الإجابة على تساؤل: ما موقف الإسلام من حوار الأديان ؟ متوقفة على معرفة مفهومه، فهو مصطلح علمي له تاريخ نشأة. ولا شك أن الخلط في إدراك مفهومه وتاريخ نشأته يؤدي إلى عدم سلامة ولا صحة ما يتبع من حكم. وللأسف هذا الخطأ وقع فيه عدد كبير من علماء الفكر الإسلامي المعاصر، ووقع فيه أيضا عدد من علماء الدين ، خاصة ممن تفاعلوا مع قضية “حوار الأديان”؛ وهم معذورون لأنهم اعتمدوا على كتابات ومصادر إسلامية عربية تناولت مفهوم المصطلح وتاريخه.
وقلّما يقف القارئ في المصادر الإنجليزية على مثل هذا الخطأ العلمي المنتشر في عدد كبير من المصادر العربية.
ونجد على سبيل المثال ما حاول الكاتب أحمد عبد الله عرضه لموقف الإسلام من حوار الأديان في مقال سابق من أرشيف “إسلام أون لاين” بعنوان: “حوار الأديان.. أسئلة مشروعة وإجابات صعبة“، دون أن يقدم أو يتبنى مفهوما واضحا.
أولا: نماذج مفهوم مغالط لــ “حوار الأديان” ونشأته في الفكر الإسلامي المعاصر
من أهم تعريفات حوار الأديان في المصادر العربية والقائمة على مغالطة ما يأتي:
- مفهومه ونشأته عند الشيخ الدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي في مقال له على الدرر السنية بعنوان ” الحوار بين الأديان (حقيقته وأنواعه)”، حيث قال: “جاءت فكرة الحوار بين الأديان عند الكنيسة الكاثوليكية مع تجديدات أخرى في الدين النصراني..” “منذ منتصف القرن الماضي بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965م) ظهر تطور جديد في أسلوب التنصير والتبشير وهو التنصير تحت عباءة الحوار والتقارب وتفاهم الآخر والاعتراف به والتعاون على القضايا المشـتركة بين الأديان..” “فكرة “الحوار بين الأديان” منشؤها الأصلي من الكنيسة الكاثوليكيّة وأكثر جمعيات الحوار ومؤتمراته منها، وهذا في حدِّ ذاته مؤشرٌ للأهداف الخبيثة فيه..” فيفهم حوار الأديان سلبيا هنا لأنه تبشير وتنصير نشأ على يد الكنيسة، وهذا المفهوم ليس صحيح ولا تاريخ النشأة!
- تعريف الدكتور عبد الحليم آيت أمجوض في كتاب “حوار الأديان: نشأته وأصوله وتطوره”، وهو في الأصل رسالته لنيل درجة الدكتوراه بالمغرب. حيث عرفه بـ”جميع الحوارات التي تجري بين معتنقي أديان مختلفة أفرادا كانوا أو جماعات شفوية كانت أو مكتوبة أو مرقونة، رسمية كانت أو أهلية، عامة كانت أو خاصة، عقدية كانت أو عملية..” ويرى أنه غربي المنشأ في ستينات القرن الماضي بتوجه مسيحي بقيادة مجمع فاتيكان الثاني. الإشكال في هذا التعريف عدم وجود فرق واضح بين الحوار والمناقشة والمناظرة، ولا حوار في قضايا العقيدة بمعنى المنظارة أو المجادلة أو السعي لتغيير موقف الآخر، والإشكال الآخر هو تاريخ النشأة.
- تعريف الدكتور أنيس مالك طـــه في مقال علمي محكّم نشر في مجلة التجديد بماليزيا. “تاريخ الحوار الفعلي الرسمي بين الأديان في العصر الحديث لم يبدأ التخطيط والتنفيذ له إلا في أوائل القرن العشرين الماضي بمبادرة من الكنائس المسيحية، و تم تصميمه ضمن المخططات التبشيرية المسيحية، ثم تم تأكيد هذه الأهداف التبشيرية للحوار واعتمادها بشكل رسمي في مجمع الفاتيكان الثاني 1962.
- تعريف الدكتور عبد الودود شلبي في كتاب “الحوار بين الأديان: أسراره وخفاياه: الحوار أسلوب جديد للتبشير”، يهدف إلى غزو عقول المسلمين وتفريقهم، واكتسب فكرته من مجمع الفاتيكان الثاني.. أو لا يعتبر هذا التعريف اختزالا واستهانة بعقل المسلم عندما يقتصر الحوار على هذا الإطار الضيق.
- وقس على هذه التعريفات غيرها..
ثانيا: الإشكالية العلمية والخلل المنهجي في تعريف المصطلح في المصادر العربية؟
الإشكالية الأولى : كلنا نعرف “الكومبيوتر”، وندرك مفهومه الاصطلاحي. لكن لما يراد تعريفه علميا ويترجم إلى “الحاسب الآلي”، ثم ننشغل بقول ابن منظور والفراهيدي وابن فارس وهم يشرحون مادة (ح س ب) وجذور كلمة “آلة وآلي”؛ فكأننا ننفخ في رماد. حيث لن ينتهي بنا ذلك التحليل اللغوي بالاعتماد على المعاجم التاريخية إلى معاني المصطلحات الحديثة المكونة من هذه الكلمات. فهذه إشكالية وجدت مع تعريف كلمة حوار وتعريف الدين، علما أنه لا ينبغي أن يؤدي التعريف اللغوي إلى إشكال.
