساسا لمن أتى بعده ممن كتبوا في علوم الزراعة. 

ابن بصال وكتابه الفلاحة

هو محمد بن إبراهيم بن بصال، ولد في طليطلة بالأندلس، ولا يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته، لكن المصادر تتفق أنه كان من أهل القرن الخامس، وترجح دائرة المعارف الإسلامية أن وفاته كانت بقرطبة عام 499ه، وقد أدى فريضة الحج فارتحل من وطنه عبر صقلية ومصر وعاد محملا بالكثير من المعلومات عن نباتات الشرق وطرق الزراعة به.

نشأ ابن بصال في الوسط العلمي الزاخر الذي امتازت به طليطلة في عهد ملكها المأمون، ومن معاصريه ابن صاعد صاحب كتاب (طبقات الأمم)، وابن وافد الطبيب الشهير صاحب كتابي: (الأدوية المفردة) و(الفلاحة)، والزرقال العالم الزراعي والفلكي، ودخل في خدمة الخليفة المأمون وأشرف على بستانه الكبير، وكتب لأجله دراسة عن علم الزراعة أسماها “ديوان الفلاحة”، وله مختصر في ستة عشر بابا تحت عنوان (كتاب القصد والبيان)، وبعد استيلاء “الفونسو السادس” ملك قشتالة على طليطلة (٤٧٨ هـ/ ١٠٨٥ م)، انسحب ابن بصال إلى أشبيلية، إلى بلاط المعتمد حيث أقام له حديقة ملكية، واستقر بها لبضع سنوات ثم غادرها إلى قرطبة وكانت وفاته بها.

صدر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي لأول مرة مطبوعا ومحققا بتطوان المغربية عام 1955 عن معهد مولاي الحسن، حققه وترجمه إلى الإسبانية خوسي مارية بييكروسا الأستاذ بجامعة برشلونة وعاونه في التحقيق الأستاذ محمد عزيمان، وصدر الكتاب والترجمة معا في نحو أربعمائة صفحة، ولم يستطع المحققان تحديد عام تأليفه إذ لم يدون مصنفه تاريخ الانتهاء من تأليفه على عادة المصنفين التراثيين، وإنما اختتمه بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه والترضي على آل بيته الأكرمين، ويفتقر الكتاب إلى وجود فهرس للمصطلحات العلمية وأسماء النباتات والبذور الواردة فيه، وهي الطريقة الحديثة المتبعة في التحقيق، ولا ندري لماذا لم يقم المحققان بإعداده تيسيرا على من أراد استخراج مادة أو مصطلح.

انتشر الكتاب انتشارا واسعا ونقلت عنه جميع المصنفات اللاحقة؛ فذكره أبو الخير الإشبيلي في كتابه (عمدة الطبيب)، ويظهر أنه اتصل بالبصال وجرت بينهما لقاءات ومكاتبات، ونقل عنه ابن العوام في كتاب (الفلاحة) وأشاد بالكتاب والتجارب العملية لمؤلفه، واعتمد عليه عثمان التوجيبي في أرجوزته المعنونة (إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة فى أصول صناعة الفلاحة) وأشاد به صاحب (نفح الطيب) واعتبره أبرع الزراعيين الأندلسيين، ولحاجة الأسبان إلى علم الزراعة قاموا بترجمته إلى اللغة القشتالية، وقد استعان الأستاذ بييكروسا بهذه الترجمة القديمة لأجل استكمال الفصول الناقصة من الكتاب في طبعته العربية. 

خصائص الكتاب ومنهجه

لا يسع المتتبع لكتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي إلى أن يعجب بمصنفه العالم الكبير الذي يمكن أن يوضع في مصاف العلماء الذين أسهموا في تطور العلوم الزراعية، ولعله أول من حرر المعلومات الزراعية من الخرافات والأباطيل إذ كانت الزراعة فيما مضى ترتبط بالسحر والتنجيم، وجعلها ابن بصال ترتبط على البحث والتجربة العملية، وهو يمتاز عن سائر المؤلفات الأندلسية بكونه مستمدا من التجربة الذاتية والمشاهدة العيانية لمؤلفه إلى أقصى حد، وأنه جاء خلوا من النقل عن الأقدمين من يونان ورومان وبابليين أو كتابات المعاصرين له، لكن هذا لا يعني أنه لم يطالع ما كتبوه لكنه بنى كتابه على تجاربه الذاتية. 

وحول هذا المعنى قالت دائرة المعارف الإسلامية أن: “الدراسة التي كتبها ابن بصال فريدة في أنها لا تتضمن أية إشارة إلى علماء الزراعة السابقين؛ ويبدو أنها اقتصرت على تجارب المؤلف الشخصية، الذى يعتبر أكثر المتخصصين العرب الأسبان أصالة وموضوعية”.

أما المحققان فيقولان “أن الكتاب يبقى ممتازا بطابعه الخاص ككتاب مدرسي مختصر ثمرة تجربة زراعية مباشرة”، ويضيفان ” لقد تجنب ابن بصال في كتابه جميع المسائل الثانوية البعيدة عن التطبيقات الزراعية العملية على العكس من كثير من الزراعيين العرب الذين لا نجد عندهم حدا واضحا، يفصل بين علم الزراعة الحقيقي وبين الطب والصيدلة والسحر والتنجيم… وهذه التجربة العملية المباشرة تصل في بعض الأحيان إلى عرض وجهات فيها إرهاص بالنظريات الزراعية الحديثة”.

