في بحث القضاء والقدر يجبُ أن نفرِّق بين المشيئة والرضا، فالله تعالى يشاءُ كلَّ ما يجري في هذا الكون أو يكون، وما من حركة ولا سكون إلا بإذنه، ومشيئته، وإرادته، فإن أراد الشيءَ كان، وإلا لم يكن. وكلُّ ذلك لحكمةٍ أرادها، وهو الحكيم الخبير: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]

فهو سُبحانه وتعالى يريدُ الإيمانَ، والحقَّ، والخير، والفضائل، ويرضى بذلك، ويريدُ الكفر، والباطل، والشر، والرذيلة، ولكنه لا يرضى بها، يريدُها لأنه أعطى حريةَ التصرُّف، ولم يُكره أحداً على خير ولا شرّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]

أي: ولو شاء الله أن يُكرهَكم على شيء لجعلكم جميعاً على ملَّة واحدة، ولكنه أعطاكُم حريةَ التصرُّف؛ لأنه خلقكم ليمتحنكم: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]

فإِذا أردتم النجاحَ في سباق الخلود بصحبة الخالق العظيم، والنَّجاة من عِقابه الأليم، فاستبقوا الخيرات، فإليه المرجعُ والمآب، حيثُ جزيل الثواب، أو شديد العقاب: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25-26]

ويفسر ما مرّ معنا قوله تعالى في سورة الأنعام: {‌وَلَوْ ‌شَاءَ ‌اللَّهُ ‌لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]

وقوله تعالى : {‌وَلَوْ ‌شَاءَ ‌اللَّهُ ‌مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [107]

وقوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [112]

وقوله تعالى : {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [149]

والمفعول به لفعل شاء محذوف، أي: لو شاء إكراهكم على شيء لأكرهكم على الهدى، ولكن أعطاكُم حريةَ التصرف ليسعدكم، ويصدق الابتلاء والامتحان. وفي حرية التصرُّف والاختيار كرامةٌ لكم وسعادة.

وهذه الآياتُ من سورة الأنعام – ولها في القرآن أمثالٌ أخرى – واضحةُ الدلالة على أَنَّ الله تعالى منح الإنسانَ حرية التصرف لامتحانه وسعادته، وأمره بما ينجيه، ونهاه عمَّا يُرديه، فإن استجابَ أراد اللهُ تعالى ورضي، وإن عصى أراد الله ولم يَرْضَ.
قال تعالى: { ‌إِنْ ‌تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]

وسأضرب لك – عزيزي القارئ – مثلاً تدركُ منه الفرقَ بين المشيئة والرضا. كل والد يحبُّ ولده، ويرجو له التوفيق، والسعادة، والرضا. فإن كان عاقًّا فاسِداً نصحه، وصبر عليه كثيراً، فإذا تمادى الولدُ في عقوقه وفساده، طرده والده من بيته بإرادته، حتى إذا ذهبَ الولدُ دمعتْ عينا والده؛ لأنه لا يرضى بعقوق وضياع ولده.

وقُلْ مثلَ ذلك في الأستاذ يريدُ ويرجو لتلميذه النجاح، والتفوق، فإذا تكاسلَ التلميذُ وضعَ له الأستاذُ علامة الإخفاق والرسوب بإرادته؛ لأن ذلك هو العدالةُ والإنصاف للفرد والمجتمع، ولكنَّ قلبَ الأستاذ يعتصرُ أسًى وألماً على طالبه الراسب؛ لأنه لا يرضى له الرسوبَ، ولا تطيبُ نفسُه بذلك.

ومن هذا الفهم والمنطلق السَّليم نقول: إِنَّ اللهَ يُريدُ الانتحار والحسد ولا يرضى بهما؛ لأنَّ كلاًّ من المنتحر والحاسد حرّ التصرُّف كما رأينا وأثبتنا من قبل، ومسؤول عن تصرُّفه هذا، ولا يقع شيءٌ في الكون إلا بمشيئة الله، وهو: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]

والانتحارُ والحسدُ كبيرتان نهى الله تعالى ورسوله عنهما نهياً قاطعاً، ففي سورة النساء [29]:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}

وفي سورة طه [131]: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}

وفي سورة الفلق [5]: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]

وفي الحديث الشريف: «مَن تردَّى مِن جبلٍ فقتل نفسَه فهو في نار جهنم يتردّى خالداً فيها أبداً…»(1).

ويُقاس على ذلك كلُّ وسيلة للانتحار. وفي الحديث أيضاً: «ولا تحاسدوا»( ) بالنهي الجازم. فإِذا أصرَّ المنتحرُ على قتل نفسه فمات، وأصرَّ الحاسدُ على كُرْه نِعَم الله تعالى على عباده، فحسدَ الناسَ عليها، مادية كانت أو معنوية، وسعى في ذهابها عنهم بشتى وسائل الكيد، والمكر، والوِشاية، والأذى؛ فحصل من الحسد ضررٌ للمحسود.

