من المعلوم أن الحركة العلمية والثقافية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم متعددة الجوانب، وكان العهد الإسلامي الذي بدأ بقيادته صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة فاتحة عهد جديد وخير للبشرية جمعاء.. وعهد علم وثقافة ومعرفة.
فلقد افتتح النبي محمد صلى الله عليه وسلم حسب رأي العديد من علماء الشرق والغرب عهدا جديدا، وعصرا للنور والعلم والمعرفة، فكان كفاحه حين صدع بالدعوة الإسلامية لنشر رسالة الله لإزالة ما تراكم في ذلك المجتمع الجاهلي الوثني من معتقدات خرقاء، وأنماط اجتماعية سوداء.. وهذا ما دفع الدكتور ماركس إلى إعلان قولته الشهيرة التي نصها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي افتتح برسالته عصر العلم والنور والمعرفة لابد أن تدون أقواله وأفعاله على طريقة علمية خاصة، وبما أن هذه التعاليم التي قال بها [يعني النبي محمد صلى الله عليه وسلم ] هي وحي الله المنزل ورسالته، فقد كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يمحو ما تراكم على الرسالات السابقة من التبديل والتحوير، وما أدخله عليها الجهل من سخافات لا يعول عليها عاقل”، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
“ومنذ عام 700م بدأت إشراقة الحضارة العربية الإسلامية تمتد من شرقي المتوسط إلى بلاد فارس شرقا وإسبانيا غربا، فأعيد اكتشاف قسم كبير من العلم القديم، وسجلت اكتشافات جديدة في الرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم، وفي هذا المجال كما في غيره كان العرب معلمين لأوروبا، فساهموا في نهضة العلوم على هذه القارة”2.
القراءة أول تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم
يقول نصري سلهب: “أولى الآيات البينات كانت تلك الدعوة الرائعة إلى المعرفة، إلى العلم عبر القراءة.. (اقْرَأْ ) 3.. وقول الله هذا لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لجميع الناس، ليوضح لهم منذ الخطوة الأولى، بل منذ الكلمة الأولى، أن الإسلام جاء يمحو الجهل وينشر العلم والمعرفة”.4
وهذا ما يشيد به أيضا “واجنر”، حيث يقول: “… الإسلام دين العلم، ويكفي أن أول آية في القرآن أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: (اقْرَأ )، وهذا اتجاه فريد يصعب وجوده في تاريخ الكنائس والأديان الأخرى، ولهذا تجدني وصلت من خلال الدراسات الإسلامية وما قرأته في كتاب الله تعالى الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصلت إلى ما أبغيه لنفسي من الاستقرار والأمان!!”.5
احترام العقل
يبين “ليون”6 أن من روائع منهج النبي في العلم والمعرفة أنها تحترم العقل، وأن الإسلام “لا يطالب أتباعه أبدا بإلغاء هذه الملكة الربانية الحيوية، فهو على النقيض من الأديان الأخرى التي تجبر7 أتباعها على أن يتقبلوا مبادئ معينة دون تفكير ولا تساؤل حر، وإنما تفرض هذه المبادئ فرضا بسلطان الكنيسة، أما الإسلام فإنه يعشق البحث والاستفسار ويدعو أتباعه إلى الدراسة والتنقيب والنظر قبل الإيمان.. إن الإسلام يؤيد الحكمة القائلة: برهن على صحة كل شيء ثم تمسك بالخير، وليس هذا غريبا، إذ إن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، فالإسلام دين العقل والمنطق.. فالإسلام هو الحق، وسلاحه العلم، وعدوه اللدود هو الجهل”.8
ويتحدث المفكر الشهير “أوجست كونت” عن هذه النقطة وعن قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية.. فعبّر عن ذلك بقوله: “إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل، كما هو الحال في الأديان الأخرى، بل لا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها؛ لأن الإسلام يتماشى أساسا مع واقع الإنسان، كل إنسان، بما له من عقيدة مبسطة ومن شعائر عملية مفيدة”.9
ويقول المؤرخ العلامة سيديو في مقارنة رائعة: “لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوروبا من تحجر العقل وشل التفكير وجدب الروح ومحاربة العلم والعلماء؛ حيث يذكر التاريخ أن اثنين وثلاثين ألف عالم قد أحرقوا أحياء!! ولا جدال في أن تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر، بل كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك العصور المظلمة، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ومنح مخالفيه في العقيدة كل أسباب الحرية كما فعل الإسلام”.10
