ينظر الإسلام إلى الصحة باعتبارها ضرورة إنسانية وحاجة أساسية وليست ترفا أو أمرا كماليا؛ فحياة الإنسان لها حرمتها وقداستها ولا يجوز التفريط فيها ولا إهدارها كما تدل على ذلك النصوص القطعية كقوله تعالى: { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة: 32) ، وقول نبيه الكريم : { من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا } (صحيح الترمذي )، وهذه النصوص وأمثالها تبرهن على حث المسلمين الاهتمام والعناية بالصحة ودعت إلى المحافظة عليها.

دستور الإسلام الوقائي

 ينفرد الإسلام بين الشرائع بأن تعاليمه تشمل ما هو ديني من عقائد وشرائع وأحكام وما هو دنيوي من آداب تنظم عمل مجالات الاقتصاد والتجارة والصحة وغيرها، ويفترض الدكتور شوقي الفنجري في كتابه (الطب الوقائي في الإسلام) أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء بما يسميه دستور أو بروتوكول الطب الوقائي وهو يحوي عددا من العناصر ومن أهمها:

  • صحة البيئة ونظافتها: وتشمل نظافة الأبدان والطعام والشراب والشوارع والطرقات وموارد المياه.
  • منع انتشار الأمراض المعدية: وتشمل عزل المريض والحجر الصحي وعدم الانتقال إلى المناطق المصابة بالوباء.
  • مكافحة الحيوانات والقوارض والحشرات الناقلة للأمراض، ومن ذلك أمره بإبادة الفئران والعقارب والكلاب العقورة والحشرات الضارة الناقلة للأمراض.
  • التغذية السليمة للأبدان: وتتفرع إلى أقسام ثلاثة هي؛ الحث على تناول الطعام الجيد المتضمن للعناصر الغذائية التي يحتاجها الجسم، ومنع الإسراف في الطعام وملء البطون حتى التخمة، وتحريم الضار من الطعام كالميتة ولحم الخنزير.
  • الاهتمام بالصحة النفسية والعقلية : وهي تعاليم الإسلام لمنع الإجهاد النفسي ومنها عدم الجزع عند المصيبة والتسليم بقضاء الله.
  • الاهتمام باللياقة البدنية، وذلك بالحث على النشاط البدني والدعوة إلى ممارسة الرياضات المفيدة وذم الخمول والتبطل.
  • رعاية المسنين والأطفال والنساء الحوامل: وذلك بالتخفيف عليهم وعدم تحميلهم ما لا يطيقون القيام به من أعباء. [1]

وقد أفلح المسلمون عبر تاريخهم في تحويل هذه التعاليم النظرية في صورة إجراءات عملية ملموسة، حيث اتجهت الدولة إلى تشييد (البيمارستانات) على اختلافها لعلاج المرضى، وتوسعت في عمليات شق الترع وتطهير مصادر المياه، وأقامت المحتسب ليراقب الأسواق ويتابع الإجراءات الصحية بها، وسنت التشريعات التي تكفل المحافظة على البيئة، وما إلى ذلك من إجراءات تكشف عن السياسة الصحية وهو ما نحاول بيانه في السطور التالية.

السياسة الصحية ودور الدولة في تطبيقها

شغل المسلمون في بدء ظهور الإسلام بفتح الممالك وتشييد بنيان الدولة، وما أن أدركوا بعضا من ذلك حتى أخذت ميولهم نحو العلم والتمدن تظهر منذ عهد الدولة الأموية رغم قرب عهدهم بالبداوة حيث تقدم خالد بن يزيد بن معاوية إلى المترجمين وطلب منهم ترجمة كتب الحكمة والطب والكيمياء من اليونانية إلى العربية، وجاء من بعده مروان بن الحكم وطلب من الحكيم سرجيس نقل كتب الطب اليونانية الشهيرة ثم جاء عمر بن عبد العزيز فوجدها في خزائن كتب بني أمية فأمر بأن توزع على الأطباء للعمل بما فيها.

