عني المسلمون عناية قصوى بكتاب الله تعالى وتعهدوه بالحفظ والتفسير والتأويل، ووضع المفسرون الأوائل الأسس النظرية لتفسير الوحي الإلهي وتبعها ظهور مدارس التفسير المختلفة، وسار المفسرون على هديها قرونا طويلة إلى أن بلغنا القرن العشرين الذي شهد ظهور ما يسمي (القراءات المعاصرة للقرآن الكريم) التي تأثرت بالحداثة الغربية ومناهجها في تأويل النصوص الدينية، وقد أخذت طريقها إلى العالم الإسلامي منذ مفتتح القرن الماضي، وبخاصة في مصر التي شهدت صدور ثلاث نماذج لهذه القراءات، وهي على التوالي: في الشعر الجاهلي لطه حسين (1926)، وتفسير الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن لمحمد أبو زيد الدمنهوري (1930)، والفن القصصي في القرآن لمحمد أحمد خلف الله (1947).
أثارت هذه المؤلفات أزمات كبرى في حينها بعضها ظل حيًا ماثلا في الذاكرة الثقافية مثل أزمة الشعر الجاهلي على حين توارى البعض الآخر وأهيل عليه التراب كما هو الحال مع أزمة تفسير الهداية والعرفان، الذي بُعث من مرقده مؤخرا وأصبح يشار إليه في الدراسات القرآنية الحداثية باعتباره عملا رائدا من أعمال المدرسة التأويلية الحديثة كما ذهب نصر حامد أبو زيد في عدد من دراساته [1] وكما يروج له نفر من الحداثيين اليوم العاكفين على إعادة نشر إنتاجه الفكري المحظور وتناوله بالدرس والتحليل، فمن هو محمد أبو زيد الدمنهوري، وهل هو رائد مدرسة التأويل أم هو صاحب “تفسير إلحادي” كما صنفه الشيخ حسين الذهبي صاحب كتاب التفسير والمفسرون، وما هي الأزمة التي أثارها تفسيره المسمى (الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن)، وما هي المقولات التأسيسة التي انطلق منها وأثارت الأزمة التي ارتبطت بكتابه.
محمد أبو زيد: صانع الأزمات
المعلومات المتوفرة عن أبي زيد شحيحة للغاية لا تزيد عما ذكره هو شخصيا في حديث أجرته معه صحيفة الأهرام المصرية، وما أشار إليه رشيد رضا في مجلة المنار وكان على معرفة شخصية به، وهي لا تخرج عن كونه أحد الشبان الذين درسوا بالأزهر فترة ثم تردد على دار الدعوة والإرشاد التي أسسها رضا، وهو من المنتمين لحزب الوفد والمتعصبين له، وقد سافر إلى بعض البلاد الشرقية فانفتحت أمام ناظريه بعض المعارف التي لم تتح له بالأزهر، وله عدة رسائل ومؤلفات أصدرها قبل تفسيره ومنها: منها كتاب (هدي الرسول صلي الله عليه وسلم) الذي وصفه بأنه “تبيان للطريقة المحمدية وما جاء به الرسول من الأعمال المنطبقة علي القرآن”[2] وله مؤلف آخر عنوانه (الزواج والطلاق المدني في القرآن) تبنى خلاله الدعوة إلى إبطال بعض التشريعات الإسلامية المتعلقة بالزواج والأسرة بحجة عدم مسايرتها للعصر، وقد أثار محمد أبو زيد الرأي العام المصري مرتين:
الأولى، كانت بين عامي 1917/1918 م حين صرح بأن ” آدم ليس نبيًّا ولا رسولاً بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيتان” فادعى عليه بعض الشرعيين أمام محكمة دمنهور الشرعية التي حكمت بردته وبالتفريق بينه وبين زوجته* فكتبت الجرائد مستنكرة وتدخلت وزارة الحقانية وحُكم بتبرئته من التهمة المنسوبة إليه في الاستئناف[3].
والثانية، كانت عام 1930م حين أصدر تفسيره (الهداية والعرفان) الذي أثار أزمة عنيفة في حينه، ووقعت منه نسخة بين يدي شيخ الأزهر فأبرق إلى الحكومة التي سارعت، تحت تأثير الخشية من تكرار أزمة كتاب (في الشعر الجاهلي)، إلى مصادرة نسخ الكتاب في المطبعة وما وجد في هيئة البريد معدا للسفر، ثم كتب في جريدة الأهرام محذرًا من هذا التفسير وتبعه رشيد رضا وآخرون[4]، وبهذا لم يتح إلا لنفرٍ قليل الاطلاع عليه، ولم يستطع أحدٌ من رواد القراءة المعاصرة أن يدعي لاحقًا أنه امتداد لمدرسة أرسى قواعدها التأويلية محمد أبو زيد.
المقولات التفسيرية
افتتح محمد أبو زيد تفسيره بإيضاح السبب الحامل له على وضع تفسيره وجعل من أسباب ذلك: ” الدس والحشو في التفاسير” حتى لا نجد أصلا من أصول التفسير إلا ونجد بجواره رواية موضوعة، وأن المفسرين جعلوا من الاصطلاحات الفقهية والكلامية أصولا حكموها على القرآن، وشيوع التقليد في التفاسير، وتغير معاني القرآن وتبدل مقاصده وحاجته إلى تفسير جديد، وهكذا مضى أبا زيد مفسرا القرآن الكريم على ضوء عدد من المقولات ومنها:
أولا: مقولة “تفسير القرآن بالقرآن” أي دون قيد من اللغة والسنة، وهو يبين طريقته التفسيرية هذه بقوله أنها “كشف معنى الآية وألفاظها بما ورد في موضوعها من الآيات والسور ، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن، ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه بنفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع”. لكنه حين مارس ذلك فعليا كان يحيل الآية التي يعرض لها إلى آيات أخر كثيرة لا يربطها بالآية الأولى رابط كما ذكر رشيد رضا.
