شكّل الأمر الإلهي بالقراءة فاتحة عهد جديد، يُصبح فيه الكتاب منطلق تغيير، ويكتسب فعل القراءة بموجبه سمة التعدد، لتصبح قراءات تثري المنظومة الاجتماعية والسياسية والحضارية بصفة عامة. وحين ألغى الإسلام وساطة الكهنة والمصالح بين الرب وعباده، فإنه أزاح ستارا كثيفا من الغموض والسرية التي أرهقت الإنسانية، وأطلق عنان المسلم ليجوب بعقله التواق أرجاء الكتاب المسطور والكون المنظور.
لفعل القراءة إذن سمة الثورية التي تهز العقل الراكد، وترفع عن البصر غشاوة السجود لحجارة منحوتة. لذا نصت جملة من الأحاديث النبوية على فضائل “القراءة” وآدابها، سواء ما تعلق بالكتاب الأول، أو بما سينتج عنه لاحقا من كتب ومكتبات غيّرت مسار أمة بأكملها. وحول هذه القيمة المعنوية تفاوتت الهمم في الولاء للكتب والتعلق بها، وشهد التاريخ نماذج حية أفردت للقراءة حيزا واسعا من وجودها، وعبّرت عن ذاك الشغف بكل ما وسعها من قول وفعل، وموقف جدير بالتبني أو الرفض!
لعلاقة المسلم بالكتاب صور ومداخل شتى، جرى تناولها بشكل متفرق في كتب ودراسات عديدة؛ رغم وجود خيط ناظم يكشف عن شغف المسلمين بالكلمة المكتوبة، منذ أن أثمرت الفتوحات عن اتصال إيجابي بالثقافات القديمة. وتولد عن تلك العلاقة سلوكيات وممارسات، تراوحت بين الولع بالكتب، وإرساء ميثاق أخلاقي لتداولها بين الأفراد ضمن ما اصطلح عليه ب”آداب الإعارة”، ثم إدماج هذا الشغف في بنية الوقف الإسلامي خدمة للمعرفة، وإسهاما في المسيرة الحضارية للأمة.
لا تتسع هذه الأسطر لكل حكايات الولع بالكتب، فقلما خلت ترجمة فقيه أو أديب أو عالِم مسلم من تجليات السعي خلف مخطوطة أو مصنف، وألوان المشاق التي هانت في سبيل ذلك. غير أن ما يستوقفنا هنا هي أشكال التعبير عن ذاك الولع، والحرص على الكتب إلى حد البخل بها أو إتلافها.
ذاع اسم الجاحظ كأيقونة عربية في عالم الكتب لأن ولعه لم يكن ترفا معرفيا أو اجتماعيا. فعلاقته بالكتاب حالت حتى دون مواجهته لأعباء الحياة رغم فقره. وأكسبته ميلا للتحرر من تقاليد المجتمع، ليشق سبيله للمعرفة بعيدا عن الأطر الجاهزة. حكى عنه أبو هفان الشاعر قائلا: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.
ولما صار اقتناء الكتب الفاخرة عنوانا للرفاهية، حرص الجاحظ على أن توجهه بصيرة القارئ الفذ ليسعى خلف النفيس من العلوم والآداب والحكمة. فإذا عُرضت عليه حتى الأوراق المقطعة التي لا يرى غيره فيها فائدة، فإنه كان يطيل فيها النظر، ويؤدي لها مقابلا. ولما سخر منه أصحابه يوما، قال: أنتم حمقى والله، إن فيها مالا يوجد إلا فيها، ولكنكم جهال لا تعرفون النفيس من الخسيس!
حتى موته كان تعبيرا عن الولع بالكتب، فمن عادته أنه يضع المجلدات كالحائط من حوله ثم يجلس ليقرأ. ولما أصيب بالفالج وعجز عن الحركة وقع عليه مجلد فمات.
ولطالما كانت علاقة السلطة بالكتاب مقتصرة في الغالب على إنشاء المكتبات، ورعاية العلماء وتشجيع الحركة الثقافية، إلا أن سيرة الخليفة الحَكَم المستنصر بالأندلس تضعنا أمام حالة فريدة من عشق الكتب، والانصراف إلى العلم رغم ما تقتضيه الخلافة من أعباء.
