في عالم تتهاوى فيه اليقينات، وتتبدّد فيه السرديات الكبرى، ويُحتفى بالهوية الفردية كأعلى قيمة، يطلّ علينا المفكّر البريطاني تيري إيغلتون — صوت الماركسية الثقافية الحيّ — بكتابٍ لا يكتفي بتشريح جثّة النظرية الثقافية، بل يُجري لها إنعاشًا قلبيًّا فكريًّا.
«ما بعد النظرية» (2003) ليس مجرد نقدٍ لما بعد الحداثة أو تفكيكٍ للتفكيك، بل هو نداءٌ أخلاقيٌّ وفلسفيٌّ لاستعادة النظرية من حالة التيه التي أدخلتها فيها النسبوية المطلقة، والانشغال الذاتي، ورفض المطلق.
في كتابه “ما بعد النظرية”، لا يُعلن إيغلتون نهاية النظرية، بل يطالب بإعادة تأهيلها، ليجعل منها أداةً لا لفهم العالم فحسب، بل لتغييره — تمامًا كما أراد ماركس.

مؤلف كتاب “ما بعد النظرية” تيري إيغلتون هو مفكّر ومنظِّر وناقد أدبي وأكاديمي بريطاني ماركسي بارز. نشر عشرات الكتب، من أبرزها: نظرية الأدب: مدخل (1983)؛ أوهام ما بعد الحداثة (1996)؛ فكرة الثقافة (2000)؛ العنف العذب: فكرة المأساوي (2002)؛ لماذا كان ماركس على حقّ؟ (2011).​

"ما بعد النظرية" .. مراجعة جريئة للنظرية الثقافية بعد ما بعد الحداثة
مؤلف كتاب “ما بعد النظرية” تيري إيغلتون

أما المترجم فهو ثائر ديب المؤلف والمترجم السوري. ترجم إلى العربية عددًا كثيرًا من الكتب، منها: نشوء الرواية (لإيان واط)؛ الجماعات المتخيّلة (لبندكت أندرسن)؛ تأمّلات في المنفى (لإدوارد سعيد)؛ فكرة الثقافة (لتيري إيغلتون)؛ أوهام ما بعد الحداثة (لتيري إيغلتون)؛ عنصريات: من الحملات الصليبية إلى القرن العشرين (لفرنسيسكو بيتنكور).

رجل متوسط العمر ذو لحية وشعر مجعد، يرتدي نظارات وقميص أزرق. يظهر بتعبير جاد في مؤتمر صحفي، مع خلفية تحمل نصوص باللغة العربية.
ثائر ديب مترجم كتاب “ما بعد النظرية”

​​​​هل فقدت النظرية روحها؟

في زمنٍ تُحتفى فيه بالاختلاف أكثر من العدالة، وتُقدّس فيه الهوية الفردية أكثر من المصلحة الجماعية، يطلّ علينا المفكّر البريطاني تيري إيغلتون بكتابٍ “ما بعد النظرية” لا يكتفي فيه بتشريح أزمة الفكر المعاصر، بل يُطلق صرخةً أخلاقيةً من قلب العدمية الثقافية.
«ما بعد النظرية» (2003)، الصادر ضمن سلسلة «ترجمان» عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في ترجمةٍ دقيقةٍ لأنامل المترجم السوري ثائر ديب، ليس مجرد نقدٍ لما بعد الحداثة، بل هو استدعاءٌ عاجلٌ للنظرية الثقافية كي تستعيد وظيفتها الجوهرية: أن تكون أداةً لفهم العالم، لا مجرد لعبةٍ لغوية، وأن تُسهم في تغييره، لا أن تنعزل عنه في بُرجٍ نرجسيٍّ من التحليل النصّي.

ذروة النظرية: حين كان الفكر سلاحًا ضد البديهيات

لم تكن النظرية الثقافية، في لحظتها الذهبية (1960–1980)، ترفًا فكريًّا، بل كانت ثورةً ضد اليقينات. ففي ظلّ هيمنة البنيوية والماركسية الكلاسيكية، جاءت أسماءٌ مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا وجاك لاكان لتُهشّم المفاهيم التي طالما اعتبرناها ثابتة: الهوية، الحقيقة، الذات، الأخلاق.

كشف فوكو كيف تُنتج السلطةُ المعرفةَ، وبيّن دريدا كيف ينهار المعنى تحت وطأة التناقضات اللغوية، وأظهر لاكان أن الذات ليست وحدةً متماسكة، بل شقّاقٌ بين الرغبة والرمز. وقد شكّلت هذه المقولات زلزالًا فكريًّا أعاد تعريف العلاقة بين الثقافة والسلطة، وحوّل النصّ من مرآةٍ للواقع إلى ميدانٍ للصراع الأيديولوجي.
لكن إيغلتون، وهو الماركسيّ الذي لا ينكر إنجازات هذه المرحلة، يذكّرنا بأن هذه النظرية لم تنبثق في فراغ، بل كانت ردّ فعلٍ على أزماتٍ تاريخيةٍ ملموسة: الاستعمار، الحرب الباردة، التهميش الطبقي، وقمع الهويات المهمّشة.

«النظرية لم تكن ترفًا، بل كانت صرخةً من قلب التاريخ».

الانحدار: من التفكيك إلى التفاهة

لكن ماذا حدث بعد ذلك؟
بحلول التسعينيات، تحوّلت النظرية من سلاحٍ نقديٍّ إلى أداةٍ للانعزال. فبينما كانت تُسائل البُنى الكبرى للسلطة، صارت تركّز على التفاصيل الدقيقة للهوية الفردية: جنس المرء، لون بشرته، ميوله الجنسية، حتى طريقة لبسه.
ويُعبّر إيغلتون عن استيائه من هذا التحوّل بقوله:

«لقد استبدلنا نقاشَ العدالة بنقاشِ الهوية، وصرنا نهتمّ أكثر بمن نكون مما يجب أن نفعله».