الإشكالية الثانية: أنه لم يتم التعامل مع مصطلح “حوار الأديان” كمصطلح علمي، مثل “علم الكلام” “الكيمياء” “الهندسة”؛ بل باجتهادات فردية وشخصية واستنباطات وتكهنات وتخمينات يدركها كل من قرأ تعريف المصطلح.
الإشكالية الثالثة : عرف بعض الباحثين المصطلح بالاعتماد على نظرية المؤامرة على الإسلام، وترَك المنهج العلمي في التعامل مع المصطلح، والمنهج العلمي كفيل لكشف المؤامرة في حال كان الأمر في الحقيقة مؤامرة!
الإشكالية الرابعة : تكمن في ملاحظة ورواية بعض ممن حضر وشارك في اجتماعات قادة الأديان المختلفة على منصة واحدة، وهو لم يعهد هذه الظاهرة من قبل فتنعكس آثار هذه المشاهدات والملاحظات على تعريف المصطلح، وليس هكذا تعرّف المصطلحات!
وتزداد التعقيدات أكثر حينما يشارك في مثل هذه الحوارات ممن لم يتخصص علميا في الفكر الإسلامي أو مقارنة الأديان !
ثالثا: الحوار لا يعني المناظرة أو المجادلة أو المناقشة أو التبشير
الحوار هو بيان ما عندك وترك الآخر يبين ما عنده، لا أنا أتحدث بلسانك وأنت موجود ولا العكس. فهو إعطاء كل الأطراف فرصة التعبير عن مواقفهم ورؤاهم في ربط دينهم بمعالجة المشاكل الإنسانية المشتركة.
المعرفة والإدارك الحاصل نتيجة هذا البيان هو أوّل أهداف الحوار، وثاني أهدافه أن يعزز ذلك في إزالة سوء التفاهم ويسهم في نبذ الصراع والحروب مما يسهم في التعايش وما يتعلق بذلك. وينبثق عن هذين الهدفين الأساسيّن أهداف فرعية أخرى من أهمها التعاون على حلّ القضايا التي تواجه البشرية والتي لا يشترط العقيدة في حلها بل الضمير الإنساني كاف؛ مثل العبودية، والفقر، والبطالة والظلم والعنصرية والإرهاب…
الحوار لا يُلزم المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه، ولا يحرص على ذلك، وإنما لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً لخدمة البشرية ومعالجة قضاياها والإسهام في السلم والتعايش ونبذ العنف كما يعبر محمد مسعد ياقوت في حوار الحضارات وخناجر في جسد الإسلام.
وعليه فإن الحوار لا يعني الجدال وإن كان الجدال الحسن يتساوى في الحوار مع الأهداف والآداب ويؤدي إلى النتائج نفسها.
يقول د. محمد خليفة حسن –وهو أحد المساهمين علميا في تعريف حوار الأديان تعريفا صحيحا لاطلاعه على المصادر الإنجليزية- في مقال له بعنوان: “الحوار الديني ودوره في مواجهة التطرف الديني والإرهاب ” يختلف الحوار الديني بطبيعته عن الجدل في أن الحوار الديني يحتوي ضمنًا على عناصر التفاهم بين الأديان بينما الجدل يشير ضمنًا إلى عناصر الاختلاف والتباعد بين الأديان والمذاهب.
وإن الحوار لا يعني المناظرة أو المناقشة بتاتا، يقول أحمد بن سيف الدين تركستاني في مقاله الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه المقصود من الحوار ليس المجابهة والإفحام إذ إن ذلك هو من باب المناظرة ومحاولة الظهور على الخصم وتعجيزه عن الرد. ولا يصحّ تعريف الحوار بعد تقسيمها إلى حوار الدعوة وحوار التقريب وحوار وحدة الأديان وحوار توحيد الأديان وحوار التعايش كما يظهر في بعض الكتابات. والأهم من كل هذا أن حوار الأديان لم ينشأ بدعوة نصرانية فاتيكانية كما هو عمدة أغلب الدراسات العربية في المجال.
وأجد أن د. منقذ بن محمود السقار الباحث في رابطة العالم الإسلامي تعامل في مقاله: “ الحوار مع أتباع الأديان: مشروعيته وآدابه” بحنكة في طرحه، ورغم أنه استند إلى تعريفات غير سليمة عن حوار الأديان، ويصعب التفريق بينها وبين الجدل والمناظرة، وإن حرص على ذلك من باب اللغة.
يقول السقار : “حين نتحدث عن الحوار فإنا لا نقصد بحال من الأحوال الحوار الذي يقـوم علـى وحـدة الأديان والتلفيق بينها وصهرها في دين عالمي جديد قائم على الجمع بين المتناقضات، الكفر والإيمان، التوحيد والوثنية” أقول” غير المصادر العربية لم يعرف الناس الحوار بهذه المفاهيم” ومن الجميل أنه وسّع مفهوم الحوار عمليا في الأمثلة التي استنتجها من سيرة رسول الله ﷺ، وفي تاريخ الإسلام وموقفه من الآخر عموما، وأرجع نشأة الحوار إلى أبعد من دعوة مجمع الفاتيكان الثاني حيث قال: “.. وفي القرن الميلادي العشرين نشط الحوار بين الأديان ، ودعي المتحـاورون إلى عـدد مـن المؤتمرات، منها مؤتمر تاريخ الأديان الدولي في بروكسل في عام ١٩٣٥م، والمؤتمر العـالمي للأديـان المنعقد في لندن عام ١٩٣٦م، ثم في جامعة السوربون عام ١٩٣٧م”.
ولنا دراسات تتبع عن تاريخ نشأة حوار الأديان في الفكر الإسلامي المعاصر وموقف الإسلام منه وفق بيانات علمائنا المعاصرين.