شارك الحكم في علوم عصره قارئا وعالما ومثقفا. فأتقن العلوم الإسلامية حتى أن بعض الشيوخ سمعوا منه الحديث النبوي. وأنشأ بناء خاصا للكتب يعده المؤرخون أعظم مكتبة إسلامية في العصور الوسطى، إذ جمع فيها ما يقرب من نصف مليون مجلد. وكان له مراسلون يطلعونه على جديد الكتب فيبعث بالمال الوفير لشراء النسخة الأولى ليكون أول من قرأها. ومن أمثلة ذلك أنه أرسل ألف دينار لأبي الفرج الأصفهاني كي يرسل له النسخة الأولى من كتابه “الأغاني ” ففعل.
إلى هنا يشترك الحَكم مع خلفاء آخرين في لقب الحاكم المتنور، الذي يعلي من شأن الثقافة كدعامة للنهضة في بلده، ويكتفي بالتشجيع وتوفير البنى والاعتمادات اللازمة. إلا أن الرجل كان بالفعل مولعا، بحيث صرف وقته لقراءة الكتب والتعليق على حواشيها، والاستدراك على مؤلفيها. يقول الدكتور حسين مؤنس في كتابه ( معالم تاريخ المغرب والأندلس) :” وقد عثرنا بالفعل على كتب عليها خط الحَكم وملاحظاته، وكان العلماء بعده يعتبرون هذه الملاحظات أصولا تعتمد. ولم يقتصر على علوم العرب بل عنى بكل العلوم، وتحت إشرافه ترجم قاسم بن أصبغ البياني وحفص بن ألبر كتاب التاريخ لهيروشيوش من اللاتينية، وترجموا له كتاب ديسقورديوس في الطب من اليونانية. وكان يرسل الناس إلى شتى البلاد ويطلب إليهم أن يكتبوا دراسات عما زاروه من الأقطار ويحتفظ بهذه الدراسات في مكتبه.” وبسبب هذا الولع تعرض للنقد لأنه أتاح لضعاف النفوس أن يعبثوا بأمور الحكم، وللأعداء أن يدشنوا سلسلة من الغارات على أطراف الدولة.
أصبحت سوق الكتاب رائجة في المجتمع الإسلامي، وأدى التسابق لاقتناء النادر منها إلى بروز صيادي المخطوطات والمسودات النفيسة. وطُرحت إشكالية التوفيق بين كراهية كتمان العلم وحبس الكتب من جهة، والحذر الواجب من ضياعها أو تسلط غير السفهاء عليها من جهة أخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض النماذج التي ترد ضمن الولع بالكتب لا تنتمي بالضرورة إلى مصاف القراء، إذ كان شراء الكتب والسعي للحصول عليها في بعض الأحيان تقوية للمركز الاجتماعي، وتأكيد الانتساب إلى النخبة المثقفة لا غير!
كان بذل الكتب وإعارتها سُنة محمودة بين طلبة العلم، وسَرت بين الناس مواعظ ونصائح تحذر من حبس الكتب. ومما يروى عن الزهري أنه قال: إياكم وغلول الحديث، قيل: وما غلول الحديث؟ قال: حبس الكتب.
وكتب الإمام الشافعي رحمه الله لمحمد بن الحسن رضي الله عنهما يقول: العلم ينهى أهلَه أن يمنعوه أهلَه. وينبغي للمستعير أن يشكر للمعير ذلك ويجزيه خيرا ولو بالدعاء.
إلا أن القيمة المعنوية، والمادية أحيانا، لبعض الكتب والمسودات التي دُونت بخط المؤلف، جعلتها عرضة للضياع وعدم الالتزام بردها لأصحابها. فأفرز النقاش الدائر بين طلبة العلم ومحبي الكتب وأرباب المكتبات الخاصة ثلاث وجهات نظر، كان لها الفضل في نشأة وإغناء ما اصطلح عليه ب”آداب الإعارة”:
فريق أول آثر إعارة الكتب وعدم رد أي طالب يطلبها حتى وإن كانت نفيسة، قربة لله تعالى، وحرصا على نشر العلم. ويؤيد هؤلاء توجيه لسفيان الثوري رحمه الله مفاده: من بخل بعلمه ابتلي بثلاث: إما أن ينساه ولا يحفظه، وإما أن يموت ولا ينتفع به، وإما أن تذهب كتبه.