فإنَّ موتَ المنتحر، ونزول الضَّرر بالمحسود، لا يقعان إلا بقضاء الله وإرادته. وغاية ما في الأمر أنهما وافقا قدر الله وقَضاءه، زماناً ومكاناً، فوقع ما قدَّر اللهُ وقضى، وعُوقب المنتحرُ والحاسدُ على فِعْلهما، بحيث لو لم ينتحر الأولُ، ولم يحسد الثاني، لوقع ما قدّره الله من موت أو ضرر.

هذا وإنَّ الموتَ ليس نتيجةَ الحوادث، فقد تقعُ أشدُّ الحوادث ولا يعقبها موت؛ لأن سببَ الموت واحدٌ لا يتعدَّد، هو انقضاءُ الأجل بمشيئة الله وقدره وقضائه. فكم من أناس أقدموا على الانتحار بأعنف الوسائل ولم يموتوا، وأنقذوا، وعُولجوا، وعاشوا بعد ذلك طويلاً! وكم من حاسدين حسدوا، والغيظ يملأ قلوبهم، فلم يحصل من حسدهم شيء من ضرر أو أذى!

ففي سورة الأعراف [34]: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}

وفي سورة يونس [49]: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}

وفي سورة النحل [61]: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}

وأخطأ الشاعر حين قال: من لم يمتْ بالسَّيفِ مات بغيره تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحد
لأنَّ سببَ الموت واحد لا يتعدد، أَلا وهو (انقضاء الأجل): كم مريض قد عاشَ من بعد يأسٍ بعد موتِ الطبيبِ والعوّادِ! قد يُصابُ القطا فينجو سليماً ويحلُّ البلاءُ بالصّـيّادِ
ويقول الآخر: تزوَّدْ من الدنيا فإنك لا تدري إِذا جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ فكم من صحيحٍ مات من غير علَّةٍ! وكم من عليلٍ عاش حِيناً من الدَّهرِ! وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً! وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري

فقد يُصاب الجبان في آخر الصفِّ، وينجو مقارعُ الأبطال. وسيدنا خالد بن الوليد – رضي الله عنه – خاضَ من الحروب قبل إسلامه وبعد إسلامه ما لا يحصى، وكان الشجاعَ المقدامَ في أول الصفوف، وتمنّى أن يموتَ شهيداً، فلم يمت إلا على فراشه.

والإنسان على أية حال مُطالب أن يسلكَ سُبُلَ الخير، والعلم، والسلامة، والعافية، طالباً من الله العونَ، والتوفيق، والسَّداد، والرَّشاد. وفي سورة يوسف [64]: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

فإن أفلح ونجا فبقدر الله وقضائه، وإن خاب وأخفق فبقدر الله وقضائه، وكلٌ لحكمةٍ أرادها اللهُ، والله هو الحكيم الخبير.
والتاريخُ يُحدِّثنا أنَّ أبا عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – لما أراد أن يتابعَ زحفه وفتوحاته في بلاد الشام، وقد انتشر طاعون عمواس، أمره عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه – بالانحسار عن مكان الطاعون، وحماية الجيش من الوباء، وهو ما يُسمَّى اليوم (الحجر الصّحي) فأرسل له أبو عبيدة: أنفرُّ من قضاء الله وقدره؟ فأجابه عمر: نعم، نفرُّ من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره. أرأيت يا أبا عبيدة! لو كنتَ راعي غنم، وأمامك أرضان: الأولى فيها خِصب ونماء، والثانية خاوية جدوب، فأيّ الأرضين ترعى فيها غنمك؟ فأجابه: في الأولى، ذات الخصب والنماء. فقال: إِذاً فاحفظِ الجيشَ من الوباء والداء، واسلكْ به سبيلَ النجاة، والسلامة، والهناء.

ولشدّ ما كان فرحُه عظيماً حين أخبره أحدُ الصَّحابة، وأقسم له أنه سمع الرسول يقول: «إذا سمعتم بالطّاعون في أرضٍ فلا تدخلُوها، وإذا كنتم فيها فلا تخرجوا منها»( ). فأقام الدليلَ على أبي عبيدة عقلاً ونقلاً. وفي سورة البقرة [195]: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وفي سورة النساء [71]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ }

ورحم الله مَن قال: يا راعيَ الشَّاءِ لا تهملْ رعايتها فأنتَ عن كلِّ ما استرعيتَ مسؤولُ إِنِّي لفي مَنْزلٍ ما زلتُ أعمر على يقينٍ بأني عنه منقولُ كُلْ ما بدا لك فالآكالُ فانيةٌ وكلُّ ذي أُكُلٍ لا بُدَّ مأكولُ

([1]) رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه البخاري ومسلم.