ومنذ حوالي ألف عام عندما كان العلماء في أوروبا يُحرقون أحياء -كما قال سيديو- كان العالم الأندلسي المسلم (ابن حزم) يعلن في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) عن كروية الأرض11 منطلقا من القرآن الكريم، ومن التنظيم المطرد لمواقيت الصلاة في محيط الأرض.12
رغم أن أوروبا في عهد الكنيسة وفي ذلك الوقت اعتبرت “أن من الكفر والضلال القول بأن الأرض كروية؛ فمعلم الكنيسة لاكتانتيوس يتساءل مستنكرا: أيعقل أن يُجنَّ الناس إلى هذا الحد فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخر من الأرض، وأن أقدام الناس تعلو رءوسهم؟!”.13
حثه على طلب العلم
يقول ول ديورانت: “تدل الأحاديث النبوية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على طلب العلم ويعجب به، فهو من هذه الناحية يختلف عن معظم المصلحين الدينيين”.14
وتقول هونكه15: “لقد أوصى النبي [صلى الله عليه وسلم] كل مؤمن -رجلا كان أو امرأة- بطلب العلم والمعرفة ، وجعل من ذلك واجبا دينيا، وكان يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة للتعرف على قدرة الخالق، وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإيمان.. ويلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر، وعلى النقيض تماما يتساءل بولس الرسول Paulus مقرا: (ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة)؟!”.16
وهي لفتة ذكية من هونكه في الفرق بين وجوب طلب العلم في تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم وتحريم المعرفة في تعاليم بولس، ومِن خلفه الكنائس النصرانية في عصور الظلام!!.
تماما كما قارنت الدكتورة هونكه في موضع آخر؛ حيث قالت: “نادى النبي بالطموح إلى المعرفة والسعي إلى العثور عليها، وقد أدى ذلك إلى اندفاع العرب بأسرهم إلى المدارس يعلِّمون ويتعلمون، بينما كان الغربيون يتباهون بجهلهم للقراءة والكتابة!”.17
ومن ثم تقول تزفسكن18: “لم يتبيّن لي الفرق الشاسع بين تعاليم الإسلام وبين كثير من العادات الشرقية إلا عندما دخلت عالم الإسلام الروحي عن طريق القرآن والكتابات الإسلامية.. فشعرت ببطء كيف يجذبني الإسلام، وكانت تعاليمه تخاطب عقلي وفطرتي، وكان من أهم ما شدّني.. الاجتهاد في طلب العلم الذي يُعتبر فريضة على كل مسلم ومسلمة”.19
وهو الأمر الذي نال إعجاب وتقدير لامير20 التي تقول: “في الوقت الذي تهاوت فيه تعاليم الأديان الأخرى ومبادئها أمام جبروت العلم أخذ علماء الدنيا في الوقت الحاضر يتطلعون إلى الإسلام طالبين السلوى؛ لأن تعاليمه أقرب إلى العلم من أي دين آخر، بل إن الإسلام يحض على العلم، وهو دين تقدمي يناسب كافة المناخات والبلاد، كما يصلح لجميع العصور” .21
العلم من وظائف رسالته
يقول آتيين دينيه: “… إن الإسلام منذ البداية في أيامه الأولى قد أخذ في محاربة الخرافات والبدع، وهو نفس العمل الذي يقوم به العلم إلى يومنا هذا”.22
وبالتالي فإن “المنجزات العلمية تتفق تماما مع مبادئ الإسلام؛ لأن الإسلام هو دين العلم”23، على حد قول فيلويز.24
ومن هنا يذكر جوستاف لوبون أن: “الإسلام من أكثر الأديان ملاءمة لاكتشافات العلم”.25
وعلى هذا الأساس يعرّف جارودي26 الإسلام، فيقول: “إنما الإسلام هو تلك الرؤية لله وللعالم وللإنسان التي تنيط بالعلوم وبالفنون، وبكل إنسان وبكل مجتمع، مشروع بناء عالم إلهي وإنساني لا انفصام فيه باقتضاء البعدين الأعظمين، المفارقة والجماعة، التسامي والأمة”.27
ويبين روم لاندو العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام، فيقول: “… في الإسلام لم يول كل من الدين والعلم ظهره للآخر ويتخذ طريقا معاكسة.. لا، والواقع أن الأول كان باعثا من البواعث الرئيسية للثاني”.28
ويُفصِّل روم لاندو القول في هذه العلاقة قائلا: “العلم الإسلامي لم ينفصل عن الدين قط، والواقع أن الدين كان هو ملهمه وقوته الدافعة الرئيسية، ففي الإسلام ظهرت الفلسفة والعلم معا إلى الوجود لا ليحلا محل ألوهية الدين (البدائية)، ولكن لتفسيرها عقليا، لإقامة الدليل عليها وتمجيدها.. إن المسلمين وفّقوا طوال خمسة قرون كاملة إلى القيام بخطوات حاسمة في مختلف العلوم من غير أن يديروا ظهورهم للدين.. وإنهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسريع وإنجاح لا عامل تعويق وإحباط”.29
ومن ثم بلغوا مبلغا عظيما في ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية، وظهر منهم مسلمو إسبانيا “الذين أهدوا إلى الغرب اللاتيني هباتهم النفيسة في ميادين العلم والفلسفة.. وكان الطب كالرياضيات من مفاخر العلوم العربية وأركانها الوطيدة”30، على حد قول سرارنست باركر (1874-1960).
