إذا رأى أحد من المسلمين في شخصيةِ النبي محمد الأسوةَ والقدوة والنموذج، فلا غرابة في ذلك؛ لأنه يؤمن به نبيًّا مرسَلاً من عند الله تعالى، ليبلِّغ رسالته ويعلِّم الناس ويرشدهم إلى طريق الحق المستقيم.. لكن، ما الذي تجده الإنسانية في شخصية النبي ؟ وما الذي يجعلنا نقول إن الأسوة والقدوة والنموذج في شخصيته ليست فحسب للمؤمنين به، وإنما يمكن لأي باحث عن “الإنسان الكامل” أن يجد ذلك متجسدًا في شخصيته ؟

لقد كان هذا المعنى حاضرًا في ذهن الأستاذ عباس محمود العقاد حين خطَّ كتابه المهم (عبقرية محمد)، الذي لم يفهم البعض هدفه ورسالته؛ فظنوا أن العقاد يريد أن يفصل شخصية النبي عن جانب النبوة فيه، ليركز على جانب البشرية وحده! وليس هذا صحيحًا، وإنما الصحيح أن العقاد أراد- ومن خلال استعراض مختلف جوانب العظمة في حياته - أن يخلص إلى أن كتابه “تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى؛ وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى. فمحمد هنا عظيم؛ لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس”([1]).

إذن، فحين يبحث الإنسان، أي إنسان، في شخصية الرسول ، عن جوانب القدوة وحيثيات الكمال الإنساني؛ فإنه واجد ذلك في الشخصية المحمدية كأفضل ما يمكن أن يتسجد في حياة إنسان؛ فهو “النموذج” الذي ارتضاه الله لعباده ليسيروا على هديه، وليترسَّموا خطاه، وليتطلعوا إلى الكمال البشري متمثلاً فيه.. بحيث تظل البشرية متطلعة دائمًا إلى هذا الكمال وذلك الصفاء، ثم هم لن يبلغوا معشار صفاته؛ وإنما حسبهم أن يقتبسوا شعاعًا من نوره، ويسيروا على هديه بقدر ما يسعهم الجهد..

أمّا ما الذي تجده الإنسانية في شخصية النبي ؟ فيمكن أن نشير في جواب هذا السؤال إلى أمرين أساسيين؛ الأول: هو تكاملُ الشخصية المحمدية في جوانبها المتعددة.. والثاني: واقعيةُ حياته ، مع بلوغها آفاق المثالية التي أتيحت لبشر، أو مَزْجُ حياتِه بين “المثالية” و”الواقعية”.

تكامل الشخصية المحمدية

جرت العادة أن نرى إنسانًا متميزًا في جانب من جوانب الحياة، حتى لَيبلغ فيه مستوى يستلفت الأنظار، ويستحوذ على الإعجاب، ويستنطق كل من يتعرف عليه بالثناء.. بينما لا تكون كل جوانب هذا الإنسان على ذات القدر من التميز، وعلى ذلك النحو الذي يدعو للإعجاب والثناء. ولا عجب في ذلك، فجوانب الحياة متعددة، وجهد الإنسان ينقطع حين يريد أن يبلغ القمة أو يقاربها في أكثر من جانب.. وحسبه- حينئذ- التفوق في جانب، والسداد في البقية..

لكن النبي أينما وليتَ وجهك ناحية جانب من جوانب شخصيته المتفردة، وجدتَ هذا الجانب أو ذاك على الغاية والتمام، حتى لكأن النبي صلى الله عليه وسلك قد استفرغ وسعه في هذا الجانب وحده!!

فهو العابد الذي لا يفتر لسانه عن ذكر الله ليل نهار.. القائم المتهجد في المحراب.. الذي يحصي له أصحابه سبعين أو مائة استغفار في المجلس.. مَن يصلي حتى تتورم قدماه.. من يتنفل ويطيل الصلاة حتى همّ بعض أصحابه بترك الصلاة من خلفه!

فإذا رأيته في ساحة المعركة، وجدته أقرب أصحابه للعدو.. يتقدم الصفوف ولا يهاب الموت.. يَثبت في مواطن الزلل ويُثبِّت مَن حوله..

وفي ساحة الحياة.. يقيم الدولة، وينشئ السوق، ويتابع بيع الناس وشراءهم.. ويبرم المعاهدات، ويقيم الأحلاف، ويراسل الملوك.. ومن قبل، يبحث عن موطن لدعوته، ويستطلع الأماكن خارج مكة، ويرشد أصحابه للحبشة، ويعرض نفسه على الطائف وعلى القبائل..

