قلما تجد مثل هذه العبارة: “لعله أخطأ أو نسي” في أدبيات الخلاف ومجريات الحوار في هذه الأيام، إنما تجد مثل: ” هذا جهل”، و”هذا قصور”، و” هذا تحصرم…”، و” هذا تنطع وغلو”، و”هذا فسق”، و”هذا تقول بلا علم وتلك شنشنة نعرفها من أخزم” وهلم جرا.

وتكون عاقبة الحوار والجدال إلى خصومة وجفاء واتهام، لماذا لا نقول قد يكون وهم في المسألة، أو لعله أراد كذا فأخطأ، لماذا لا نبدي أولاً حسن النية؟ هل يمكن أن يصدق علينا قول المتنبي:

إذا ساء فعلُ المرء ساءت ظنونه ** وصدّق ما يعتاده من توهمِ

وعادى محبّيه بقول عداته ** وأصبحَ في ليلٍ من الشك مُظلمِ

عائشة رضي الله عنها بلغها أن عبد الله بن عمر يحدث بما تراه يعارض ظاهر آية من كتاب الله، فتأولت ذلك بأنه ربما أصابه ما يصيب الإنسان من الخطإ والنسيان، ونزهته عن خلاف ذلك في أدب جم. وما ضرنا لو استحضرنا ذلك دائما وتمثلناه حين يخالف بعضنا بعضا وينكر قوله أو فعله.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها سمعت عائشة، وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي. فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على يهودية يبكى عليها فقال: “إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها”. في رواية «قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطيء»

فبدأت بالدعاء له وكنّته بكنيته تمهيدا ودفعا لما يوحش من نسبته إلى النسيان والخطأ وقالت: “أما إنه لم يكذب” أي لم يتعمده وحاشاه من ذلك ولكنه نسي أو أخطأ في الفهم، فحدث بما ظنه صوابا.

من لي بمثل سيرك المدلل ** تمشي رويداً وتجي في الأول

والعجيب أن عبارة عائشة هذه لم تنل حقها كما ينبغي لدى شراح الحديث  فأكثرهم مر عليها مرور الكرام وكان همه بيان الحكم وهل كان الصواب مع عائشة أو مع ابن عمر؟ رضي الله عنهم أجمعين.

إن الخلاف سنة قائمة، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} هود -118، أي: لا يزال الخلف بين الناس في مذاهبهم وآرائهم وغير ذلك.

لا يلزم أن نتفق لكن أين أدب الخلاف منا حين نختلف، وأين نحن مما مهدت به عائشة حين أرادت أن ترد على ابن عمر قوله “يغفر الله لأبي عبدِ الرحمنِ” هذا منها يشعر باستحضارها لقوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} التوبة-43

تعلمنا عائشة من خلال هذا الحديث أن من أنكر على غيره، أو استغرب منه شيئا ينبغي أن يوطئ ويمهد له بالدعاء إقامة لعذره فيما وقع منه، وأنه لم يتعمد ذلك.

ونبّه بعضهم من ينظر في عمله ويطالع تأليفه إلى هذا الأدب فقال: «ومن عثر على شيء مما طغى به القلم أو زلت به القدم فليدرأ بالحسنة السيئة، ويحضر بقلبه أن الإنسان محل النسيان، وأن الصفح عن عثرات الضعاف من شيم الأشراف، وأن الحسنات يذهبن السيئات».

ولله در أبي محمد القاسم بن فيره الشاطبي الضرير إذ قال في مقدمة نظمه

أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ … يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلَا

وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ … بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلَا

وَسَلِّمْ لإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ … وَالاُخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلَا

وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَادَّرِكْهُ بِفَضْلَةٍ … مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلَا

وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ … لَطاَحَ الأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلَا

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: ما رأيت أعقلَ من الشافعي! ناظرتُه يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟!

قال الذهبي: قلت هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون.

وقال أحمد بن حنبل: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لا يزال يخالف بعضهم بعضا.

وقال العباس بن عبد العظيم العنبري: كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبا على دابة: فتناظرا في الشهادة بالجنة لمن شهد بدرا والحديبية ولمن جاء نص في استحقاقه الجنة وارتفعتْ أصواتهما، حتى خفتُ أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة وعليٌّ يأبى ويدفع، فلما أراد عليٌّ الانصرافَ قام أحمد فأخذ بركابه.

قال محمد بن بشر كما في شعب الإيمان للبيهقي : ” جرى بين ابن السماك وبين صديق له كلام ، فقال له صديقه : الميعاد غدا نتعاتب ، فقال : بل الميعاد غدا نتغافر”.

منَ اليومِ تعارفنا ** وَنَطْوي ما جَرَى مِنّا

ولا كانَ ولا صارَ ** ولا قلتـــــمْ ولا قلنا

فقد قيلَ لنا عنكم  ** كمَا قيلَ لكُــــــمْ عَنّا

وَإنْ كانَ وَلا بُدٌّ  ** من العتبِ فبالحسنى

من نظر في صفحات وسائل التواصل وكيف يتطاول بعض طلاب العلم على العلماء الراسخين، وكيف يسلقونهم بألسنة حداد، دون مراعاة لسابق فضلهم في التعليم والدعوة، ورسوخ قدمهم في العلم،  يفعلون ذلك لزلة منهم أو خطإ في موقف ما «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين»،كما قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله.

وقد قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ: «ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له الله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم! ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك».

لا بد من الاتصاف بالعدل مع المخالف، والتماس العذر له ما أمكن، وتقديم إحسان الظن به على اتهامه، والاعتراف بحسناته بدل غمطها وقول: لعله أخطأ أو نسي، بدل كذب، وفسق، وخان، وباع دينه..

 


المراجع:

1. شرح الزرقاني على الموطا. 2/ 106

2. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لمحمد أمان المباركفوري. 5/486.

3. كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي. 1/10.

4. سير أعلام النبلاء للذهبي. 5/271.

5. إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية. 3/220.