في السادس من أبريل 2021 يرحل عالم الأديان السويسري الشهير الدكتور “هانز كونج” عن ثلاث وتسعين عاما، وهو من أشهر اللاهوتيين الذين وجهوا انتقادات حادة للكنيسة الكاثوليكية، مطالبا إياها بإدخال إصلاحات جوهرية، فيما يتعلق بعصمة “بابا الفاتيكان”، كذلك نادى بالسلام بين الأديان باعتباره مدخلا للسلام العالمي، كما أنه من المستشرقين الكبار الذين أظهروا احتراما عظيما للإسلام، وتجاه النبي-ﷺ-، مبديا تعجبه من المؤسسات الدينية المسيحية التي تظهر الاحترام لشخص المسلم العادي، في حين أنها تنكر الاعتراف بالقرآن الكريم، أو برسول الإسلام، فيقول: “إن إحدى مفارقات الفاتيكان أن يقرر النظر للمسلم العادي بكل احترام، وفي الوقت نفسه يتجنب الإشارة للقرآن أو محمد”، ولعل هذا الاحترام كان وراء ترويج البعض لإسلامه(1).
حياة حافلة
ولد هانز كونج في مارس 1928 في سويسرا، وظهرت مبكرا ميوله نحو الدين، وفي الحادية عشرة من عمره قرر أن يكون كاهنا، كانت حياته تحوي الكثير من الأشياء ذات الأهمية، فمنذ صغره اعتاد الحوار والتفكير والتأمل، فخاص حوار مع الملحدين، إذ كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فترة تحول، وقلق فكري كبير، إذ بات الايمان المطلق بالعلم محل شكوك، ولم تعد في قدرة العلم تقديم إجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى حول الخالق، سبحانه وتعالى، وعن غاية الخلق، ومصيرهم، ثم تعمقت أزمة الإيمان المطلق بالعلم مع “مبدأ الريبة” أو الشك الذي تحدث عنه عالم الفيزياء الألماني “هاينزبرج”، والذي رفض فكرة إطلاقية العلم.
وأمام تلك الأزمات، أخذت الرؤى الدينية تتنفس، بعد عقود طويلة من الكبت والإلغاء، منذ القرن الثامن عشر الميلادي، عقب الثورة الفرنسية، وفي ذلك المناخ المتسامح مع الدين، تفتح إدراك “كونج” واعتاد في تلك السنوات الأولى من حياته على منح نفسه وقتا للتأمل، فتدرب طيلة سبع سنين على أن يمنح نفسه كل صباح قبل الفطور نصف ساعة، يتفرغ فيها للتأمل، ويبدو أن ذلك الوقت كان له تأثيره الكبير على مساره الفكري خلال عمره المديد، إذ منحه الاستقلال في رأيه، والرغبة للوصول إلى الحقيقة، والنفاذ السريع إلى لب القضايا، والقدرة على التعبير عن أفكاره بوضوح، وامتد تأمله إلى التفكير في الإنجيل، والاحتفالات الدينية، وكثير من الثوابت الكنسية.
وفي أكتوبر 1954 أصبح هانز كونج كاهنا، وفي الفترة من 1955 و1957 درس في السوربون، ثم أنهي رسالته للدكتوراه عام 1960، وقام بتدريس اللاهوت في جامعة “توبنغين” الألمانية، ومنذ تلك الفترة أخذ يفكر في إصلاح الكنيسة، وكان من أهم المباديء التي نادى بها، الغاء العزوف عن الزواج للرهبان، في مذكراته “معركتي من أجل الحرية” يشير أنه أمضى حياته في مصارعة الاتجاهات المحافظة داخل الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان، إذ كانت معايشته للحقبة النازية، أثرها في معاداته للديكتاتورية، أيا كان شكلها، وبعد مجمع الفاتيكان الثاني(2)، عمل “كونغ” عميدا لكلية اللاهوت بجامعة توبنغن، وعايش ثورة الشباب التي انطلقت من فرنسا عام 1968، التي وصفها بأنها كانت فاصلة في حياته.
معركة العصمة
كان هانز كونج ينتقد الكنيسة بلا رحمة، وينتقد عصمة البابا، و يرى ضرورة قيام الكنيسة بإصلاحات جذرية، وكان مدخله لتلك الاصلاحات الجذرية هو مراجعة مسألة عصمة البابا، فتحطيم تلك الفكرة سيفتح الأبواب أمام طرح الرؤى الإصلاحية ويقول:”إنه لا يشبه البابا في حكمه، إلا سلاطين العالم من العصور الوسطى، فهم يحكمون حتى الموت دون استقالة وإقالة” وكان يبدي قلقا واضحا من الاستبداد الديني، ويعتبر الاستبداد السياسي تلميذا متواضعا، أمام الاستبداد الديني، وينتقد تحول المؤسسة الدينية المسيحية إلى كهنوتية محاطة بالأسرار، وينتقد تحويلها للناسوت إلى لاهوت(3)، ويعتبره اختراعا كنسيا.
وقد أصدر “كونج” كتابا عن عصمة البابا، معتبرا البابوية وظيفة بشرية، وليست لاهوتية، ، وقال:” إن الفاتيكان أهمل لقرون مهمته الروحية أثناء سعيه إلى تكديس السلطة والثروة ، مع حكم البابا كملك مطلق، أليس التشابه بين النظامين الشيوعي والكاثوليكي ملفت للنظر، أليس كلاهما مطلق، مركزي، شمولي، باختصار، أعداء لحرية الإنسان؟”، فسحبت الكنيسة عام 1979 أهليته لتدريس اللاهوت الكاثوليكي، لكن مواقفه ساهمت في تغيير الرؤى الكنسية في بعض المسائل، ومنذ تلك الفترة أخذ صدامه مع الكنيسة يعرف طريقه للعلن، فذكر تسع خطايا للكنيسة، منها: النظرة العنصرية ضد المرأة، والفضائح الأخلاقية، والرهبنة التي قلصت أعداد الرهبان الغربيين، وفتحت المجال للأفارقة والآسيويين ليحتلوا المراتب الكنيسة المهمة، ومصادرة الحوار خلف جدران الكنيسة، وبذلك تكرست الأخطاء.