ويتميز منهج ابن بصال بالترتيب الموضوعي، والإحكام فهو يخصص كتابه لدراسة زراعة النباتات والأراضي الملائمة لها والأسمدة والآبار وما يتصل بهما، ولذلك لا يتناول زراعة الحبوب البرية كالقمح والشعير، ولا يتطرق لتربية المواشي وعلاج أمراضها وهي موضوعات تحدث فيها ابن وافد وابن العوام وغيرهما من النباتيين، ويتسم أسلوبه بالاختصار والإيجاز وهذا يتسق مع كون الكتاب مختصرا لكتاب آخر.

موضوعات الكتاب

يقع كتاب (الفلاحة) في ستة عشر بابا تتفاوت في الطول والقصر، وهي على النحو التالي:

الباب الأول، في ذكر المياه وأصنافها وطبائعها وتأثيرها في النبات، وهو يقسمها إلى أربعة أنواع؛ مياه الأمطار، مياه الآبار ومياه العيون، مياه الأنهار، والباب الثاني في الأرض وأنواعها، وهو يقسمها إلى عشرة أصناف، ويبين طبائع كل صنف، وكيفية تمييز الأرض الجيدة والأرض الرديئة، والباب الثالث في ذكر السماد وأنواعه وطريقة استعمال كل نوع منه، ومما يسترعي الانتباه أن ابن بصال يحذر من استعمال روث الخنزير كسماد وربما يكون متأثرا في ذلك بالعقيدة الإسلامية، وفي الباب الرابع يتحدث عن اختيار الأرض وإصلاحها.

أما الفصل الخامس فهو فاتحة الفصول العملية، وهو طويل نسبيا إذ يضم 35 فصلا ويتحدث فيه عن “فن الغراسة” متناولا غرس الأشجار المختلفة والأمراض التي تعتريها، ويتناول الفصل السادس طرائق الغرس فيذكر طريقة ” الغراسة بالتكابيس” و”الغراسة بالملوخ” و”الغراسة بالنوى”، ويدرس الفصل السابع طرق تشذيب الأشجار، وكيفيتها، وتوقيتاتها.

والبابان الثامن والتاسع مخصصان لدراسة التلقيح الشجري، ويقوده هذا إلى دراسة أجناس الأشجار ويحصرها في: الأشجار ذوات الزيوت، والأشجار ذوات الأصماغ، والأشجار ذوات الألبان، والأشجار ذوات المياه، وهو يبين طبيعة كل جنس وأنواع الأشجار التي تندرج تحته، ويتوصل من ذلك إلى أنه لا ينبغي تلقيح شجرة إلا بشجرة من جنسها عدا بعض الاستثناءات المحدودة.

 وأما الباب العاشر فهو مخصص لفن الزراعة وهو يتناول زراعة الحبوب والأقطان لكن كما يلاحظ المحققان أنه لا يتناول زراعة القمح والشعير لكنه يقصر حديثه عن الحبوب التي تزرع في البساتين كالأرز والحمص، وفي الباب الحادي عشر يتناول زراعة البذور المتخذة لإصلاح الأطعمة كالتوابل (كمون، كزبرة، ينسون…)، وفي الباب الثاني عشر يتناول زراعة النباتات الجذرية كالقرع والبطاطا والبطيخ والقثاء، وفي الباب الثالث عشر يدرس زراعة البقول ذوات الأصول كاللفت والجزر والفجل، وفي الفصل الرابع عشر يدرس زراعة البقول المختلفة، أما الفصل الخامس عشر فهو مخصص لزراعة الرياحين والأزهار كالورد والنرجس والبنفسج.

ويختتم الكتاب بالباب السادس عشر وهو جامع لأبحاث مختلفة تتعلق بالمعارف الزراعية، من قبيل مكافحة ديدان الأرض، وكيفية تخزين الثمار والأزهار، وكيفية اختيار المكان الملائم للآبار وتخزين المياه، وطرق صنع المصنب وهو نوع من المربى، وما إلى ذلك من أمور يحتاجها الزراع.

تبين هذه الموضوعات جانبا من أهمية الكتاب الذي يبين المحصولات الأندلسية وطرائق الزراعة، أما الجانب الآخر فهو اشتماله على مصطلحات عربية تفيد الاختصاصيين الزراعيين في زمننا الحاضر ويمكن استخدامها في مقابل المصطلحات الأجنبية، كما يعتقد الأستاذ كرد علي، يضاف إلى ما سبق أنه يقدم لنا أسماء عدد كبير من آلات الزراعة الأندلسية ووظائفها، وهي تمثل جانبا خفيا من جوانب النهضة التقنية العربية.

وفي الأخير، يمثل كتاب الفلاحة لابن بصال يمثل مصدرا مهما ومرجعا لا غنى عنه لمن يريد الوقوف على البحوث العلمية الزراعية عند العرب والمسلمين.