صُدمت حينما قرأت لأحد الدعاة حكايته عن إحدى السيدات المُسِنَّات عزوفها عن أداء الصلاة، والصدمة ليست في تركها الصلاة، فكم من تارك للصلاة، ولكن في سبب تركها الصلاة ، لقد  نقل عنها قولها :  أخاف إن صليت أن يموت أحد من أولادي ! وأضاف الداعية : كثيرون جدا من المثقفين والمتعلمين يفعلون مثل فعلها، ويقولون ما يشبه قولها؛ بخوفهم من الالتزام الذي يظنون أنه سيؤدي لا محالة إلى ضياع دنياهم.

 

ويلعب خطاب الابتلاء الحتمي الذي تبناه يوما بعض الدعاة دورا رئيسا في ترسخ تلك الشبهة.فقد سمعته بنفسي من أفاضل يظنون أنهم بذلك يؤهلون الخلق لحدوث الابتلاءات بينما هم من حيث لا يشعرون يرعبونهم ويصدونهم!

التدين لا يؤدي ضرورة إلى الابتلاء

يرى هذا الداعية أن علاج هذا الخطأ يكمن في أن نعرِّف الناس أن التدين لا يؤدي بالضرورة إلى الابتلاء، بل على العكس، ربما يؤدي التدين إلى  تفادي بعض الابتلاءات، ومما يدل على ذلك قوله تعالى :  { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة: 66]. ومع ذلك نحدثهم بلطف عن الصبر إن نزل الابتلاء بساحتهم حتى يكونوا من الصابرين الفائزين؛ قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 – 157].

الابتلاء ليس خاصا بالمؤمنين

لكن مما ينبغي أن يضاف إلى تفكيك هذا الظن الخطأ، أن الابتلاء في الدنيا ليس خاصا بالمؤمنين، ربما أتى هذا التصور المغلوط من الفهم الخطأ لمثل قوله تعالى : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حيث يمكن فهم الآية على أن الابتلاء بدأ مع الناس عند قولهم : ” آمنا ” ولولا إيمانهم لبقوا بدون ابتلاء !

يقول العلامة ابن القيم مبينا خطأ هذا الفهم : ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يُعجز ربه تعالى ويفوته، بل هو في قبضته وناصيته بيده، فله من البلاء أعظم مما ابتلى به من قال: آمنت.

فمن آمن به وبرسله فلا بد أن يبتلي من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه، ومن لم يؤمن به وبرسله فلا بد أن يعاقبه، فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين.

فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداء ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة.

وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداء، ثم تعقبها الآلام لهم بحسب ما نالوه منها، والذين يصبرون عن الشهوات والمعاصي ينالون بفقدها ابتداء ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها.

فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم كبير.

لا مفر من الآلام

ويبين ابن القيم أن الكافر والعاصي لا يمكنهما أن يتخلصا من الابتلاء والآلام في الدنيا؛ لأن الآلام تأتي من جهتين لا علاقة لهما بالكفر والإيمان:

الجهة الأولى : جهة تركبه وطبيعته وهيئته: فإن الإنسان مركب من أخلاط متفاوتة متضادة يمتنع، أو يعز اعتدالها من كل وجه، بل لا بد أن يبغي بعضها على بعض فيخرج عن حد الاعتدال فيحصل الألم، وهذا قوله تعالى :{ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [الإنسان: 2]

الجهة الثانية : النسق الاجتماعي، فقد خلق الإنسان مدنيا بطبعه، لا يمكنه أن يعيش وحده، بل لا يعيش إلا مع الناس، وله ولهم مصالح ومطالب متضادة ومتعارضة، لا يمكن الجمع بينها، إذا حصل منها شيء فات منها أشياء، فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه ومصالحه، وهم يريدون منه الشيء نفسه، فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من مصالحه، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وسعوا في تعطيل مصالحه كما عطل عليهم مصالحهم، فيحصل له من الألم والعذاب بحسب ذلك، فهو في ألم ومشقة وعناء وافقهم أو خالفهم.

ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها، ففي موافقتهم أعظم الألم، وفي مخالفتهم حصول الألم، فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخف الألمين تخلصًا من أشدهما، وبإيثار المنقطع منهما لينجو من الدائم المستمر.

مسايرة الظالمين ليست حلًّا

 فمن كان ظهيرا للمجرمين من الظلمة على ظلمهم، ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم، ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم؛ ليتخلص بمسايرتهم من ألم أذاهم أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلا وآجلا أضعاف أضعاف ما فر منه! وسنة الله في خلقه أن يعذبهم على أيدي هؤلاء الذين ظاهروهم على ظلمهم.

وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويذلهم به بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه، وإذا كان لا  بد من الألم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مصالحهم.

المعصية ليست حلًّا

الابتلاءات إذا نزلت بساحة المؤمنين والمطيعين، كانت تثبيتا وتطهيرا ورفعة.

وإذا نزلت بساحة العصاة أو الكافرين، كانت للعلاج  أو الإعذار أو الإنذار أو الاستدراج.

فمن الابتلاء للتوجيه، ما حدث لصاحب الجنتين، حيث ابتلاه الله بنعمة الجنتين، فرسب في الاختبار وأنكر البعث، فابتلاه الله بالضراء لعله يعود إليه ويتضرع إليه، وذلك قول الله تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 42، 43] فلم تدفع عنه المعصية الابتلاء لا أولا ولا آخرا. ويبدو أنه نجح في الابتلاء الأخير، فقد حكى الله عنه قوله : { يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42].

وكذلك حكى الله عن أصحاب الجنة في سورة القلم، لما بخلوا بحق الفقراء، ابتلاهم الله بسلب نعمته عنهم، فكانت معصية البخل سببا للابتلاء لا دفعا له، قال تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17 – 20] فنجحوا في الابتلاء الأخير، كما حكى الله عنهم :{ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 29 – 32].

المعصية سبب للابتلاء

ويذكر القرآن أن الفسق يكون سببا للابتلاء: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] فقد تمادى هذا المجتمع في الفسق ، فابتلاهم الله بهذا الابتلاء بسبب فسقهم، فرسبوا في الابتلاء، فاستأصل الله شأفتهم : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة: 65]

وهاهم بنو إسرائيل ابتلاهم الله في أثناء طاعتهم، وابتلاهم في أثناء فسقهم، أما الابتلاء الأول، فقد قاله الله فيه : {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } [البقرة: 49].

ثم عبدوا العجل في أثناء غياب موسى عليه السلام، ورفضوا أن يدخلوا معه الأرض المقدسة محاربين، فابتلاهم الله بالتيه في الأرض : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [المائدة: 26].