كانت أفكاره ثورية لدرجة أن الكثيرين اعتبروها بمثابة دعوة لإصلاح ثان داخل الكنيسة، وقال البعض:” الدكتور كونج هو أخطر تهديد للكنيسة الكاثوليكية منذ مارتن لوثر “.
الأخلاق العالمية
انفتح “كونج” على كثير من الأديان وفي مقدمتها الإسلام واليهودية والبوذية، وكان يردد: “لا سلام في العالم من دون السلام بين الأديان”، لذا اقترح تشكيل “برلمان أديان العالم” كخطوة لتحقيق الحوار الفعال بين الأديان، وهو ما منحه شهرة عالمية واسعة، وتحدث عن فكرة الأخلاق العالمية، إذ أن هناك قواسم أخلاقية مشتركة بين البشر لابد أن يجتمعوا عليها، يقول: “لا استمرارية إنسانية بدون أخلاق كونية، ولا سلام عالمي من دون سلامٍ ديني، ولا سلام ديني من دون الحوار بين الأديان “.
طرح “كونج” رؤيته ومشروع للسلام بين الأديان والأخلاق العالمية، عام 1991 في المؤتمر العالمي للأديان في شيكاغو، محاولا تفعيل منهج الحوار لإيجاد صيغ جامعة تقلص الهوّة بين الديانات والإيديولوجيات المختلفة، وتضع أرضية مشتركة لقيم أخلاقية إنسانية جامعة تسهم في نبذ العنف، وإرساء التعايش السلمي بين الأديان، وصاغ بنفسه مسودة ذلك المؤتمر، وقد أصدر كتابا مهما في هذا الشأن بعنوان ” لماذا مقاييس عالمية للأخلاق”، وكتاب آخر بعنوان ” مشروع أخلاقي عالمي، دور الديانات في السلام العالمي”.
يؤكد “كونج” أن الغرب يعاني من فراغ في المعنى والقيم والقواعد الأخلاقية، وأن المشكلة تتعدى الأفراد إلى كونها مشكلة سياسية على أعلى مستوى، منتقدا مكتسبات الحداثة الغربية، فالغرب اهتم بالعِلم وأهمل الحكمة التي تمنع تجاوزات البحث العلمي، واهتم بالتكنولوجيا وأهمل الطاقة الروحية التي تسمح بمراقبة الأخطار الناجمة عن التكنولوجيا المتطورة، واهتم بالصناعة وأهمل علم البيئة الذي يتصدى للتوسع الاقتصادي على حساب البيئة، واهتم بالديموقراطية، وأهمل الأخلاق التي تتصدى لمصالح القوى الكثيفة للأفراد والفئات الحاكمة، ومن ثم فمستقبل الانسانية الأفضل مرتبط بالخضوع للأخلاق، حتى لا يتحول الإنسان إلى وسيلة، فالإنسان هو الهدف النهائي، فهو الغاية والمقياس، وكان يرى أن مشاريع الأخلاق العالمية يجب أن تكون في شكل منظومة متكاملة تجمع العدالة والحرية والمساواة والتعايش والتعددية والسلام والحرية، وبعد تقاعده من منصبه كأستاذ في عام 1995 ، أنشأ مؤسسة الأخلاق العالمية، ومن كتبه التي حازت على شهرة كبيرة، “أن تكون مسيحيا” On Being a Christian الذي بيعت منه مئات الالاف من النسخ، وكتابه “هل الله موجود؟ .” Does God Exist? .
كان “كونج” قريبا من الإسلام، لفترات طويلة، وكان يؤكد أن القرآن نص موحي من السماء، وأبدى تعاطفا كبيرا مع الإسلام، لكنه لم يسلم، وكان يقول:” لم يراودني التحول إلى الإسلام… يمكنني الحديث عمّا يروق لي في كل دين بأريحية تامة… أجد تعاطفاً مع المسلمين كأناس؛ إذ ينبغي أن يدرك أتباع الأديان المختلفة أني على دراية بعقائدهم، وأني أكنّ لهم احتراماً”، وكان يصرح علنا بأن ” نبيّ الإسلام نبيّ حقّ”، وأصدر كتابا مهما عن الإسلام بعنوان ” الإسلام، الماضي والحاضر والمستقبل ” نشر عام 2004 باللغة الألمانية، وترجم للانجليزية ويقع في أكثر من سبعمائة صفحة .
1- بعد وفاته “هانز كونج” كرمه اللاهوتيين الألمان، وقال المطران جورج باتسينغ، رئيس مؤتمر الأساقفة الألمان: “كان هانز كونج مهتمًا بجعل رسالة الإنجيل مفهومة وإعطائها مكانًا في حياة المؤمنين”.
2- مجمع الفاتيكان الثاني: هو مجمع كنسي كاثوليكي، انعقد بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرون بين عامي 1962 و1965، وصدر عنه مجموعة من الاصلاحات الكنسية، منها: التخلي عن استعمال اللاتينية في الصلاة وإبدالها باللغات المحلية.
3- النَّاسُوتُ: الطبيعة البشرية، ويقابله: اللاهوت بمعنى الألوهية