من ينسى الله تعالى، ويُعرِض عن ذكره، ويتصرف كما لو كان خالقَ نفسِه، ومالك أمره، ومدبر شئونه؛ فإنه سيأتي من الأفعال ما يشذ عن الفطرة، وما يخالف العقل، وما يجعلنا نقف أمامه متسائلين باندهاش: لماذا يتصرف الإنسان على هذا النحو؟! ولما يسلك هذه الطرق المعوجة؟! والإجابة باختصار: إنه نسيان الله!

لقد خُلق الإنسان في هذه الحياة لعبادة الله تعالى؛ عبادةً بالمفهوم الأوسع لتشمل إقامة الشعائر، واجتناب المنهيات، وتزكية النفس، واستقامة الجوارح، وحفظ الحقوق، وعمارة الأرض.. بما يجعله يحقق “الاستخلاف” الذي أنيط به، ويؤدي “الأمانة” التي تحمَّلها من دون سائر المخلوقات..

وهذه العبادة تستلزم، بلا شك، ذكرَ الله تعالى واستحضارَه الدائم في كل ما يأتي المرء ويدع؛ ذكرًا يتجاوز كلمات اللسان إلى حال الجوارح وسلوكها..

وكما أُمرنا بهذا الذكر، فإننا نُهينا عن ضده، أي عن نسيان الله تعالى.. فنسيان الله هو تلخيص جامع دقيق لأزمة الإنسان، ولسبب شقائه وتوهانه!

ولهذا لم يكتف القرآن الكريم بالتنبيه على ذكر الله تعالى؛ وإنما أتبع ذلك، وفي مواضع عديدة، بالتحذير من نسيان الله، وبِلَفتِ النظر لخطورة ذلك وأثره على سعي الإنسان وحركته، فردًا ومجتمعًا.. كما سيأتي بيانه.

والنِّسْيَان، بِكَسْرِ النُّونِ، ضِدُّ الذِّكر والحِفظ: نَسِيَه نِسْيًا ونِسْيانًا ونِسْوةً ونِسَاوَةً ونَسَاوَة. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: لَا يَنْسَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ؛ فَلَمَّا كَانَ النِّسْيان ضَرْبًا مِنَ التَّرْكِ وضعَه مَوْضِعَهُ. وَفِي التَّهْذِيبِ: أَي تَرَكُوا أَمرَ اللَّهِ فَتَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ([1]).

ومادة النسيان: (نسي) النون والسين والياء، تدل على معنين؛ أحدهما: إِغْفَالُ الشَّيْءِ، وَالثَّانِي: تَرْك الشَيْءٍ. فَالْأَوَّلُ نَسِيتُ الشَّيْءَ، إِذَا لَمْ تَذْكُرْهُ، نِسْيَانًا. وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ النِّسْيُ مِنْهُ. وَالنِّسْيُ: مَا سَقَطَ مِنْ مَنَازِلِ الْمُرْتَحِلِينَ، مِنْ رُذَالِ أَمْتِعَتِهِمْ، فَيَقُولُونَ: تَتَبَّعُوا أَنَسَاءَكُمْ([2]).

من دلالات الاستعمال القرآني

واستعمال القرآن الكريم لمادة النسيان استعمال له دلالات عدة جديرة بالنظر والفهم؛ منها:

– أن النسيان ورد مرتبطًا بالحديث عن علاقتين؛ العلاقة مع الله تعالى، والعلاقة مع القرآن: فهما أمران مترابطان، يدل أحدهما على الآخر، ذِكْرًا أو نسيانًا! ومما يدل على العلاقة الأولى قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: 67). وعلى العلاقة الثانية قوله تعالى: {وَلَٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (الفرقان: 18)، أي: “تَرَكُوا الْمَوْعِظَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: تَرَكُوا ذِكْرَكَ وَغَفَلُوا عَنْهُ”([3]).

– نسيان الله من صفات المنافقين والفاسقين: قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 19)؛ أي: “تَرَكُوا أَمْرَهُ (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أن يعلموا لَهَا خَيْرًا، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقِيلَ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ فَأَنْسَاهُمْ حَقَّ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَقِيلَ: نَسُوا اللَّهَ بِتَرْكِ شُكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَذَابِ أَنْ يُذَكِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَسُوا اللَّهَ عِنْدَ الذُّنُوبِ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ التَّوْبَةِ”([4]).

– نسيان الله من علامات حزب الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19)

– من ينسى الله ينساه الله: لأن الجزاء من جنس العمل،{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: 67).

– نسيان الله يترتب عليه نسيان النفس: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19). طبعًا بالمفهوم الذي سبق بيانه، أي نسيان ما على النفس من الطاعات وما ينجيها من المهالك؛ وإلا فإن من ينسى الله سيتمحور حول نفسه؛ أي سيجعلها موضع ذِكْرِه واستمداده!

