ما سبق كان خلافا خارجيا أي بين الإسلام والأديان الأخرى، وأصل هذا الخلاف راجع إلى الاعتقاد ذاته، وهو كفر أصلي، ولا مجال للموافقة أبدا بين الأديان في هذا، ولا فائدة من الحديث عن الأمور التي تترتب على هذا الأصل بعد أن لم يُتفق عليه: أي لا معنى للحديث والحوار مع الأديان الأخرى عن الصوم والزكاة والمرأة في الإسلام بعد هذا الاختلاف الأصلي بينهم وبين الإسلام في المعتقدات. لكن ثمة نوع آخر من الاختلاف، وهو الاختلاف الداخلي؛ أي بين الذين يدينون بأصول الإسلام، ويمكن حصر نقاط الاختلاف داخل الإسلام في الآتي:
1 – حقيقة الإيمان: هناك خلاف داخلي يتعلق بحقيقة الإيمان ومفهومه، وهل التصديق القلبي الجازم أصل الإيمان ويكون الإنسان ناجيا بذلك، وأنه لا يخلد في النار إذا كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أم إن العمل شرط نجاة؟
انحصر الاختلاف الداخلي في ذلك بين المرجئة، والمعتزلة، والخوارج، وأهل السنة. يرى المرجئة أن الإيمان كاف، والعمل زيادة خير، ويذهب المعتزلة –وقد أحارتهم المسألة- إلى أن المؤمن المقصر في الأعمال في منزلة بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا هو كافر، ورأوا وجوب تعذيب مرتكب الذنب لأنه مطالب بالعمل، ويرى الخوارج كفر مرتكب الكبيرة، والإيمان غير كاف لشرط النجاة، بينما يقرر أهل السنة أن الإيمان تصديق ونطق وعمل، ويفوض أمر العاصي الذي لم يتب إلى الله.
لكن السؤال ماذا يترتب على هذا في الدنيا؟ نجد الجواب في مواقف أهل السنة من التكفير.
2 – الأسماء والصفات: يؤمن كل مسلم بوجود الله وبالتوحيد الخالص له، وبوجوب إثبات كل صفة كمال لله وتنزيهه عن كل صفة نقص، وعن مشايهته بالحوادث والمخلوقات. في سبيل تقرير تفاصيل هذا في ظل بعض الآيات التي تدخل في نطاق “المتشابه” تولد اختلاف في صفوف المسلمين فيما يتعلق بصفات الله، من حيث حقيقة الصفة وعلاقتها بالأسماء، وتوسع هذا الخلاف خاصة فيما يعرف بالصفات الخبرية (سواء الثبوتية أو السلبية). يجد المدقق أن الاختلاف الداخلي في هذا يكمن بين المعتزلة، والمجسمة، وأهل السنة، أهل الحديث منهم والمتكلمون.
يرى المعتزلة في أصلها الأول أن التوحيد يقتضي عدم التفريق بين الذات والصفة، وعليه فإن الصفات ليست أمورا مستقلة عن الجوهر، وهي ليست جواهر ولا أعراض، فالله عالم بدون صفة علم، وسميع بدون صفة السمع، لأنهم رأوا أن إثبات الصفة (السمع البصر) جوهرا قلنا أم عرضا يؤدي إلى تعدد القِدم والأزلية. وعلى خلاف ذلك أثبت المجسمة كل الصفات وأنها يجب أن تفهم لغةً مثلما يفهم عند الإنسان. بينما يذهب أهل السنة إلى إثبات هذه الصفات، وفي سبيل هذا الإثبات يذهب أهل الحديث أو أهل الأثر إلى إثباتها مع تفويض الكيفية، في حين يرى المتكلمون وأهل الرأي التأويل المناسب لأسلوب العرب في الخطاب تفاديا للتجسيم أو وصف الله بالنقص ومشابهة الحوادث.
3 – رؤية الله: لعل الأسماء والصفات ليست المسألة الوحيدة التي تلحق بتفاصيل الركن الأول في الإسلام (الشهادتان)، بل ترتب على ذلك مسألة قريبة بالركن الخامس (اليوم الآخر) وهي مسألة رؤية الله، فأهل السنة يرون أن غاية النعيم النظر إلى وجهه الكريم بينما نفى المعتزلة ذلك لإفضائه إلى التحيز والتجسيم.
4 – المنهج العام: مسائل أصول الدين متفرقة في آي الذكر الحكيم والسنة النبوية المطهرة، ولم يرد في الوحي منهجٌ معين في التبويب والتصنيف لمسائل العقيدة وقضاياها. يجد المتتبع لمؤلفات العقيدة في التراث الإسلامي أن علماء المسلمين سلكوا مناهج متباينة ومتعارضة في التصنيف من حيث المنهج أولا، والتبويب ثانيا والمضمون ثالثا، بل وسبب التأليف رابعا. لكن المتفق عليه هو أن كل هذه المنهجيات قامت بمنهج استقرائي ومن منظور معين. وقد قسم علماء تاريخ التشريع وعلوم القرآن المدارس قديما إلى مدرسة الأثر ومدرسة الرأي بناء على مواقف الصحابة والتابعين في الاجتهاد فيما لا نص فيه.
ويدخل في هذا المنهج الأمثل في التصنيف لدى تدريس العقيدة (نبوّب على أساس حديث جبريل ونشرح المسائل، أم نبوّب بناء على استقراء آخر: قضايا متعلقة بالله (الركن الأول)، وبالنبوة (الرسل والكتب) وبالغيب (القدر، والملائكة، والآخرة)، ومثله كيف نقسم التوحيد، وكيف نقسم الصفات؟ حتى إنه أُطلقت أسماء على هذا الفن تغليبا لجانب على جانب أو مسألة على أخرى (التوحيد، السنة، أصول الدين، الاعتقاد، العقيدة، الإيمان وغيرها..)