وفريق ثان قَيّد الإعارة بشروط، حرصا على استرجاع الكتب؛ كإعطاء ضمان أو رهن، أو التعهد برد الكتاب، أو الحصول فقط على نسخة عوض المخطوطة الأصلية.
أما الفريق الثالث ففضل عدم الإعارة مطلقا، إما بخلا بالكتب ومحبة لها، أو لأن الراغبين فيها ليسوا من طلبة العلم ولا يُؤمن جانبهم. واشتهر من هذا الصنف رجل يقال له: إبراهيم بن الفرس، وكان بحوزته مصنفات وكتب نادرة لابن حجر العسقلاني، ولم يكن يسمح بإعارتها حتى ورد عنه قوله: إذا عاينتُ الموت ألقيتها في البحر.
بالمقابل لجأ بعضهم إلى الحيلة لاقتناء الكتب بثمن بخس وعدم رد المستعار منها. فكان الإمام النحوي ابن الخشاب إذا استعار كتابا ثم طولب به يقول: دخل بين الكتب فلا أقدر عليه. وإذا حضر سوق الكتب وصادف كتابا ثمينا، غافَلَ صاحبه وقطع منه ورقة ليأخذه بثمن بخس. فجمع بذلك عددا لا يوصف من الكتب أوقفها على أهل العلم قبيل وفاته.
على هامش الجدل حول الإعارة نَمت ألوان من التعبير الأدبي التي يحث قسط منها على إعارة الكتب محبة للعلم، ويُحذر القسط الآخر من ذلك محبة أيضا للعلم. وبين هذه وتلك يستشف المرء تعلقا فريدا بالكلمة المكتوبة، وسعيا للارتواء بكل ألوان المعرفة الإنسانية. وهو الأمر الذي لفت انتباه ويل ديورانت في مؤلفه الشهير (قصة الحضارة) حين قال: ” ولم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد العالم، اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج، ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر.”
و حرصا على فريضة نشر العلم وتقاسم المعرفة ولو بعد مفارقة الحياة، تفتقت الأذهان عن فكرة الوقف التي تعد بحق معلما حضاريا، وثمرة للرقي الفكري والحس الإنساني الذي تمتعت به أمة الكتب والمكتبات.
يُحصي المؤرخون والمهتمون بالوقف الإسلامي عشرات المكتبات ودور العلم، وآلاف المجلدات والمخطوطات التي أسهمت في توفير المعرفة للطلاب. فكان المرء يجمع ويبحث ويكون مكتبة، ويدفع أموالا طائلة لقاء كتب نفيسة، ثم يوقف حصيلة شغفه برمتها لتكون نافذة ثقافية للجميع. فأنشئت مكتبات في الجوامع والمستشفيات والزوايا، وتنافس ذوو السلطة والجاه في تخليد ذكراهم بإحداث المكتبات الوقفية في كل أرجاء البلاد، ووقف الكتب على مدارس ومساجد مع توفير دخل مادي ثابت للتكفل بمصاريفها. وبلغت من الضخامة والانتشار حد انصراف الناس عن شراء الكتب، حتى أنا أبا حيان النحوي كان إذا رأى من يشتري كتابا يقول له: ” الله يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزانة الأوقاف.”
ولعل أسوأ ما لقيته مبادرة الوقف هو تعرض نفائسها للبيع والسرقة والإهمال، خاصة في أزمنة الركود الثقافي، مما جعل مكتبات ومتاحف الغرب شاهدا على المجد الذي أضعناه!
إن وسائل الجذب التي تعرضها المؤسسات الثقافية في أرجاء العالم الإسلامي لتشجيع القراءة واقتناء الكتب، إضافة إلى المسابقات والمبادرات الرسمية والتطوعية، هي في النهاية جهد محمود لاستعادة الإنسان الفاعل والمنفعل مع قضايا أمته والعالم بأسره. إلا أن رفع الكتب إلى مقام الأولوية والشرط الحيوي هو الحجر الأنسب الذي سُيحدث دوائر في البركة الراكدة، ولن يتحقق الأمر إلا إذا كان لمحبي القراءة وعشاق الكتب حضور فاعل يستضيء بتجارب السلف، فما نبتَ مما لا أصل له.. لن يُعمّر!