– النسيان عقوبة أخروية: {قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} (طه: 126)، أي: “كَمَا نَسِيتَ آيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا، فَتَرَكْتَهَا وَأَعْرَضْتَ عَنْهَا؛ فَكَذَلِكَ الْيَوْمَ نَنْسَاكَ، فَنَتْرُكُكَ فِي النَّارِ”([5]).

– الله تعالى مُنزَّه عن النسيان: لأن النيسان من طبيعة الإنسان، ولا يليق به سبحانه أن يَجري عليه ما يجري على الإنسان؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64)، {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه: 52)؛ أي:”لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، وَلَا يَنْسَى شَيْئًا. يَصِفُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى شَيْئًا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ يَعْتَرِيهِ نُقْصَانَانِ أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، وَالْآخَرُ نِسْيَانُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ؛ فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ([6]).

نسيان مَعْفُوّ عنه!

ومن رحمة الله تعالى بعباده، ومن واقعية تشريعه الذي هو تشريع يخاطب الإنسان في جميع حالاته؛ أنْ كان من النسيان نوعٌ معفو عنه، وهو النسيان المرتبط بطبيعة الإنسان من التنبه والتذكر ومن الغفلة والسهو.. بل حتى العَمد، يُعفَى عنه إذا أعقبته التوبة الصادقة والندم الحار! فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: “إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ، والنسيانَ، وما اسْتُكرِهوا عليه” (صحيح الجامع، رقم 1836).

ولهذا فُرِّق بين خطأ آدم بالأكل من الشجرة، وخطأ إبليس بالامتناع عن السجود؛ بأن الأول كان عن نسيان وأعقبته التوبة، والثاني كان عن إصرار وتبعه استكبار ومكابرة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (طه: 115)؛ أي: “ولقد وصينا آدم وأمرناه، وعهدنا إليه عهدًا ليقوم به، فالتزمه، وأذعن له وانقاد، وعزم على القيام به، ومع ذلك نسي ما أُمر به، وانتقضت عزيمته المحكمة، فجرى عليه ما جرى، فصار عبرة لذريته، وصارت طبائعهم مثل طبيعته؛ نسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ فخطئوا، ولم يثبت على العزم المؤكد، وهم كذلك، وبادر بالتوبة من خطيئته، وأقر بها واعترف، فغفرت له، ومن يشابه أباه فما ظلم”([7]).

فالإسلام لا يخاطب الناس باعتبارهم ملائكة لا يخطئون، وإنما يعاملهم بما جُبلوا عليه من القابلية للطاعة والمعصية، ومن جواز النسيان والخطأ عليهم.. المهم أن يتدارك الإنسانُ نفسَه، ويبادر بالندم والتوبة، وألا يأخذه الكبر عن الرجوع للحق..

شقاء البشرية!

ونحن إذا تدبرنا أزمات الإنسان، لاسيما أزمته المعاصرة التي بلغت حدًّا ربما يكون غير مسبوق؛ لوجدنا أن هذه الأزمات ترجع إلى سبب واحد جامع، كما أشرنا، ألا وهو نسيان الله تعالى!

لقد ضلّ الإنسان الطريق، وتنكّب عن مسيرة الحق، ونسي اللهَ والدارَ الآخرة، وتصرّف كما لو كان خالدًا مخلَّدًا في الدنيا أَوْ ليس لأحد سلطان عليه.. فأجاز لعقله ما لا ينبغي له، واتخذ من التشريعات ما يناقض الفطرة، ووضع من الفوارق والحواجز مع غيره من بني الإنسان ما جعل البعض يستعلي بما لديه على المحرومين، وأشاع في الأرض فسادًا واختلالاً بالبيئة والعمران..

فالإنسان لم ينس الله فحسب، وإنما نسي غيرَه من بني الإنسان، بل نسي نفسَه!! ولو تذكّر الإنسان ربه وخالقه؛ لتذكّر حقيقة نفسِه، وعرف ما بها من الضعف والفاقة والافتقار إلى الله تعالى، الذي بيده الخَلْق والأمر.. ولتذكر أخاه الإنسانَ وما ينبغي أن تقوم بينهما من علائق التواد والتراحم والتعاطف!

وهكذا يتبين لنا أن نسيان الله تعالى سبب البلاء في الدنيا والشقاء في الآخرة.. وأن تذكره سبحانه موجِبٌ للفوز في الدارين، ولاعتدال الميزان في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة!


([1]) لسان العرب، ابن منظور، 15/ 322.

([2]) مقاييس اللغة، ابن فارس، 5/ 421، بتصرف يسير.

([3]) معالم التنزيل في تفسير القرآن، تفسير البغوي، 3/ 439.

([4]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، .18/ 43.

([5]) جامع البيان، الطبري، 16/ 202.

([6]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 5/ 298.

([7]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، 514.