ويدخل في المنهج العام أيضا علاقة العقل بالنقل، ومعايير الاستدلال على العقيدة: الخبر الواحد حجة أم لا؟! وهل يحق لمسلم طرح تساؤلات في أصول الإيمان والقدر وحرية الإنسان وغيرها من قضايا؟ ومن هنا كان المنهج العام سببا من أسباب الاختلاف الداخلي، وجامعات الدول العربية والإسلامية التي تدرس هذه التخصصات ما زالت تعيش هذه الأزمة، ونداءات التجديد تدعو إلى تجاوز المنهج القديم وإعادة بناء منهج إسلامي جديد يراعي الإشكاليات القائمة من تفريق الأمة بسبب المنهجية أو إيجاد حل واستيعاب الآخر –القريب، لا البعيد- على أقل تقدير.
5 – الخلافة والسياسة: يذكر علماؤنا في الملل والنحل أن أول خلاف ظهر بين المسلمين هو في مسألة سياسية عمن يخلف رسول الله ﷺ في إدارة شؤون المسلمين، ولا شك أنه لا قرآن ولا حديث صريح في هذا! فأعمل الصحابة عقولهم في النصوص وفي السيرة فظهر في الإسلام: أهل السنة، والشيعة، ثم الخوارج من بعد: إن الحكم إلا لله.
يقف المتتبع إلى أن الأمر تطور بعد، وولّد مسائل فرعية مثل آل البيت وإمامة الفاضل والمفضول والعصمة ومنزلة الأئمة والتقية، والعدل فركز كل طائفة على هذه المسألة وغلبها على أصول الدين وباقي قضايا الإسلام، وغالى في الأمر، وكأنه لا إسلام إلا في مسألة الخلافة والانتقام لقتلى كل فرقة في التاريخ الإسلامي. ولعل هذا هو الخلاف الوحيد الذي امتدت جذوره إلى يومنا هذا، وما زال يترتب عليه ما تعلمون، على أننا لا ننسى ما أضفي على هذه المسألة من قضايا تاريخية عرقية سياسية وغيرها.
6 – أفعال العباد: في فترة من حياة الصحابة ظهر ناس يتكلمون في القدر وما حقيقته؟ بمعنى نحن نؤمن بالقدر وفق القرآن والسنة، لكن ما العلاقة بين القدر واتخاذ الأسباب، وهل جميع أعمال الإنسان داخلة في القدر أو بعضها، هل للإنسان حرية اختيار، وماذا يعني القدر إذن، وما علاقة الله بالكون بعد الخلق، ثم كيف يمكن تعليل مبدأ المحاسبة والمجازاة إن كان الله خالق الخير والشر؟ عرفت هذه القضايا بأفعال العباد! وأثمرت لنا القدرية، والمعتزلة، وأهل السنة.
فالقدرية غلّبوا دور الله ونفوا دور الإنسان (لا قدر والأمر أُنف) والإنسان كالريشة في الهواء، وخرج المعتزلة بأصل من أصولهم “العدل” فغلبوا دور الإنسان وقالوا الإنسان يصنع أعماله لتصح محاسبته ولا دور لله في ذلك. وربط هذا الأصل بالتحسين والتقبيح العقليين، والصلاح والأصلح. بينهما أثبت أهل السنة دور الله في الخلق الأولي، ودور الإنسان في الاختيار، وزاد الأشاعرة “نظرية الكسب”.
7 – مراتب العبادة وحب النبي: لعله ينفع هنا ذكر مسمى الخلاف بين الصوفية والسلفية، ولعل ذلك راجع إلى منهجية عبادة الله: اتخاذ شيخ والتربية على يديه، وأن الدين مراتب أعلاها مرتبة الإحسان، وأن لله رجالاً صالحين، كما أن الاهتمام بحب النبي عليه السلام والاحتفال بمولده والتقرب إلى الله في الدعاء عبر الوسيلة من أهم الاختلاف الداخلي الذي يذكر بين مسمى السلفية والصوفية، وكلاهما يعوّل على اتباع السنة ومحبة النبي هليه الصلاة والسلام.
لو فكرنا في تحرير محل خلاف الفِرق لتبيّن أنــ:
أ – هذه الفرق تؤمن وتقر صراحة بأصول العقيدة في الإسلام (أركان الإيمان) بخلاف الأديان الأخرى.
ب – أن دين هذه الفرق هو الإسلام، فلا ينبغي أن تصنف ابتداء كفرقة من الفرق الإسلامية ضمن الأديان الأخرى الخارجة عن الإسلام.
ت – أن الفَرق بين هذه الفِرق ليس كالفرق بين الإسلام وغيره، لأن نطاق الخلاف يختلف.
ث – موقف علماء الأمة لُبّ هذا الاختلاف لعامل الاجتهاد، لا نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة يحسم هذا الخلاف.
ج – أساس بعض هذا الاختلاف الداخلي راجع إلى فهم أصل من أصول الدين.
ح – ومنبع بعض هذا الاختلاف الداخلي راجع إلى قضية جديدة طرأت بعد وفاة النبي عليه السلام، ولا نص في الأمر، فاجتهد العلماء.
خ – يلاحظ أن الخلاف بين الفِرق ليس خلافا مطلقا، إنما خلاف كل فرقة مقابل ما اختلفت معها تكمن في مسألة أو مسألتين فقط، على أنه ليس شرطا مخالفة