يقدم كتاب “عبقرية اللغة” مجموعة من خمس عشرة مقالة كتبتها أسماء من خلفيات لغوية متنوعة، جميعهم يكتبون بالإنجليزية كلغة ثانية. تستكشف هذه النصوص كيف تظلُّ “اللغة الأم” حاضرةً مخفيّةً في الكتابة الإنجليزية؛ فهي تضيف أبعادًا شعريّةً وثقافيةً لا يمكن للإنجليزية النقية وحدها إنتاجها. يختبر الكتاب تجربة كل كاتب في مواجهة نظامين لغويين متمايزين، ويبيّن مدى إسهام “عبقرية اللغة الأصلية” في إثراء الإبداع الأدبي.
محتويات كتاب “عبقرية اللغة”
في كتاب “عبقرية اللغة” الذي حررته ويندي ليسير وترجمه للعربية حمد الشمري، يقدّم الكتاب مجموعة مقالات كُتِبت بواسطة خمسة عشر كاتبًا واكبت كلٌّ منهم تجربته الخاصّة مع “اللغة الأم” وكيف أثّرت في كتاباتهم وحياتهم.
سنستعرض فيما يلي أبرز المحاور والأفكار التي طرحها الكتاب :
بهارتي موكراجيا (Bharati Mukherjee)
ينتقل بهارتي من بنغلاديش إلى الولايات المتحدة ويواجه فارق الأبجديات: الأبجدية البنغالية المبنية على مخارج الحروف في مقابل ترتيبٍ إنجليزيٍّ يبدو عشوائيًّا. يوضح كيف تستدعي كتاباته الإنجليزية ثراء البنغالية في التعبير العاطفي، فتضفي على نصّه “عمقًا شرقيًّا” يصعب تحقيقه بالإنجليزية وحدها.
أيمي تان (Amy Tan)
تسلّط أيمي الضوء على ثنائية هويتها الصينية–الأميركية في الكتابة بالإنجليزية، فتستخدم استعاراتٍ وصورًا صينية تبرز مباشرةً في تركيب الجملة والنبرة. الهدف ليس محاكاة الصينية حرفيًّا، بل السماح لروح الثقافة الصينية بالتغلغل ضمن نص إنجليزي، فينبثق “نمط فكر” مختلف عن أي نص ناطق أصليّ.
توماس لاكور (Thomas Lacor)
تربّى توماس في عائلة تتحدث البنغالية. بعد انتقاله لكندا وبلجيكا، اضطرَّ إلى تطوير أسلوبٍ إنجليزي خاصٍ به، معتمداً على خزينه البنغالي في الملء الصوتي والإيقاعي. يستعرض كيف “اختلق” عباراته الإنجليزية بمزج إرثه البدائي مع القواعد النحوية العصرية.
جوزيف سكوفوريكي (Joseph Skvorecky)
كاتب كرواتي الأصل، كان يعاني الصدام بين الذائقة الكرواتية والإنجليزية. يروي كيف لاحظت محرراته أن إضافة تركيباتٍ كرواتية أو استعاراتٍ مستمدة من لغته الأم جعلت نصّه أكثر سخونة وحيوية، فاستثمر هذه “المقاومة اللغوية” لتعميق أثر عباراته.
لوك سانت (Luc Sante)
عاش لوك سانت طفولته محاطًا بأدبٍ كلاسيكي فرنسي (هوغو، موليير). يشرح كيف حفّزته الفرنسية “لحنًا داخليًّا” يتسلل إلى نصّه الإنجليزي، فيملأ الفراغ الصوتي للإنجليزية بهمساتٍ فرنسيةٍ تراثيةٍ تمنح الأمكنة والشخوص روحًا موسيقيةً فريدة.
نغوغوا وا ثيونغو (Ngũgĩ wa Thiong’o)
الناقد الكيني يرفض الهيمنة الإنجليزية “لغة المستعمر”، لكنه يستعين بها ليمتزج بإيقاعات لغته الأم “الكِيكُيوي”. يوضّح كيف يستخدم كلماتٍ وتراكيبٍ قادمةٍ من لغته الأصلية لإحياء جذر ثقافته الأفريقية داخل النص الإنجليزي، فينشئ خطابًا سرديًّا متعدِّد الأبعاد.
