تحصل معرفة صحة الحديث وعدمه من خلال المنهج المؤسس من لدن قرون الإسلام الأولى، وهو المنهج العلمي النقدى المتين الذى تم إيجاده وانتاجه جراء جهود نقاد المحدثين وخبراتهم العظيمة في خدمة السنة النبوية، فإنه منهج يمتاز باحتوائه على مجموعة من القواعد والمبادئ التى بها تتميز صحة نسبة الأحاديث النبوية من سقيمها.  

قانون الرواية عند المحدثين           

إنه لا يخفى على الدارس المتأني والمتأمل: أن بضاعة المحدثين العلمية واسعة المساحة للاستنتاج والتحليل العقلي في الحكم على الحديث، فمنهجهم النقدى في التصحيح والتضعيف كان قائما على تتبع القرائن والملابسات وسبر أحوال الراوي والمروي، ولا يقبلون الحديث إلا باستيفائه لشروط القبول الخمسة الآتية:

1/ الاتصال: أي أن يكون بسند متصل، برواية راو عن الآخر مشافهة أو سماعا أو بطرق التحمل أخرى حتى يبلغ قائله

2/ الضبط: وهو نوعان:

  • ضبط صدر: هو أن يثبت الراوي حفظ ما سمعه في صدره ويتمكن من التحديث به في أي وقت شاء.
  • ضبط كتاب: وهو إثبات الراوي روايته في الكتاب مع صيانته له والمحافظة عليه ويروي منه متى شاء.

وتمام الضبط مطلوب في صحة الحديث، وإذا خف فإنه ينزل إلى درجة الحسن.

3/ العدالة: أي أن يكون الراوي في وقت أداء الرواية: مسلما بالغا ملتزما وسالما من الفسق وخوارم المروءة

4/ عدم الشذوذ: يعنى سلامة رواية الراوي المقبول من المخالفة لمن هو أرجح منه أو تفرده بنقل أصل لا يحتمله ضبطه   

5/ عدم العلة القادحة: وهو انتفاء العلة الخفية الكامنة في الإسناد التى تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها.

ومتى اختل شيء من هذه الشروط الخمسة كان كافيا لحكم على الحديث بالضعف، وهذا يدل على شدة احتياط المحدثين في المعيار النقدي الذي عليه المعول في قبول الخبر أو رده، فهذه الشروط – لا سيما الاتصال والعدالة والضبط- لها تعلق مباشرة بالإسناد، وما ذلك إلا لضرورة تحقيق النظر التام ودقة سبر حال الراوي – جرحا أو تعديلا – لأنه في مثابة الموقع عن رب الشريعة إذ قبول حديثه يعنى قبول ما يتضمنه من الأحكام الشرعية، ولتلك الشروط تعلق بالمتن أيضا، وخاصة الشرطان الأخيران – عدم الشذوذ وعدم العلة – وإنهما يجريان في البحث عن أوهام الرواة الثقات والمقبولين، أي أن المحدثين لم يكتفوا بوصف الراوي أنه ثقة أو مقبول دون إحكام النظر في خلو روايته من الشذوذ أو العلة المؤثرة.

وليس من شك في أن من توفرت فيه هذه الشروط يكون جانب الصدق فيه أقوى، وتطمئن النفس إلى صدق خبره، وفي هذا إشادة بعبقرية تلك العقول الفذة المستقلة والمواهب المبتكرة لوضع دقة الضوابط التى تميز صحة الخبر من عدمه وفق المنطلق الإيماني والمدارك العقلية.

ثم يتضح من تلك الشروط، أن الميزان النقدى الحديثي يمر بمرحلتين: الأولى: نقد السند. والثانية: نقد المتن.

ومفهوم ذلك، أن المحدثين قد أعطوا كلاً من السند والمتن حقه النقدي، ومن حمل الملام عليهم بأنهم أغفلوا النقد المتنى وقد أبعد النجعة وجانب الحق والإنصاف والواقع، إلا أنه يمكن القول إنهم لم يتوسعوا في نقد المتن كتوسع نقدهم في السند، لأن السند هو الخطوة الأولى في النقد، فالأحاديث التى تم ردها من حيث الإسناد لا يخلو كثير منها من علة متنية أيضا، ومن له دقة التأمل يدرك ذلك جليا في واقع كتب الحديث الضعيف، وإنما يقل النقد المتنى بالنظر إليه على حدة، وأما من حيث السند والمتن معا فليس بقليل.  