وإن كانت قضايا الهوية مشروعة، فإن الإفراط فيها على حساب القضايا السياسية والاقتصادية حوّل النظرية إلى موضةٍ أكاديمية، لا إلى قوةٍ تغييرية.
فأين ذهبت الأسئلة الكبرى؟
أين نقاشُ العدالة؟ أين سؤالُ الطبيعة الإنسانية؟ أين الحديثُ عن الخير والواجب والحرية؟
لقد اختفت هذه المفاهيم من خطاب النظرية، ليس لأنها أصبحت غير ذات صلة، بل لأن ما بعد الحداثة، في رفضها للسرديات الكبرى، رفضت أيضًا إمكانية وجود مطلقٍ أخلاقي.

شبح النسبوية: حين يصبح كل شيء “بناءً اجتماعيًّا”

يحمّل إيغلتون ما بعد الحداثة مسؤوليةً جوهرية في هذا الفراغ المفاهيمي.
فباسم النقد الجذري، رفضت كل يقينٍ، وكل حقيقةٍ موضوعية، وكل أخلاقٍ عالمية.
لكن هذا الرفض، بحسبه، لم يُحرّر الإنسان، بل أفقده البوصلة.
فإذا كانت كل القيم نسبية، فكيف ندين الاستبداد؟
وإذا كانت الحقيقة مجرد خطاب، فكيف ندافع عن المظلوم؟

«النسبوية المطلقة تُصبح في النهاية عدوةً للحرية، لأنها تُلغي أي أساسٍ لمقاومة الظلم».

هنا، يدعو إيغلتون إلى التمييز بين النسبوية المنهجية (التي تُدرك أن المعرفة مشروطةٌ تاريخيًّا) والنسبوية المطلقة (التي تنكر إمكانية الوصول إلى أي حقيقةٍ مشتركة).
الأولى أداةٌ نقديةٌ ضرورية، أما الثانية فهي انتحارٌ فكريٌّ.

العودة إلى ماركس: الثقافة ليست بُرجًا عاجيًّا

في مواجهة هذا التيه، يُعيد إيغلتون الاعتبار للإرث الماركسي، لا كعقيدةٍ جامدة، بل كمنهجٍ لفهم العلاقة بين البنية الاقتصادية والبنية الثقافية.
يؤكد أن الثقافة لا تطفو في فراغ، بل تُنتَج في ظلّ علاقات إنتاجٍ محددة، وتفاوتاتٍ طبقيةٍ عالمية.
ومن دون ربط التحليل الثقافي بالتحليل المادي، تصبح النظرية عاجزةً عن فهم أسباب الفقر، أو الحرب، أو التهميش.

غلاف كتاب "ما بعد النظرية" للمؤلف ياسر جلال، يظهر تصميم فني يجمع بين العمارة القديمة وعبارات ملونة، مع خلفية فنية تعكس عمق الموضوع. الكتاب يحمل طابعًا عصريًا وجذابًا.
غلاف كتاب “ما بعد النظرية”

«لا يمكنك فهم لماذا يُفضّل الناس فيلمًا على آخر دون أن تفهم من يملك وسائل الإنتاج الثقافي».

هذا لا يعني إنكار دور الخطاب أو الرمز، بل إعادة توازن العلاقة بين البنية الفوقية (الثقافة) والبنية التحتية (الاقتصاد).

ما بعد النظرية: نحو نظريةٍ مُلتزمةٍ وأخلاقية

لكن إيغلتون لا يدعو إلى العودة إلى الماضي، بل إلى بناء مستقبلٍ جديدٍ للنظرية.
يرى أن المهم ليس رفض ما بعد البنيوية، بل استيعاب مكتسباتها (مثل نقد المركزية، والكشف عن البُنى الخفية) مع استعادة الأسئلة الأخلاقية الكبرى.
ويطمح إلى نظريةٍ:

  • ملتزمة بالواقع، لا منفصلة عنه،
  • شاملة، لا جزئية،
  • أملية، لا يائسة،
  • سياسية، لا نرجسية.

ويقترح أن نعود إلى مناقشة مفاهيم مثل الخير، العدالة، الطبيعة الإنسانية، ليس كحقائقَ مطلقة، بل كمصالحَ إنسانيةٍ مشتركة يمكن أن تُشكّل أساسًا للعمل الجماعي.

النظرية كفعل مقاومة

في زمنٍ تتفاقم فيه الأزمات — المناخية، الاقتصادية، الوجودية — يصبح سؤال إيغلتون أكثر إلحاحًا:

هل يمكن للنظرية أن تكون قوةً للخير؟

«ما بعد النظرية» ليس كتابًا عن نهاية الفكر، بل عن ولادةٍ جديدةٍ له.
إنه دعوةٌ إلى أن نُعيد للنظرية ضميرها الأخلاقي، وارتباطها بالواقع، وطموحها التغييري.
لأن الثقافة، في رؤية إيغلتون، ليست مجرد نصوصٍ تُحلّل، بل ميدانٌ للصراع، وأداةٌ للمقاومة، ووعدٌ بإنسانيةٍ أفضل.

وفي عالمٍ يزداد تفتّتًا، قد تكون النظرية — إذا استعادت روحها — آخر ملاذٍ لنا لبناء عالمٍ أكثر عدلًا، وأكثر إنسانية.