ثانيا: مقولة “القرآن كله متشابه” وهو يعرف المتشابه بأنه “تحمّله لاختلاف الآراء والأنظار في كل زمن، أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف على الناظرين” ولا يُستثني من ذلك إلا أصول الدين المحكمات وهي: الإيمان بالله واليوم الأخر وعمل الصالحات، وعدا هذه الثلاث فكل ما ورد في القرآن من تشريعات وأحكام وأوامر ونواه هي متشابهة أي غير قطعية يجوز للمسلمين فهمها على أوجه متعددة وتعديلها والتصرف فيها.
ثالثا: مقولة “ضرورية السنن والنواميس وعدم تبدلها” ويعني بها حتمية هذه السنن وثبوتها وعدم تبدلها مطلقا ولو بفعل الله ومشيئته، وأنه ما وقع ذلك في الماضي للرسل ولا لغيرهم من بني آدم منكرا بذلك معجزات الأنبياء وخلق آدم من تراب، وولادة عيسى من دون أب لمصادمتها السنن الكونية وحقائق العلم.
ومن ذلك نتبين أنه قد نحا في تفسيره منحى مادي حيث تأول ما ورد في عالم الغيب من الجن والشياطين والملائكة ومعجزات الأنبياء والمرسلين تأويلا ماديًا بحجة أن الزمان والعلم يقتضيه- كما فعل شحرور من بعد، ونلحظ أيضا أنه كان من أوائل المحاولات التي عمدت إلى الفصل بين القرآن والسنة إذ لم يستشهد أبو زيد في تفسيره بالسنة سواء أكانت قولية أم فعلية على اعتبار أن القرآن يفسر بعضه بعضا دون حاجة إلى وسيط خارجي.
العلماء وتفسير الهداية والعرفان
أثار صدور تفسير الهداية والعرفان أزمة كبرى في حينه، وتصدى عدد من العلماء لتفنيد ما تضمنه من اجتراء على قواعد التفسير، ومن هؤلاء رضا الذي قال: “إن هذه الحواشي (الهوامش) القليلة المبهمة لا يصح أن تسمى تفسيرًا بوجه من الوجوه …. فإنه على اعتماده فيه على فهمه الشاذ المخالف للغة والشرع – وهما مادة كل تفسير – يحيل فيه عند أكثر الآيات التي يكتب شيئًا بإزائها على آيات متعددة وعلى سور كثيرة لا يمكن أن تكون بمعنى الآيات أو الآية التي جعلها مفسرة لها، وقصاراه أن يكون في بعضها مسألة منها، وأكثر الآيات لا يفسرها بشي”.
أما الشيخ محمد الخضر حسين فقد تتبع المصادر التي استقى منها المؤلف أفكاره، وذهب إلى أنه يجري في تأويله “وراء طائفة البهائية فإنهم ينكرون للرسل عليهم الصلاة والسلام معجزات صرح بإنكارها داعيتهم المسمى، أبا الفضل. فقد ذكر المعجزات في كتابه المسمى (بالدرر البهية)” ثم راح يقارن بين فقرات من هذا الكتاب الأخير وما ذهب إليه محمد أبو زيد في تفسيره موضحا التمائل بينهما.
وأما الشيخ حسين الذهبي فذهب إلى وصف الرجل بأنه “جامد على المحسوسات، جاحد لكثير مما أخبر به القرآن منكر لأحكام قررها القرآن والسنة، وأجمع عليها الصحابة” وذكر من ذلك إنكاره لأحكام تعدد الزوجات، وحدي الزنا والسرقة، وفي بيان المقدار الواجب من الزكاة الذي يذهب فيه إلا أن تقديره يكون منوطا بالأمة وحسب حالتها، وهو ما يرفضه الذهبي بقوله ” وليس للأمة دخل في تقدير مقررات الزكاة بعد أن قدرها الرسول عليه الصلاة والسلام وقررها على الأمة”[5].
وبالجملة، يعد تفسير الهداية والعرفان محاولة باكرة لتأويل القرآن تأويلا ماديا، ورغم ضحالتها المعرفية وسذاجتها، وما اعتراها من تجاهل ونسيان يتم بعثها مجددا بحسبانها حلقة أولى من حلقات القراءة المعاصرة للقرآن الكريم.
[1] نصر حامد أبو زيد، نحو منهج إسلامي جديد للتأويل، باريس: مؤسسة ابن رشد، 2005، ص 6.
[2] انظر حوار محمد أبو زيد مع جريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 14 مايو 1931.
* ولعل هذا يفسر لنا أسباب اهتمام نصر حامد أبو زيد به وبمحاولته التفسيرية التاريخانية.
[3] راجع تفاصيل الدعوى في: رشيد رضا، مجلة المنار، مج 18.
[4] رشيد رضا، مجلة المنار، مج 31.
[5] محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، القاهرة: مكتبة وهبة، 2000، ج 2، ص 399.