الشورى لغة: مصدر شاور، أي طلب رأيه، واستخرج ما عنده، وأظهره له، والشورى والمشاورة والمشورة: مصادر. والشورى في الاصطلاح الشرعي لا تخرج عن المعنى اللغوي، ولذلك جاء في “المعجم الوسيط”: المستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي أو قضائي أو نحو ذلك”، ويعرفها الفقهاء حسب المجال الذي تستعمل فيه، فعرفها بعضهم بأنها «استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق” وهذا في الشورى الخاصة بأهل الرأي والخبرة المتخصصين في هذه المسائل، أما في المجال السياسي العام فعرفها آخرون بأنها: “استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور المتعلقة بها”.

وبما أن الشورى تعم جوانب الحياة، فأفضل تعريف لها وأعمه هو التعريف اللغوي، وهو: “طلب رأي الآخر للاطلاع عليه والاستفادة منه” ليشمل جميع المجالات، وجميع الناس، ومهما كان المستشار في الأمر.

حكم الشورى

الشورى في الإسلام أصل في  الدِّين، ومن قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ولذلك كان حكمها العام الاستحباب، وتجب في حق ولاة الأمر. وقال بعض الفقهاء: إنها من فروض الكفايات، فتجب المشاورة، وإذا قام بها بعض الناس سقطت عن الباقين، قال ابن العربي المالكي: «المشاورة أصل في الدِّين». وسنّة الّله في العالمين، وهي حق على عامة الخليقة من الرسول على أقل خلق بعده».

فالشورى واجبة على كل مسلم، وهي أكثر وجوباً على الحاكم، وليست إحساناً منه، أو منحة أو تكرمة، وليس له فيها منّة، وهي حق شرعي للأمة لتستشار في أمورها، ويرجع إليها الحاكم فيما يهمها ويعود عليها، وذلك بمقتضى النصوص الشرعية، وبما تقتضيه المصلحة، ويوجبه العقل.

وبالمقابل يجب على المسلم إبداء رأيه فيما يعرض عليه، ويكون ذلك من باب النصيحة المأمور بها، وخاصة إذا تعلق بالرأي مصلحة مؤكدة للفرد أو للأمة، وإلا كان الشخص مقصراً، وذلك لكثرة النصوص التي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتكون الشورى أيضاً أمانة ومسؤولية دينية ودنيوية، قال رسول اللهr: “الدِّين النصيحة”، وقال: “المستشار مؤتمن”.

الترغيب بالمشاورة

طلب الله تعالى المشاورة فقال عز وجل: “وشاورهم بالأمر” (آل عمران 159)، وهذا أمر يفيد الوجوب، ووصف الله تعالى المؤمنين بذلك فقال عز وجل: “وأمرهم شورى بينهم” (الشورى 38)، والتعبير بالجملة الاسمية يفيد الدوام والبت والاستمرار، وجاء الوصف بالشورى بين ركنين من أركان الإسلام وهما الصلاة والزكاة، فقال الله  تعالى: “وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون” (الشورى 38)، مما يوحى بأن الشورى شعيرة تعبدية، وأنها دائمة وعامة وشاملة، ووردت آيات قرآنية كثيرة تشير إلى طلب المشاورة، ومدحها، والثناء على فاعلها.

وقال رسول اللهr: “ما خاب من استخار، ولا نَدِم من استشار، ولا عَال من اقتصد” وقال: “ما شِقي قطُ عبدٌ بمشورةٍ، وما سَعد باستغناء رأي” وقال: “المشورة حصنٌ من الندامة، وأمان من الملامة”، وقال عمر بن الخطاب: “لا خيرَ في أمر أبرم من غير شورى”، وقال رسول الله: “من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الأمور” وقال: “ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم” وفي رواية: “إلا عزم الله بهم بالرُشد أو بالذي ينفع” وقال عليه الصلاة والسلام: “إذا كان أمراؤكم خيارَكم، وأغنياؤكم سمحاءَكم وأمرُكم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها…”.

مضمون الشورى

هو السعي لاستخراج الصواب بعد تعرّف آراء الآخرين، والنظر فيها، للوصول إلى معرفة الرأي الراجح، واستخراج الفكرة الصحيحة.وهي تساعد على معرفة الحق الذي يغيب عن الإنسان، وتقوم على الإطلاع على رأي وجيه، والتذكير بأمر منسي؛ لأن الإنسان بطبيعته ينسى.

كما تنشّط الذاكرة والفكر والعقل، وتنبّه صاحبها على ما قد يغفل عنه أو يجهله، ثم تؤدي إلى إظهار العلم بالشيء، والوصول إلى الرشاد والحق. وتتضمن عرض الأمر على الآخرين لتحصل فيه المناقشة والحوار، وتتبادل وجهات النظر حوله، وإبداء ما فيه من محاسن ومساوئ، وما يترتب عليه من نتائج، ليظهر موطن المصلحة الحقيقية، كما يتم تقليب الجوانب قبل الإقدام على اتخاذ القرار، فلا ينفرد الشخص بالتصرف بمجرد رأيه مهما أوتي من علم وخبرة، فإن فوق كل ذي علم عليماً.

