كان النبي من أشرح الناس صدرا وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، نقرأ ذلك في شمائله وأخلاقه، وقع له شق الصدر حسا حيث أخرجت منه حظوظ الشيطان ونزغاته، فكان من ضمن المعجزات التي اختصه الله تعالى بها، فشَرح الله صدر النبي للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها، وثبت في كتب السيرة النبوية أنه وقع له شق الصدر بالفعل، ثم نزل القرآن الكريم مؤكدا على هذه الحادثة سواء عن طريق الدلالة الصريحة أو بالتأويل، فقد شرح صدر الرسول وارقت نفسه للعلياء من الأمور، وتوفي عليه السلام وخلقه أنه يعرض عن الأمور التي توغر الصدور بالضغينة والحسد.

نزول سورة ألم نشرح

ومما نزل على النبي من القرآن الكريم سورة الشرح إشارة إلى طيب قلب النبي الله عليه وسلم وأنه ضمن النعم التي حباها النبي، يقول الله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك).

قال ابن عاشور: إن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله استعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى: (وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز) [هود: 12] الآية. فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله: (فإن مع العسر يسرا) [الشرح: 5].

ثم رأى أن الصدر هنا مراد به الإحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك. وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر.

وفسر ابن عباس رضي الله عنه شرح صدر النبي في السورة الكريمة: بأن الله شرح قلبه بالإسلام. وعن الحسن البصري قال: شرح صدره أن ملىء علما وحكما، وقال سهل بن عبد الله التستري: شرح صدره بنور الرسالة.

هذا إذا كان حمله على المعنى الحسي، وقد يحمل شرح الصدر هنا على الحقيقة وهذا نقل في السيرة النبوية الشريفة، في حادثة عرفت بأحداث “شق الصدر”، وهي معجزة عجيبة وقعت للنبي . وكان ابن عاشور يستبعد أن يكون المراد بالشرح في السورة، فقد حكى الاختلافات الواقعة في رواية أخبار شق الصدر وما ذكر من تكرار هذه الحاديث لكنه قال: «وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية»[1].

أحداث شق صدر النبي

ثبتت في الأحاديث الصحيحة أحداث شق صدر النبي ، وأنها وقعت مع الرسول أكثر من مرة، الصحيح منها مرتان فقط، واختلف هل وقع في المرة الثالثة أم لا. نذكر الصحيح من هذه المرويات:

المرة الأولى –  شق صدر النبي وغسله ولأمِهِ، عندما كان طفلًا في الرابعة من عمره، يلعَبُ في بادية بني سعد.

وقد روى الإِمام مسلم في صحيحه حادثة الشق الأولى عن أنس بن مالك “أن رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقةً فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا إن محمد قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.

قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره (2).

قال الدكتور أكرم ضياء العمري: ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوّة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله. فلا يحل في قلبه شيء إلا التوحيد، وقد دّلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثمًا ولم يسجد لصنم، رغم شيوع ذلك في قومه[2].

المرة الثانية – شق صدر النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، ففي الصحيحين عن أنس قال: “كان أبو ذر يحدث أن رسول الله قال:”فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا … “

وقد تبيَّن الشرَّاح أن الحكمة في شق الصدر وملء قلبه إيماناً وحكمةً استعداداً للإسراء به تظهر في عدم تأثر جسمه بالشق وإخراج القلب مما يؤمنه من جميع المخاوف العادية الأخرى. ومثل هذه الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لمقدرة الله تعالى التي لا يستحيل عليها شيء[3].

وقد تتبع ابن القيم خاصية انشراح الصدر عند النبي وأشار إلى حصوله على النصيب الوفير من هذا الخلق النبيل، فكان هدي النبي في ملاطفة الناس وسعة صدره في قبول الآخرين، وتحمل آذاهم، أحسن الهدي وأكمله، قال ابن القيم: ” أن رسول الله – – أكملُ الخلق في كل صفة يحصل بها انشراحُ الصدر، واتساعُ القلب، وقُرَّةُ العين، وحياةُ الروح، فهو أكملُ الخلق في هذا الشرح والحياة وقُرَّةِ العين، مع ما خُصَّ به من الشرح الحسِّي. وأكملُ الخلق متابعةً له أكملُهم انشراحًا ولذةً وقرَّةَ عينٍ، وعلى حسب متابعتِه ينال العبدُ من انشراح صدرِه وقرَّةِ عينهِ ولذة روحه ما ينال. فهو في ذِروة الكمال من شَرْح الصدر ورَفْعِ الذكر ووَضْعِ الوزر، ولأتباعِه من ذلك بحسب نصيبهم من اتّباعِه”[4].

ومن الأحاديث التي تكشف مدى سلامة صدر النبي وانشراحه مع الناس ما عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : ((لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر))[5].

هذا الحديث يكشف عن مدى اهتمام المصطفى بسَلَامة صدره، فهو ينهى ويحذِّر من أن يُنْقَل إليه ما يُوغِر صَدْره، ويغيِّر قلبه تجاه أصحابه الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين.

قال المباركفوري شارحًا لهذا الحديث: (قوله: ((لا يُبَلِّغُنِي)) أي: لا يوصلني. ((من أحد)) أي: من قبل أحد. ((شيئًا)) أي: مما أكرهه وأغضب عليه، وهو عامٌّ في الأفعال والأقوال، بأن شتم أحدًا وآذاه، قال فيه خصلة سوء. ((فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليهم)) أي: من البيت وأُلَاقيهم. ((وأنا سليم الصَّدر)) أي: من مساويهم. قال ابن الملَك: والمعنى: أنَّه يتمنَّى أن يخرج من الدُّنيا وقلبه راض عن أصحابه، من غير سخط على أحد منهم).

وهذا الخلق النبوي يمكن أن يتعلمه المسلم في حياته فلا يصغي لكل ما يشاع ويقال في المجلس بل يتخير بين ما يقول ويقبل، ولا يقدم على أي أمر يتصرف فيه بناء على ما ينقل إليه، لأن سلامة الصدر تعين على صحة النفس وسلامة الإيمان، والبعد عنها يولد ضيق القلب وإيغار الصدور من الضغينة والحسد، وتتبع عورات الناس، وهذا في النتيجة يبعد الإنسان عن رحمة الله ورضوانه، ولذلك جاء في الحديث: «‌من ‌حسن ‌إسلام ‌المرء تركه ما لا يعنيه»[6].


[1]  «التحرير والتنوير» (30/ 409).

[2]  «السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية» (1/ 104).

[3]  «السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية» (1/ 189). وانظر فتح الباري لابن حجر.

[4]  «زاد المعاد في هدي خير العباد – ط عطاءات العلم» (2/ 33).

[5]  رواه أبو داود (4860)، والتِّرمذي (3896)، وأحمد (1/395) (3759)، وغيرهم،  وقال أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (5/286): إسناده حسن.

[6]  أخرجه الترمذي (2318) وابن ماجه (3976)، والإمام أحمد في المسند (4/354). وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني رحمهما الله تعالى.