وكذلك اتجه الخلفاء نحو تشييد البيمارستانات أو المستشفيات والإنفاق عليها وتوفير الأدوية لها، ومن أقدمها بيمارستان جنديسابور الذي شيد في عصر أبي جعفر المنصور وكان يترأسه جورجيس بن بختيشوع الذي ترجم جملة من الكتب الطبية بأمر من الخليفة المنصور، ثم كثرت بعد ذلك البيمارستانات وانتشرت في مصر والشام والعراق والحجاز، وكان يختار لها أمهر الأطباء ويجعلون للجميع رئيسا عاما (مديرا للأطباء)[2]، وقد تعددت أنواع البيمارستان وكان منها “البيمارستان النقال” وهو مستشفى متنقل مجهز بالأدوية والمعدات الطبية وكل ما يعين على مداوة المرضى، وكان ينقل من بلد إلى آخر من البلدان التي تخلو من بيمارستان ثابت أو التي يظهر بها وباء أو مرض معدي أو يصاحب الحجيج في رحلاتهم إلى الديار المقدسة، ومنها أيضا ” البيمارستان العسكري” وهو الذي يرافق الجند في ميادين القتال ويعمل به فريق من الأطباء والصيادلة والممرضين، كما كانت هناك بيمارستانات عمومية تعالج كافة الأمراض وأخرى تخصصية تعالج أمراضا بعينها كالأمراض المعدية التي كان يعزل بها المرضى عن الأصحاء، والأمراض العقلية وغير ذلك.

اقرأ أيضا :

العناية الطبية بالفقراء في الحضارة الإسلامية

الحسبة والصحة العمومية

وتعد الحسبة كذلك من الآليات التي لعبت دورا لا ينكر في حفظ الصحة العامة رغم أنها من الوظائف الدينية، ويكفى أن يطالع المرء بعضا مما نصت عليه كتب الحسبة[3] من الواجبات التي ينبغي أن يلتزم بها أرباب المهن والحرف وعلى الأخص المتعلقة بالمأكل والمشرب، وكذلك الضوابط الواجب اتباعها للحفاظ على البيئة من نظافة الشوارع والطرق، وتطهير موارد المياه والاهتمام بالحيوانات.  

وتشير المصادر التاريخية إلى أن المحتسب اضطلع بمهمة الإشراف على تطبيق السياسة الصحية وردع الخارجين عليها، ويمكن إيضاح الدور الكبير الذي لعبه المحتسب أو بالأحرى مؤسسة الحسبة في حفظ الصحة العامة من خلال العناصر التالية:

  • ضبط الممارسة الطبية: كان في طليعة مهام المحتسب إلزام الأطباء والمعالجين بضرورة تعلم أصول ومبادئ المهنة على يد الحكماء المعتمدين، وقراءة الكتب الطبية الشهيرة لابن سينا والرازي وحنين بن إسحاق، ومن لم يثبت تحصيله ما فيها كان يمنع من ممارسة المهنة حتى يحصل ما فيها، كما كان يتولى أخذ قسم أبوقراط من الأطباء قبيل مزاولة المهنة ومن خلاله يتعهد بعدم إعطاء المريض دواء ضارا أو مهلكا، وعدم إسقاط أجنة الحوامل، وعدم إفشاء أسرار المريض وغيرها من المبادئ الخلقية الرامية إلى وضع إطار أخلاقي لممارسة المهنة.
  • الحفاظ على البيئة ومنع التلوث: شملت مهام المحتسب المحافظة على البيئة نظيفة ومحاربة التلوث من خلال مكافحة طرح القمامة في الشوارع، ومنع وضع مخلفات في السبل والأنهار، أو ترك مياه الأمطار في الشوارع، كما كان من صلاحياته تنظيم الأسواق على نحو يحقق قواعد الصحة العامة كأن يمنع السماكين من وضع السمك في الحوانيت دون غطاء، كما كان يمنع القصابين من الذبح في الطريق حتى لا يتلوث بالدم والروث.
  • مراقبة الأطعمة وقدور الطعام: اهتم المحتسب بكل ما يقدم في الأسواق من طعام أو شراب، فكان يفحص كل ما يقدم من طعام يقدم في الأسواق، ويفتش هو ونوابه على المطاعم والحوانيت في جولات تفتيشية للتأكد من نظافة الأواني والقدور ومعاينة ما بها من مأكول أو مشروب، والتأكد من سلامتها وإعدام ما فسد منها، كما كان يتشدد مع الباعة الجائلين الذين يقطعون الشوارع لبيع الطعام المطبوخ ويبيعونه للمنازل، وكثيرا ما كان يطالبهم بغسلها بالماء الحار والصابون، وتغطيتها وحفظها من الذباب والهوام[4].
  • الإشراف على أرباب الحرف الغذائية: خضع كثير من أرباب الحرف المتصلة بحياة الإنسان إلى رقابة المحتسب، ويمكن أن نسوق بضع أمثلة لذلك من مثل الخبازين والطحانين الذين كانوا موضع عناية المحتسب لأن الغلال والحبوب أهم ما يقتات عليه الإنسان، فكان يصدر تعليماته إلى الطحانين بعدم خلط رديء الحنطة بجيدها، ولا جديدها بعتيقها، ويأمر الخبازين برفع سقاف المخابز لأجل التهوية، وأن يجعلوا بها مداخن لإخراج الدخان، وألزمهم باتباع قواعد النظافة بتنظيف الأفران وتغطية قدور العجن بأقمشة نظيفة، وعدم استخدام أقدامهم أو مرافقهم في العجن، وارتداء ملابس غير متسعة لئلا يتساقط العرق منهم أثناء العجن، وزيادة في التحرز طالبهم بوضع عصابة بيضاء على الجبين لامتصاص العرق، ويلزمهم بنخل الدقيق بمناخل ضيقة لحجب الشوائب، وضرورة ترك العجين مدة للاختمار قبل خبزه.

وكان بائعي اللبن أو من كان يطلق عليهم ” السمانين” ملزمين بغسل أوعيته جيدا بالماء والصابون وتغطيتها حتى وإن كانت فارغة حتى لا يأتيها حيوان أو تقربها الهوام، وكذلك يفعلون مع الأواني التي يقدم فيها اللبن إلى الزبائن ويتعين عليهم غسلها بالماء المطلق كل إناء على حدة، وأما من يخالف هذه التعليمات ويلوث اللبن فإنه يغرم ثمنه لمشتريه[5].

ومثلهم باعة الزيوت فقد حظر عليهم عصر السمسم لعمل السيرج قبيل غسل السمسم وتحميصه ودقه ثم طحنه، وعليهم غسل أرجلهم بالمحكة وارتداء ملابس ضيقة عند الوسط وتغطية وجوههم حتى لا يتطرق العرق إلى الزيت المستخرج.

ختاما يمكن القول إن المسلمين استنبطوا من النصوص والمبادئ الإسلامية المتعلقة بالصحة سياسات قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وقد اضطلعت مؤسسة الدولة ومؤسسة الحسبة بمهمة تنفيذها.


الهوامش :

[1] شوقي أحمد الفنجري، الطب الوقائي في الإسلام: تعاليم الإسلام الطبية في ضوء العلم الحديث، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991، ص 11-14.

[2] رفيق العظم، الأشباه والنظائر في قوانين حفظ الصحة في عصور المدنية الإسلامية وفي هذا العصر، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، 1924، مج 4، ج 3، ص 100-103.

[3] من أشهر كتب الحسبة، المدخل لابن الحاج، ونهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام، ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة.

[4] محمد جمعة عبد الهادي موسى، الحسبة على البيئة بمصر وبلاد الحرمين عصر سلاطين المماليك: دراسة مقارنة، عمان: دار أمجد للنشر والتوزيع، 2017، ص 140-149.

[5] ابن الحاج، المدخل، القاهرة: دار التراث، ج 4، ص 149.