وهي أيضا حوار مفتوح، ومناقشة ودّية، واستيضاح للواقع، وطرح للسؤال، واستعراض للأقوال والآراء، وتقليب العواقب، واقتراح للصواب، وأخيراً الأخذ بما تطمئن له النفس، ويقتنع به العقل، قال الله تعالى: )فإذا عزمت فتوكل على الله( (آل عمران 159).

ويجب على المستشار أن يفكر في الأمر، ويكدح ذهنه، ويشحذ عقله، ويتأنى في إبداء الرأي، ويتجنب العجلة، ليقدم أجود الآراء للمستشير.

ويختلف مضمونها بحسب المستويات المتعددة لها، في البيت والأسرة والأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والعمل والدائرة والشركة والمحل التجاري والوزارة والقيادة ومجلس الأمة أو الشورى ورئاسة الدولة. كما يتفاوت مضمونها بحسب المستشار من أهل الرأي والاجتهاد في الأمور الشرعية، أو الاختصاصات الأخرى، أو أهل الخبرة والتجربة.

مواطن الشورى ومجالها

دائرتها في الإسلام واسعة جداً، وتشمل جميع مجالات الحياة مما يتعلق بالإنسان، ولا يخرج عن مجالها إلا ما ورد فيه الوحي مما ثبت بنص شرعي قطعي الثبوت والدلالة أو معلوم من الدِّين بالضرورة (البداهة) أو أجمعت عليه الأمة مما لا مجال فيه للاجتهاد.

فكل ما جاز فيه الاجتهاد وإبداء الرأي صحت فيه المشاورة، بل نُدبت أو وجبت، ولذلك فهي تشمل جميع الأمور الدينية التي لا قطع فيها؛ لأنها أصل عام لكل شؤون الناس حتى في دلالات النصوص الظنية لبيان معناها، وتحديد المراد منها، وحل إشكالها، وإزالة الغموض والإجمال فيها، مما يحتمل رأيين فأكثر.

وتتأكد الشورى في الشؤون العامة للأمة، وإذا تم تعيين مجلس الشورى للأمور العامة، فيتعين عليه بيان مشروعية الأنظمة، أو دستورية القوانين لبقاء السيادة للشرع، وإبداء الرأي في السياسة العامة للدولة، وأمور المجتمع كالحكم والتعليم والصحة والاقتصاد، ومحاسبة الحكام وجميع المسؤولين، ومراقبة أعمال الدولة، واختيار الحكام والولاة والقادة.

أشكال الشورى

الشورى في الإسلام لا تنحصر في شكل معين، ولذلك اقتصر الأمر فيها على مجرد الطلب: “وشاورهم في الأمر”، “وأمرهم شورى بينهم”، فالمهم وجودها، ويترك تحديد الشكل بحسب الزمان والمكان والأشخاص والموضوع، وحسب المستويات: فردية أو اجتماعية أو سياسية، باعتبار ذلك ترتيباً اجراءياً من دون الوقوف على هيكلية خاصة، ولذلك تعددت أشكالها في تاريخ المسلمين، فكانت عامة في العهد الراشدي مقصورة على كبار الصحابة وتتم في المسجد، واتخذ الخلفاء مستشارين خاصين، فأجبر عمر رضي الله عنه كبار الصحابة على البقاء في المدينة لتسهل مشاورتهم، ثم صارت عامة لكن محصورة بأهل الحل والعقد من كبار العلماء والفقهاء وأهل الرأي والخبرة والاجتهاد، ثم ضعفت في مجال اختيار الخليفة وولي العهد، وبقيت فاعلة في سائر شؤون الدولة وخاصة في الفتوحات والعلاقات الخارجية والولاة، وفي الأسرة والمجتمع. وفي العصر الحاضر اتجهت إلى نظام الانتخاب وتكوين مجلس الأمة، أو مجلس الشعب أو النواب أو البرلمان، ولا مانع شرعاً من الاستفادة من كل الوسائل والأساليب والأشكال ما دامت تحقق المبدأ وهدفه.

الشورى وحدود الله

هذا فرع عن مجال الشورى ومضمونها. وحدود الله لها معنيان، معنى عام لجميع أحكام الشرع، ومعنى خاص، وهو العقوبات المقدرة شرعاً حقاً لله تعالى، كحد السرقة، وحد الزنا، وحد الشرب، ولا مجال للشورى في الحدود بالمعنى الخاص، لأن الله تكفل بالبيان، ولم يتركها للعقل البشري، لأنه لا يصح فيها الاجتهاد، ولأنها مقررة لمصالح ثابتة لا تقبل التغيير، وكذا الأمور القطعية والمجمع عليها، لأنها تتعلق بالعقيدة، أو بالغيب، أو تتحدد في منهج معين كالميراث، والعبادة، وصلة الأرحام، والعلاقة الجنسية بالزواج حصراً، والأخلاق، وكذا المبادئ الأساسية في المعاملات، كالرضى في العقود، ونظام الحكم، ومبدأ الشورى، وفي بعض الأمور التي قد تتعدد فيها الآراء ولا تهتدي للصواب، وتؤدي لاختلاف الأمة، وتشعب الآراء، كالصلاة والزكاة وسائر أركان الإسلام، وأركان العقود، وهذه الأمور لا مجال فيها للشورى، بناء على القاعدة الفقهية “لا اجتهاد في مورد النص”.


محمد الزحيلي