وفي الجانب الاجتماعي.. تراه الزوج العادل بين أزواجه، يكون في خدمة أهل بيته، ويتجاوز عن هفوات بعضهن، ويسابق إحداهن، ويُبدي الوفاء لمن رحلتْ.. ومع أبنائه، خير أب، يوصيهم بالتقوى ويتعهدهم بالنصيحة.. ويرفق بِخَدَمِه ولا يشقّ عليهم.. ويتخذ من الصدق والأمانة شعارًا عمليًّا في سلوكه مع الناس، وقد عُرف بهما قبل البعثة..

وقل مثل ذلك في أي جانب تريد دراسته من شخصيته ذات الثراء والامتداد طولاً وعرضًا وعمقًا، .. مما تحتاجه الإنسانية وهي تنشد لنفسها مثالاً وقدوة ونموذجًا..

واقعيةُ مع آفاق المثالية

والأمر الثاني الذي يجيب على سؤال ما الذي تجده الإنسانية في شخصية النبي ؟ أو ما الذي يميز شخصية النبي ، ويمثل حاجة ملحة للإنسانية، أنه - مع بلوغه آفاق المثالية- ذو شخصية واقعية، أي يتصرف كما يتصرف البشر: يرضى ويغضب (ولا يقول إلا صدقًا).. يبيع ويشتري.. يقوم ويرقد.. يتزوج النساء.. يغلبه البكاء في مواطن البكاء (مثل فراق ابنه).. يبدي رأيًا في شئون الحياة ويتراجع عنه إذا ثبت خلافه (تأبير النخل).. يخالط أصحابه ويمازحهم.. يطوف مع الجارية في المدينة حيث شاءت حتى يقضي لها حاجتها.. يصبر على غلظة أعرابي.. يأمر أصحابه ألا يبالغوا في تعظيمه ويمنعهم من القيام له.. يخصِفُ نعلَه بيده، ويَخيط ثوبه، ويحلُبُ شاته..

فهذه الأمور وغيرها أمثلة على واقعية شخصيته ، التي تتصرف كما يتصرف الناس، لكن في نبل وسمو ورفعة.. مما يجعل الاقتداءَ به أمرًا ممكنًا، مع وجود الفارق بين “النموذج” ومن يحاول التقليد..

ولعل هذا الأمر، من زاوية عامة، هو ما جعل الأنبياءَ من البشر، لا من الملائكة؛ بحيث يمكن الاقتداء بهم، ولا يحتجّ أحد بأن الأنبياء من طبيعة غير طبيعة البشر؛ ومن ثم، فلا مجال للاقتداء بهم..!

ولهذا، لما جهل مشركو مكة هذه الحكمة، واستنكروا أن يكون النبي المرسل إليهم بشرًا، ردَ القرآن عليهم، بعد أن أورد زعمهم؛ فقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا . قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا} (الإسراء: 94، 95). فالرسول يكون من جنس مَن يُرسَل إليهم؛ حتى يتمكنوا من مخاطبته ورؤيته في سائر أحوالهم، وبالتالي يقتدون به ويسيرون على هداه.

جاء في تفسير الطبري: “يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَبَوُا الْإِيمَانَ بِكَ وَتَصْدِيقَكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، اسْتِنْكَارًا لِأَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ: لَوْ كَانَ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا تَرَاهُمْ أَمْثَالَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ بِرُؤْيَتِهَا؛ فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى رُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّسُلَ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ وَهُمْ بِهَيْئَاتِهِمُ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ بِهَا؛ وَإِنَّمَا يُرْسِلُ إِلَى الْبَشَرِ الرَّسُولَ مِنْهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَرْسَلْنَاهُ مِنْهُمْ مَلَكًا مِثْلَهُمْ”([2]).

إذن، بهذين الأمرين- تكامل الشخصية المحمدية في جوانبها المتعددة.. وواقعية حياته ، مع بلوغها آفاق المثالية- تجد الإنسانية في شخصة النبي ما تنشده من قدوة ونموذج ومثال، وما تبتغيه من كمال وسمو وطهر.. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110).


([1]) عبقرية محمد، العقاد، ص: 8.

([2]) تفسير الطبري، 15/ 91، 92.