الطيرة أمر اشتهر في الجاهلية وبقي أثره في هذا العصر بسبب قلة العلم أو اللامبالاة التي أصابت بعض الناس، وربما يتطير من أمر دون إدراك، أو فعل شيئا يدل على التطير ولا يكترث، لأنه يراه عاديا، وأما الإسلام فقد نهى عن التطير والتشاؤم بأشكالها وصورها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌لا ‌عدوى ‌ولا ‌طيرة، ولا هامة ولا صفر)[1]. فدعا الإسلام إلى الاعتقاد الصحيح، وأن الأثر الحقيقي من الله تعالى وبقضائه وحكمه، في جميع الأحوال السراء منها والضراء، الصحة والمرض، لذلك جاء النفي عن العدوى والطيرة مطلقا.

وحديث (لا عدوى ولا طيرة) يعد أصل بطلان التشاؤم ووجوب التزام الهدي الصحيح وهو الفأل الحسن. ونريد شرح جميع ألفاظ الحديث بشكل يرفع اللبس ويعين على فهم الحديث فهما صحيحا يعيد النشاط والحيوية إلى الإنسان الذي تأتيه الشبهة من قبل هذا الموضوع.

معنى (لا عدوى)

العدوى هو مجاوزة العلة من المعلول إلى غيره، والمعنى: أن مصاحبة المعلول ومواكلته لا توجب حصول تلك العلة، ولا تؤثر فيها، لتخلفها عن ذلك طردا وعكسا.
وأما الأول – وهو عدم حصول العلة – فلأن كثيرا ما يصاحب الرجل من هو مجذوم أو أجرب ولا تتعدى إليه علته، وإليه أشار فيما روي جابر: أنه – عليه الصلاة والسلام – أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة.
وأما الثاني – وهو عدم تأثير العلة – : فلأن أكثر ما يعرض هذه الأمراض إنما تتعرض حيث لا تكون ثَمَّ تعدية، وإليه أشار في الحديث الذي بعد هذا بقوله: “فمن أعدى الأول؟ “.
وكانت العرب في الجاهلية تعتقد أنّ المرض يعدي بطبيعته وينتقل إلى الصحيح فأنكر – صلى الله عليه وسلم – اعتقادهم.

قال البيضاوي بعد ذلك:

«لكنها قد تكون من الأسباب المقدرة التي تعلقت المشيئة بترتيب تلك العلة عليها بالنسبة إلى بعض الأشخاص بإحداث الله تعالى، فعلى العاقل أن يتحرز عنها ما أمكن تحرزه عن الأطعمة المؤذية، والأشياء المخوفة، وإليه أشار بقوله: “وفر من المجذوم كما تفر من الأسد” وفي قوله للمجذوم في حديث جابر: “كل ثقة بالله، وتوكلا عليه”»[2]

بين حديث (لا عدوى) و(لا يورد ممرض على مصح)؟

قد يتعارض في الظاهر هذا الحديث (لا عدوى ولا طيرة) مع ما جاء في رواية أخرى: (لا يورد ممرض على مصح)، وذلك أن الحديث الأول ينفي وجود العدوى وهو دعوى انتقال المرض وتأثيره بنفسه، ثم يأتي النهي كذلك في الحديث الثاني عن دخول المريض على الصحيح حتى لا يعديه، فبينما كان الحديث الأول ينفي العدوى، فإن الحديث الآخر يثبته.
وللتوفيق بين هذين الحديثين ينقل القاضي عياض أوقال العلماء بما يأتي:
قال القاضي عياض: اضطرب الناس .. فأسقط أحدهما، فقال بعض أصحابنا: ” لا يورد ممرض على مصح ” منسوخ بقوله: ” لا عدوى “.
وقال آخرون: ليس بينهما تناف فيقتصر إلى المنسوخ، ولكن نفى العدوى، وهي اعتقاد كون بعض الأمراض بفعل في غيرها بطبيعتها، وأما أن يكون سبباً بخلق الله – سبحانه – عندها مرض ما وردت عليه فلم ينفه، فإنما نهى أن يورد الممرض على المصح؛ لئلا يمرض الصحاح من قبل الله جلت قدرته عند ورود المرضى، فيكون المرضى كالسبب فيها.