نيكولاس باباندريو (Nicholas Papandreou)
كاتب يوناني–أميركي، يعبر عن انقسامه بين اليونانية الفصيحة والإنجليزية اليومية. يكشف أن نصّه الإنجليزي يكتسب عمقًا وإيقاعًا شعريًّا حين تسمح له بقايا اليونانية بالتسلل إليه، فتظهر في دقّة المفردة وصدى الموسيقى الداخلية.
إم. جاي فيتزجيرالد (M. J. Fitzgerald)
أيرلندي–كندي، يتذكّر كيف حمل شعر إيرلندا وصورها الطبيعية معه إلى كندا. يدمج “الصوت الأيرلندي” في نصه الإنجليزي بوصفه مصدرًا شعريًّا، فتظهر في التوصيفات البصرية والإيقاع اللغوي روح الريف الأيرلندي الحزين.
لويس بيغلي (Louis Begley)
يستعرض تجربتين: أصلٌ ليتواني وآخر أيرلندي. في الحالة الليتوانية، يبيّن كيف أثَّرت ضمائر الجمع/الفرد على تركيب الجملة الإنجليزية. وفي الحالة الأيرلندية، يحتفظ بحسِّ الطبيعة وروح الحنين، ما يخلق نصوصًا إنجليزية متعددة الصوت.
بيرت كيزر (Bert Keizer)
هولندي–كندي، يوضّح تعقيدات الإملاء والقواعد الإنجليزية مقارنة بدقة الصوت الهولندية. يتحدث عن جهده لملء “فجوة” الإيقاع والاتساق في إنجليزيته مستعينًا بما تعلمه من حسّه الهولندي في النطق والتنغيم.
جيمس كامبيل (James Campbell)
ناطق أصلي للإنجليزية، يقدم استكشافًا لـ “العبقرية” المخفية في التراث الإنجليزي القديم. يستمدّ من النصوص الكلاسيكية عهد شكسبير وبايرون عمقًا أدبيًّا يلقي بظلاله على نصوصه اليومية، مؤكدًا أن الناطقين الأصليين وحدهم لا يرون كلّ خفايا لغتهم.
آيريل دورفمان (Ariel Dorfman)
كاتبة تشيليّة–يهودية، تعيش زمن الديكتاتورية وتستخدم الإنجليزية والإسبانية معًا في الكتابة الصحفية والأدبية. توضّح أن الإسبانية “تنطق” الحقيقة بشكلٍ مختلفٍ عن الإنجليزية، فتتعايش اللغتان في نصٍ سياسيٍّ نابضٍ بطابع المقاومة.
غاري شتاينغارت (Garry Shteyngart)
كاتب يهودي–روسي–أميركي، يشبه اللغةَ الأم (الروسية) بـ “شريحة خبز” تمنح الذاكرة مذاقها الأصيل. يشرح كيف يربط الإيقاع العاطفي الروسي بالنص الإنجليزي، فتنبض عوالم الطبقات الاجتماعية والمهاجرين بنبرةٍ سرديةٍ مغايرةٍ.
ليونارد مايكلز (Leonard Michaels)
يطرح علاقةً حميميةً بين الإنجليزية واليديشية، معتبرًا أن الحنين إلى “ليدش” لا يختفي حتى لو كتب الكاتب إنكليزية بحتة. يرسم من تأثير اليديشية على أسلوبه دليلًا على أن اللغة الأصلية تضفي روحًا جماعيةً وروحيةً للنص.
ملاحظات المؤلفة ويندي ليسير
تجمع ويندي الشهادات المتنوّعة وتربط بين الدروس المشتركة: “العبقرية اللغوية” ليست نتاج لغةٍ واحدةٍ، بل تجلٍّ لتلاقحٍ مستمرٍّ بين لغاتٍ متعددةٍ. تؤكد أنّ كل كاتب استطاع أن يستثمر “عبقرية لغته الأصلية” ليخلق في الإنجليزية نصوصًا تتخطّى حدود الثقافة الأحادية.
السمات المشتركة ومخرجات “عبقرية اللغة”
- اللغة الأم كمخزونٍ ثقافيٍّ وحسِّيّ : تستند جميع الكتابات إلى مخزونٍ ضخمٍ من الصور والرموز التي تمنح النص بعدًا شعريًّا أو فكريًّا لا توفره الإنجليزية وحدَها. يثبت الكتاب أن ثراء اللغة الأم ينعكس في النص الإنجليزي من خلال استعاراتٍ وتراكيبٍ تحمل حمولة ثقافيةٍ شديدة التأثير.
