قد لا يكون الجواب وفق ما يشتهي الآمر ويريد، داعية كان، أو مربيا، أو مديرا، أو غيرهم، وبعض أولئك لا يقبل الحلول الوسطى، ويرى أن عصيان أوامر المربي مهما كان سوء أدب معه، وأن أوامره ينبغي أن تنفذ كما هي مطلقا وإلا سقطت هيبته وهانت كرامته. فأين هؤلاء من هذا الحديث النبوي وموقفه العظيم الناطق بالحكمة والحلم والرفق.

يحدث أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: «إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ» رواه البخاري.

والمتأمل في سيرته ، والمطالع لصفحات حياته يجد كثيرا من الآثار المشابهة لهذا الموقف وقد قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران—159.

قد يقول قائل: بأن جوابهم له بقولهم: ” مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ ” لم يكن اعتراضا منهم على الحكم، بل كان التماساً للتخفيف، ودعوة إلى تقدير الحاجة والضرورة.

ونقول: لو فرضنا ذلك جدلا، وقلنا: إن الأمر هنا للإرشاد لا للوجوب فحتى هذا بعضنا لا يرضاه حين يخاطب ابنه أو زوجته أو عامله، بل لا يريد إلا سمعنا وأطعنا فحسب، مهما كان نوع أمره.

ويقال لهؤلاء ما قاله مالك بن زيد:

أوردَها سَعْدٌ وسَعْدٌ مُشْتَمِل *** ما هكذا يا سَعْدُ تُورَدُ الإبلْ

والذي ذكرني بهذا الحديث هو موقف حصل بحضرتي: أب يأمر ابنه بالمذاكرة من أجل الاختبار فيعتذر الابن بأنه ذاكر حتى تعب وملّ، فيصر الأب على تنفيذ أمره ويوبخ ابنه ويشتمه ويقسم عليه لئن لم يفعل ما يأمره به ليكونن من المنبوذين، وربما يعاقبه بما لم يكن له في الحسبان.

ثم يقول له أما تستحي أن تقول لأبيك لا!؟ وتجادله وتناقشه مع ذلك، تبا لك ولأم ولدتك.

فاختلج في نفسي وأنا أسمع ذلك منه قول الصحابة للحبيب صلوات وسلامه وعليه “مالنا من مجالسنا بد” فيقول: “فَأَمَّا إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ”.

أما وسع هذا الأب وأمثاله مثل هذا الحل وإقامة هذا العقد مع المخاطب ابنا كان أو عاملا أو غيره؟.

ماذا لو قال الأب هنا لابنه لا بأس؟! إن كنت تريد الاستراحة، فكم تحتاج من الوقت؟، ومتى يمكنك أن تعيد الكرة؟، وما رأيك يابني أن أسألك وأنت تجيب، ونتعاون معا على حل المشكلات وتبيين الغامض؟ أو حسب الطريقة التي تقترحها أنت؟.

النبي في الحديث نهى أولا عن الجلوس في الطريق وأرشدهم إلى الأصلح سدا للذريعة المفضية إلى الوقوع في المحاذير الشرعية؛ لأن التعرض للمحرمات يوقع فيها، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسماً للمادة. فلما قالوا: “ما لنا منها بد” ذكر لهم المقاصد الأصلية للمنع والغاية منه، وعقد معهم عقدا يجمع بين تحقيق غايتهم، وتحقيق غاية الشارع “فأعطوا الطريق حقها”.

وفي فتح مكة ركِبَ رسول الله راحلتَه فخطَبَ في الناس، فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه، فقالَ: ” إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ، … فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ» رواه مسلم.

فاستثنى لهم ما طلبوا لحاجتهم إليهم، وهذا لا ينافي استجابتهم وطاعتهم لأمره ووقوفهم عند نهيه. وليت كثيرا من المديرين والمسؤولين يعلمون ذلك  فقد يطلب أحدهم قائمة من الأعمال، فيقول العامل إلا هذه يا سيدي؛ لمشقتها الزائدة وتكلفتها الباهظة؛ أو نحو ذلك من الأسباب المقنعة، لكن المسؤول قد يواجه هذا الطلب بالغضب ويحول الأمر إلى أنه اعتراض على سلطته وعصيان لأمره، ولم يراع  استعداد العامل لتنفيذ كل الأوامر والطلبات الكثيرة بالقائمة إلا تلك النقطة.

موقف آخر من مواقف الحبيب صلوات الله وسلامه عليه يبين لنا مدى عظمة خلقه ورحمته وحكمته. هو موقفه مع بريرة وزوجها مغيث ففي الجامع الصحيح للسنن والمسانيد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا يَبْكِي عَلَيْهَا وَإِنَّ دُمُوعَهُ لَتَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ , يَتَرَضَّاهَا لِتَخْتَارَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْفَعْ لِي إِلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – -: ” يَا بَرِيرَةُ، اتَّقِي اللهَ، فَإِنَّهُ زَوْجُكِ وَأَبُو وَلَدِكِ” , فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَأمُرُنِي بِذَلِكَ؟، قَالَ: ” لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ ” قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: ” فَخَيَّرَهَا ” فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ – – لِلْعَبَّاسِ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَبُغْضِهَا إِيَّاهُ؟”.

فانظروا إلى هذا الموقف العظيم من ذي القلب الرحيم والعقل الحكيم أسودتنا وقدوتنا بأبي هو وأمي.

تأملوا كيف رضي أن يشفع لمغيث ويرق لحاله ويعطف عليه لحبه لبريرة ومع ذلك فإنه لا يأمرها بما تكره ولا تطيق الصبر عليه، ولا يغضب أن قالت لا لشفاعته فيقدر سبب ذلك ولا يعنفها ولا يقسو عليها صلوات الله وسلامه عليه. قال أهل العلم وفي هذا الحديث دليل: أنه لا إثم في رد شفاعة الصالحين.

والمواقف المشابهة لهذا كثيرة جدا ومنه قصة الحباب بن المنذر في بدر وقوله: “يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ؟، أَمْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – -: ” بَلْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ “، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا، إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: ” قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأيِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ” صلوات الله وسلامه عليه ومثله موقفه مع المرأة التي أمرها بالصبر على مصيبتها في ولدها فقالت له إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي فما ذا كان؟ هل قال ويحك تأدبي واستجيبي!؟ أتعلمين من تخاطبين!؟ أو نحو ذلك مما يمكن أن يصدر عن بعض العظماء في مثل هذا الموقف الذي يرى أحدهم فيه أن كرامته أهينت، وأنه أمره رد، وأن توجيههه رفض.

لكن الحبيب صلوات الله وسلامها عليه -وهو يعلمنا كيف نتصرف في مثل هذه المواقف- أعرض عنها واستجاب لقولها: “إليك عني” مقدرا لحالتها النفسية، وجهلها أيضا، وقد قال معاوية بن الحكم السلمي فيه: “مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ”.


المراجع

فتح الباري شرح صحيح البخاري لا بن حجر: 5/113.

فيض القدير شرح الجامع الصغير: 3/121.

شرح سنن أبي داود لابن رسلان المقدسي: 10/16.

مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 1/317.