وقال آخرون: إنما المراد هذا الاحتياط على اعتقاد الناس لئلا يتشاءم بالمريض فيأثم فى هذا الاعتقاد.

وقال آخرون: إنما ذلك التأذي بمشاهدة المرضى، ويقبح صور الجذماء، وتعذيب النفس برؤيتهم، والتأذي بها قد يكون منهم من رائحة تؤذي، وهو المراد بما يوقع فى بعض الأحاديث: ” فإنه أذى “.

وقال بعض أصحابنا: هذا إن كان مندوحة عن مخالطة من يتأذى به كره للوارد وإلا فلا، وكذا فى أهل الجذام إذا تأذى الناس بمخالطتهم فى البئر، فإن كان لهم مندوحة بماء آخر ينصرفون إليه أمروا أن ينصرفوا إليه، دفعًا للضرر عن هؤلاء، وإن لم يكن لهم مندوحة قيل للآخرين: أوجدوهم العوض وإلا فشاركوهم؛ لأن كل في ذي مال أحق بماله[3].

ونرى الاختلاف في تفسير الحديث والتوفيق بينه وبين حديث لا يورد ممرض على مصح، والذي يظهر ان نفي العدوى هنا من باب منع التشاؤم واعتقاده مؤثرا بطبيعته، وإثبات أن المعدي بقدر الله تعالى، إن شاء أعدى وإلا فلا، ولكن يمتنع المريض من الدخول على الأصحاح لئلا يكون سببا في انتشار الأمراض، وهذا تكليف خاص به وهو في حالة المرض، وإذا عدي غير المريض فلا ينسب الأمر إلى العدوى أو المريض ، لأن الله هو المسبب الحقيقي فلا ينسب الأمر إلى السبب فينسى السنن الإلهية في خلقه وقدرة الله عليهم.

قال ابن الملقن:  

«والصواب عندنا ما صح به الخبر عنه أنه قال: “لا عدوى”، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها، فأما دنو عليل من صحيح فإنه غير موجب للصحيح علة وسقمًا، غير أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب الجذام والعاهة التي يكرهها الناس، لا أن ذلك حرام، ولكن حذرًا من أن يظن الصحيح إن نزل به ذلك الداء يوما إنما أصابه لدنوه منه فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه – صلى الله عليه وسلم – وأبطله من أمر الجاهلية في العدوى»[4].

وهذا ما اختاره البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَنْ به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك.

ولهذا قال: “فر من المجذوم كما تفر من الأسد” وقال: “لا يورد ممرض على مصح”. وقال في الطاعون: “من سمع به بأرض فلا يقدم عليه”[5]. وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال: “فمن أعدى الأول”[6].

قوله (ولا طيرة)

“الطيرة”: التفاؤل بالطير، وكانوا يتفاءلون بأسمائها وأصواتها وسنوحها وبروحها.

وكانت هذه من عادات العرب في الجاهلية أنهم كانوا يزجرون الطير تفاؤلا به على ما يقصدونه من الأمور، ولذلك أوجه:

  • ما كان يحكي عن العرب من زجر الطير وإعاجها عن أوكارها عند إرادة الخروج للحاجة فإن مرت على اليمين تفاءلت به ومضت لوجهها، وإن مرت عن الشمال تشاءمت به وقعدت وكانوا يتطيرون بصوت الغراب ويناولونه البين.
  • ما يحكي عن الأعاجم أنهم كانوا يتشاءمون عند الخروج بالغداة برؤية الصبي يذهب به إلى المعلم، ويتيمنون إذا خرجوا للحاجة ورأوا صبيًا يرجع من عند المعلم إلى بيته. ويتشاءمون برؤية السقاء وعلى ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة ويتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع حمله ويحكي، والدابة التي حط عنها حملها.

فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر مما كان على أي حال كان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقروا الطير على مكناتها)[7] أي لا تزعجوها وتطيروها لتنظروا كيف تمر فتظعنوا أو تقعدوا[8].

يقول الإمام الشافعي:

«في قوله: ” أقروا الطير على مكناتها ” كان أحدهم إذا غدا من منزله يريد أمرا يطير أول طائر يراه فإن سنح عن يساره فاجتال عن يمينه قال: هذه طير الأيامن فمضى في حاجته ورأى أنه سيستنجحها، وإن سنح عن يمينه فمر عن يساره قال: هذه طير الأشائم فرجع، وقال: هذه حاجة مشئومة ، وإذا لم ير طائرا سانحا ورأى طائرا في وكره حركه من وكره؛ ليطير فينظر ما يسلك له من طريق الأشائم، أو من طريق الأيامن فيشبه قوله: ” أقروا الطير في مكناتها ” أي لا تحركوها فإن تحريكها وما تعملون له من الطيرة لا يصنع شيئا، وإنما يصنع فيما تتوجهون له قضاء الله تعالى»[9].

معنى قوله “ولا هامة”

و(الهامة) هاهنا طائر كانوا يتشاءمون به، وهو من طير الليل، وقيل: البومة كما سلف، وصوب الطبري أنه ذكر البوم. وقيل: كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت. وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت -وقيل: روحه- تصير هامة فتطير، ويسمونه: الصدى، فترفرف عند قبره حتى تقاربه، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه[10].

معنى قوله “ولا صفر”

و”لا صفر”: أيضا نفي لما كانت العرب تزعم أنه حية في بطن الإنسان تعضه وتلدغه إذا جاع وخوى بطنه، ويسمونها صفرا. ورجحه الإمام النووي[11].

ويطلق على الشهر المعروف الذي يأتي بعد المحرم، كان بعض الناس في الجاهلية يتشاءمون منه.

قال ابن عثيمين وهو يشير إلى بعض آثار هذا الاعتقاد الفاسد: ومنهم من يتشاءم بشهر صفر صفر الذي بعد محرم ويقولون لو عمل فيه الإنسان أي عمل زواج، أو ولد له فيه، أو سافر فيه فإنه لا يوفق وهذا أيضا باطل ولا أثر بالشهر في تفاؤل ولا في تشاؤم ولهذا قال بعض الناس يقابل البدعة ببدعة يسمى صفر صفر الخير وهذا أيضا لا يجوز فصفر مثل محرم مثل ربيع الأول ومثل أي من الشهور لا فيه تشاؤم ولا تفاؤل ولا يجوز أن نداوي البدعة ببدعة[12].

وقد جاء النهي عن هذه الأمور كلها لأنها تعارض أصول عقيدة الإسلام في التوكل على الله تعالى، وحسن الظن بالله، وأمرنا الله تعالى بالفأل الحسن، يقول الله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131]. كما أن هذه الأمور لا تأتي بخير أو بحسنات بنفسهات ومن هنا يجب الحذر من العمل بهذه الامارات وما في معناها، لما قد يؤدي إليه من الشرك وترك الاعتماد الصحيح على الله تعالى.


[1]  أخرجه البخاري (5425) ومسلم (2220).

[2]  «تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة» (3/ 182)

[3]  «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (7/ 142).

[4]  «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» (27/ 425).

[5]  البخاري: الجمعة (1013) ، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)>

[6]  البخاري: الجمعة (1014) ، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)

[7]  سنن أبي داود (2835) عن أم كرز، والحديث صحيح الإسناد.

[8]  «المنهاج في شعب الإيمان» (2/ 20)

[9]   «شرح مشكل الآثار» (2/ 258).

[10]  «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» (27/ 444).

[11]  شرح صحيح مسلم للنووي (14/215).

[12]  «شرح رياض الصالحين لابن عثيمين» (6/ 415).