- الإبداع عبر الصدام اللغويّ والتلاقح: الصراع بين نمط التفكير الأصلي والقواعد النحوية للإنجليزية يحفّز الكاتب على ابتكار تراكيبٍ جديدةٍ ومصطلحاتٍ خاصةٍ بمجتمعه. “القواعد المشتركة” تشكّل نقطة التقاء، في حين تصبح “الاختلافات” نقطة انطلاق للإبداع، فيتناغم نصٌّ يجمع بين الحسّين.
- هويّةٌ لغويةٌ مزدوجة: يتجلّى هاجس الازدواج اللغوي في انتقاء الكلمات وبناء الجملة والإيقاع. تتشكل لدى الكاتب هويّةٌ “جسرية” تربط بين حضارتين، فتبدو نصوصه الإنجليزية “منفتحة” على ما وراء اللغة.
- إثراء الأدب الإنجليزي العالمي: يضفي دمج صدى اللغات الأم أبعادًا جديدةً على الأدب الإنجليزي، فيتلقى القارئ نصوصًا تحمل نفَسًا ثقافيًّا متعدِّد الأصوات. يظهر أثر هذا الإثراء في استفادة القراء من رؤى لم يعتادوا سماعها في نص إنجليزي خالص.
بنية الكتاب التحريرية
يجمع الكتاب كتابًا من قارات آسيا (الهند، الصين، بنغلاديش، كوريا)، أوروبا (كرواتيا، فرنسا، هولندا، ليتوانيا، اليونان، أيرلندا)، إفريقيا (كينيا)، وأميركا اللاتينية (تشيلي).
يبدأ كل فصل بشخصنة تجربة الكاتب مع لغته الأم، ثم يستعرض كيفية انتقاله إلى الإنجليزية، وختامًا يعرض الدروس المستخلصة عن تلاقح اللغات.
تتراوح المقالات بين السرد الذاتي والتحليل النقدي والتأمّل الثقافي. تربط المحرّرة ويندي ليسير بين التجارب لتقدّم رؤية شاملة حول “عبقرية اللغة” كنتاجٍ للتعدد اللغوي والثقافي.
أبرز الإضافات والملاحظات
- أهمية الشهادات الشخصية ويدفع الأسلوب الشخصي القارئ إلى فهم عمق الازدواجية اللغوية عبر تجارب حقيقيّة، لا مجرد دراسة أكاديمية.
- استطاعت ويندي نسج رابطٍ بين مقالات مختلفة ليظهر الكتاب كمشروعٍ متكامل يسعى إلى كشف قيم “اللغة الأم” في الإبداع الأدبي.
- يشير الكتاب إلى لغاتٍ أخرى لم تشملها هذه الطبعة (العربية، الفارسية، الأوردو…)، ما يفتح المجال لإصدارات مستقبلية تضم تجارب مشابهة.
- يطرح تساؤلاتٍ حول الهوية واللغة والإبداع، ويشجع القرّاء على تقدير لغاتهم الأم والانفتاح على ثراء التلاقح اللغوي.
خاتمة
يدلّ كتاب “عبقرية اللغة” على أن اللغة الأم ليست مجرد “خلفية” تُخلفها وراءك عندما تتعلم لغةً جديدة، بل هي نبعٌ دائمٌ يغذي الإبداع ويظلُّ حاضرًا في أي نصٍّ تُنتجه، حتى لو كتبته لغةً ثانية. عبر خمس عشرة تجربةً من ثقافاتٍ ولغاتٍ متعددة، يتَّضح أنّ العبقرية اللغوية تنبع من التلاقح المستمر بين لغتين؛ ما ينتج نصوصًا إنجليزيةً تنبض بتنوعٍ ثقافيٍّ وحسيٍّ لا يمكن للإنجليزية النقية وحدَها إنتاجه. بهذا الأسلوب الحيّ، تظهر قدرات الكتاب على استنطاق “أصواتٍ متعددة” لصياغة نبعٍ ساحرٍ من التعبير الأدبي والإنساني.
معلومات الكتاب
- عنوان الكتاب بالعربية: عبقرية اللغة
- المؤلِّفة الأصلية والناشرة الإنجليزية: ويندي ليسير (Wendy Lesser)
- النسخة العربية مترجمة إلى العربية بواسطة: حمد الشمري
- دار النشر (النسخة العربية): دار أثر للنشر
- سنة الإصدار : 2019م / 1440هـ
- رقم الطبعة والـISBN: الطبعة الأولى، رقم ISBN 978-1-947836-22-8