المتأمل في لعبة كرة القدم، لاسيما في نسختها العالمية المجمعة، أي بطولة كأس العالم؛ يجد أنها نموذج للتحولات التي أصابت الكثير من مظاهر حياتنا، وبالتالي من المهم مراجعة ما نصدره تجاهها من تصورات فكرية وأحكام قيمية.

وأول ما يمكن ملاحظته هنا أن لعبة كرة القدم، والألعاب الرياضية عموما، لم تعد تلك الوسيلة التي كان الناس يمارسونها بصورة فردية، وبدافع من الترفيه، أو مجرد بناء جسم رياضي.. وإنما صارت “صناعة” مثل أي صناعة نراها في المجتمع؛ لها رأسمال ضخم جدًّا، وتقوم عليها شركات كبرى في الرعاية والدعاية، ولها “مجتمع كامل” يستفيد منها وتقوم مصالحه عليها (ومثل ذلك يقال أيضًا في “الفنون”).

انتقلت “الرياضة” من هامش الحياة إلى مركزها.. ومن ممارستها الفردية إلى طبيعة المؤسسية.. ومن الهواية إلى الاحتراف.. ومن البساطة في الأداء إلى التعقيد في الإجراءات والتمويل.

ولا شك أن هذا كله له تأثير على جانب التصور والفكر بل والفتوى، حين التعامل مع مسائل تختص بالرياضة.. فقد كان البعض قديمًا لا يتصور مسألة “احتراف الرياضة” كوظيفة، وينظر إليها في إطار “الترفيه” فحسب.. الآن صار من الصعب ذلك، لاسيما إذا تحدثنا عن الرياضة كممارسة جماعية في الدول والمجتمعات، وليس كهواية للأفراد.. حتى رأينا بعض الفتاوى تجيز للاعبين الإفطارَ في رمضان (بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك)؛ إذ هي رأت في الممارسة الرياضية ضرورةً تستدعي معاملتها كبقية الضرورات التي تبيح الفطر في رمضان.

وبالتوازي مع هذا “المستوى الفقهي”، هناك “المستوى الدعوي”؛ والذي نتساءل فيه: هل يمكن، والحال هكذا، الاستمرار في الرؤية الدعوية التي ترى الرياضة مضيعةً للوقت، الذي يجب أن نصرفه فيما يعود بالنفع علينا وعلى غيرنا؟!

صحيح أنه يمكن القول في الرد على ذلك، بأن الكثيرين اكتفوا في “الرياضة” بالمشاهدة لا الممارسة.. وأصابهم التعصب لِفِرَقهم وأنديتهم، بدلاً من أن يتحلوا بـ”الأخلاق الرياضية“؟

ولا شك أن هذا القول صحيح.. لكن، ألا يطرح ذلك تساؤلاً آخرَ عن كيفية التعامل مع الأوضاع المجتمعية التي اختلط فيها الصواب بالخطأ؟ وهل وظيفة الداعية أن يلوم الناس ويجلدهم، أم يفتح لهم رؤى جديدة في التوجيه والفعل، برفق وواقعية؟

أليس من الصواب أن يكون الحديث عن التسامح وعدم التعصب، بدلاً من رفض المسألة من أساسها؟ وأن يتم لفت النظر لضرورة الممارسة مع التشجيع، بدلاً من الحديث عن ضياع الوقت فحسب؟

بمعنى أوسع: كيف يتصور الداعية سلوك الناس في حياتهم؟ هل المطلوب أن يظلوا إما في حالة عمل بحثًا عن لقمة العيش أو في حالة تنسك وانشغال بالشعائر؟ أم الحياة أوسع من هذا، وحاجة الإنسان أكبر من ذلك، لا سيما في حياتنا الضاغطة التي لم يعد الترفيه فيها مجرد اختيار، بل صار ضرورة مثل الضرورات التقليدية من المأكل والمشرب؟

ثم إذا جئنا لبطولات كأس العالم، لكرة القدم أو لغيرها من الألعاب الرياضية.. فمن اليسير ملاحظة أن هذه البطولات أصابها الكثير من التحولات حتى صارت مجالاً لأمرين مهمين:

الأول: هو التعبير عن التنافس أو الصراع بين الدول، والذي تُستخدم فيها الوسائل المشروعة وغيرها.. حتى صارت “صناعة الرياضة” مجالاً لذلك مثل أي صناعة أخرى تكون محلاً للتجاذب أو التنافس بين الدول.

الثاني: أنها أصبحت أحد مظاهر تجليات التنوع الحضاري أو الثقافي بين الأمم والشعوب، خاصة مع انتقال تنظيم هذه البطولات بين قارات العالم.. ففي أيام معدودات تلتقي شعوب كثيرة في مدرجات التشجيع أو حول الشاشات، وتتعرف إلى ثقافات متنوعة وأطياف مغايرة.. مما يعزز رؤية التنوع والتعدد، وبأن العالم أوسع بكثير من دول محدودة، حتى لو كانت صاحبة النفوذ في الاقتصاد أو السياسية.. ففي مجال الرياضة وساحات االملاعب يكون الجميع على قدم المساواة، رغم ما بينهم من فوارق اقتصادية وعسكرية خارج الملاعب!

ولهذا، تنتهز كثير من الدول هذه الملتقيات في التعريف بثقافاتها، وإبراز نقاط تميزها وثرائها.. ولو بطرق غير مباشرة.. فـ”الصورة” هنا تقوم مقام الكلمة، و”الإشارة” تغني عن التصريح، و”الرمزية” قد تكون أبلغ في توصيل الرسالة!

غاية ما أريد قوله هو أن “الرياضة”، وتحديدًا كرة القدم باعتبارها الأكثر شعبية في دول كثيرة، لم تعد مجرد لعبة؛ وإنما أصبحت صناعةً مثل أي صناعة في المجتمع، ومظهرًا من مظاهر التنوع الثقافي والحضاري، وأحيانًا الصراع أيضًا..

وبالتالي، فخطابنا الفكري أو الدعوي ينبغي أن يراجع نفسه بشأن التصورات والأحكام عن ذلك.. وبدلاً من جلد الناس واتهامهم وهم يبحثون عما يمكن أن يتخففوا به من ضغوط الحياة، علينا أن نوجههم لكيفية الاستفادة من ذلك.. وهذا يكون بأمرين:

– احترام أو تقدير الرغبة في الترفيه، ما لم تختلط بإثم أو ارتكاب محرم.

– توجيه النظر لترتيب الأولويات والاهتمامات، وبأن الترفيه وإن صار ضرورة في حياتنا فينبغي ألا يطغى على ضرورة أخرى، أو يؤدي لفوات ما هو أشد ضرورة.

وبزاوية أوسع، علينا أن نعترف بأن العقل الفقهي أو الدعوي المعاصر ما زال لديه قصور كبير في تصور طبيعة حياة الناس، وما زال يجنح لكثير من المثاليات التي قد لا تتناسب مع حاجات الإنسان، لاسيما في مثل واقعنا المليء بالضغوطات.

وهذه ليست دعوة إلى التفلت من “الأحكام” بزعم مسايرة العصر، ولا لِجَعْل “الواقع” هو الأساس فيما نتصوره ونفعله.. ولكنها دعوة إلى عدم الانفصال عن الواقع، وإلى مراعاة ما يطرأ على حياة الناس من تحولات، وأيضًا إلى كيفية تقديم خطاب دعوي هادئ يرفق بالناس ويوجههم من غير تفلت أو مصادمة.