وكانت هذه العلوم التي نبغ فيها المسلمون في عصورهم الذهبية – كما يقول الدومييلي– هي “حلقة الاتصال والاستمرار بين الحضارة القديمة وبين العالم الجديد”.31
وهنا يحذر “الدومييلي” من شبهة فيقول: “ينبغي ألا نظن أن العرب لم يضيفوا شيئا جديدا إلى العلم الذي كانوا أوصياء عليه، بل على النقيض من ذلك”.32
وعن رسالة المسلمين في هذه العلوم يقول “أرنست بانرث”33: إنهم -أي المسلمين- “لم يخربوا ما وجدوه من عناصر ثقافية، بل اهتموا بها وبذلوا جهدهم لهضمها ومن ثم تطويرها، ونرى هنا أن العرب فتحوا باب التعرف على الحضارة اليونانية بواسطة المترجمين، وعلى هذه الطريقة تطورت الثقافة تحت حماية الإسلام بالعربية التي هي واسطة ممتازة للتعبير عن الأفكار العليا، والتي لا تفوقها في هذا لغة من لغات الدنيا، ولا أراني بحاجة إلى ذكر أسماء الفلاسفة [المسلمين] الذين فتحوا آفاقا جديدة لفهم أسرار الطبيعة والوجود… ولا شك أن الحضارة الإسلامية ارتفعت في القرون الوسطى إلى علوّ لم ينتبه إليه قوم آخرون، ولا يخفى أن هذا الاعتلاء كان ثمرة الاجتهاد في كل نواحي الثقافة وتطبيق الطرق العلمية، أما الغرب الأوروبي فلم يستطع حينئذ فهم الثقافة وتطويرها، وكذلك دولة بيزنطية فقد تجمدت، والآن نرى كيف تعجبت الأقوام الأوروبية من جمال الثقافة العربية التي امتدت من حدود الصين والهند إلى جبال البرانس”.34
توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في طلب العلم والمعرفة
وهذه باقة من توجيهات نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم وحثه على طلب العلم ونشر المعارف والثقافات وأمره بمحو الأمية والخرافات:
فيقول صلوات ربي وسلامه عليه: طلب العلم فريضة على كل مسلم”.35
“… وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر”.36
“إن الله أوحى إلي أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، ومن سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة، وفضل في علم خير من فضل في عبادة، وملاك الدين الورع”.37
“ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع حتى يرجع”.38
“من علم علما فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء”.39
“إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه…”.40
وعن صفوان بن عسال المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر فقلت له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم. فقال: “مرحبا بطالب العلم.. إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب”.41
وعن أبي أمامة قال: ذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير“.42
قال ابن عباس: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة44 .. وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة وإزالة الأمية.45
وأخيرا..
لقد كانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في العلم والمعرفة صورا رائعة وتعاليم رفيعة، يقف أمامها العاقل المتبصر وقفة خشوع وإجلال، لاسيما هذا المظهر العظيم من مظاهر الرحمة من النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو رعاية العلم والمعرفة.. وفي ذلك رحمة للبشر من زعيم كبير ونبي جليل، مما دفع “لبيب رياشي” أن يرفع قبعته تقديرا لهذه التعاليم قائلا: “حقا يا محمد إنك (السوبرمان)46 الأول العالمي، رسول الثقافة والعلم، رسول الهداية والتضحية، رسول الفلسفة الجديدة، رسول الإنسانية الجديدة”.47
“بدّل بالضلال الهدى، وبالجهل العلم، وبالهمجية المدنية”.49
“علمه الله العلم والحكمة، فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء!”.