الاستقلال العلمي عند المحدثين

لا بد من تأكيد القول على أن المنهج النقدي الحديثي وفي التعديل والتجريح  لم يكن مبنيّا على التشهي والهوى ولا لخضوع سلاطين الزمان ولا لمسايرة لأحد كائنا من كان حاشا وكلا، وإنما نابعا من واجب النصيحة الدينينة الصادقة، وصادرا عن التجرد العلمي الواضح الذي أوجبه الدين، وقد أحسن الإمام مسلم القول – وهو أحد رواد أئمة النقد– إذ يقول: وإنما التزموا (أي أئمة الحديث) بالكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين، إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة… ولم يبين ما فيه لغيره ممن يجهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات، وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة.[1]

وهذا ابن معين رحمه الله إمام الجرح والتعديل في زمنه، يقول عنه هارون بن بشير الرازي:” رأيت يحيى بن معين استقبل القبلة رافعا يديه يقول اللهم إن كنت تكلمت في رجل وليس هو كذابا فلا تغفر لي.”[2]. وكان ابن معين يصف صديقه عبيد بن إسحاق العطار بأنه كَذَّاب.[3]

وقد سئل علي بن المديني رحمه الله عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثم رفع رأسه وقال: ” هذا هو الدين أبي ضعيف”[4]

وقال أبو داود صاحب السنن رحمه الله” ابني عبد الله كذاب “[5]   

وقال زيد بن أبي أنيسة رحمه الله: “لا تأخذوا عن أخي يحيى “[6]

وهذا الزهري الإمام في حضرة هشام أمير المؤمنين في قصره، ولما أراد هشام أن ينسب تولي كبر الإفك لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه رفض ذلك الزهري واتهمه هشام بالكذب، فرد عليه الزهري بالقسوة قائلا: «أنا أكذب؟ لا أبا لك! فوالله لو ناداني مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت»[7] وإنما تجرأ الزهري على التفوه بهذه الكلمة الجريحة ” لا أبا لك” لأنه في مقام الدفاع عن السنة النبوية ومجانبة الغشّ في دين الله.

وهذه النماذج صورت لنا كيف تحكمت الديانة في طبائع نقاد الآثار وأنهم لا يخبطون في السنة النبوية خبط عشواء بل لهم النباهة والعقل والحرية العلمية التامة، وكانوا على حرص شديد على أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام والذبّ عنها وإبلاغها إلى الناس غضا طريا كما عهدوها وتلقّوها، ومستعدين في سبيل ذلك تحمل كل تضحية ولا يخشون في ذلك أحدا ولو كان خليفة المسلمين.

ولذا تكوَن منهجهم وأسسهم النقدية على الصدق والتحري والإنصاف والنزاهة والتجرد، وبعيدا كل البعد من المصانعة والمحاباة والمداهنة، ولا ميلا ولا دخلا بالحب كالصداقة أو القرابة في الجرح والتعديل، وليس من وراء منهجهم النقدي الحديثي أي إخضاع لغير الحق الصافي، ومن ثم نرى أن المحدثين – عبر التاريخ – من أكثر الناس ورعا للضمير واحتسابا للخير وتجردا للحق، ويتحصل من هذا كله أن منهج أهل الحديث في النقد أشمل المناهج وأدقها وأوفاها وأرقاها وباقيا للتطبيق إلى يوم الناس هذا.


[1] مقدمة صحيح مسلم. 1/21

[2] تهذيب التهذيب. 11/249

[3] سؤالات ابن الجنيد لأبي زكريا يحيى بن معين ص:471

[4] تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. 11/201

[5] سير أعلام النبلاء. 13/228

[6] مقدمة صحيح مسلم. 1/21

[7] تاريخ دمشق 31/594-595