نتناول في هذه المقالة واجب الوعي ومجالاته لدى الباحث المسلم، والوعي المقصود هنا الوعي بطبيعة السير في الطريق العلمي البحثي الذي رضي به كمهمة يضطلع بها في بناء هذه الأمة، كما نوضح ضرورات هذا الوعي وانعكاساته على السير المعرفي والعلمي على اعتبار أن المهمة التي يقوم بها الباحث هي مهمة حضارية استجابة لتحدي حضاري في مجال تحقيق الشهود العلمي والوسطية المعرفية للأمة. وننشغل هنا تحديدًا بأربعة مجالات لازمة للوعي هي: ما يتعلق بالمنهاجية، وما يتعلق بالرؤية الكلية، وما يتعلق بالمصادر، وما يتعلق بالمقولات الزائفة.

(1)

الوعي المنهاجي

ينبغي على الباحث أن يتمكن – في مجال تأهله العلمي- من الوعي اللازم بطبيعة المنهج والمنهجيات المحيطة بسيره العلمي، أي بالأدوات والوسائل والأطر والمفاهيم والمرجعيات الكائنة في مجال المنهجيات القائمة، بما يُمَكِّنه من الإدراك الراشد للأنساق المعرفية المتقابلة والمتعددة المهيمنة على التفكير العلمي، ويهدف هذا الوعي المنهاجي أولًا: إلى تحقيق الوضوح في السير للطريق الذي يسير فيه الباحث، فالمنهجية هي نبراس ومصابيح الباحث، ودونها يكون الطريق مظلمًا ربما لا يصل فيه السائر إلى شيء، بل ربما لا يتحرك فيه نحو الإنجاز العلمي الحق، حتى وإن كتب مئات الأوراق أو سطر عشرات البحوث. وثانيًا: للوقوف عما يصيب هذه المنهجيات من عوار معرفي وعلمي وربما تقني وفني أيضًا.

أما الجانب الثاني في المنهجية فهو السعي إلى التعرف على حقيقة المنهجية. فالمنهجية: لغة، المنهج أو المنهاج هو الطريق الواضح، وفي القرآن {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، قال صاحب المفردات النهج الطريق الواضح، ونهج الأمر وأنهج: وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه.[1] واصطلاحًا المنهاجية هي”علم بيان الطريق والوقوف على الخطوات..أو الوسائط والوسائل التي يتحقق بها الوصول إلى الغاية،على أفضل وأكمل ما تقتضيه الأصول والأحوال..والمنهجية مصدرًا لابتغاء الرشد..من خلال تحديد المراحل والتمييز بين المستويات والتحقق من علامات الاستدلال عند المفارق وإدراك مراجع الاتصال بحيث يُمَكِن السالك من التزام جادة المسار وتعرف مناكب الاستدلال، فالمتابعة واللحاق”.[2]

فالوعي المنهاجي هنا يقتضي من الباحث الوعي بمتطلبات المسير: المناهج، الأدوات، والوسائط، والمفاهيم والأطر المرجعية والرؤية والنماذج المعرفية، وذلك حتى يتمكن من إتمام سيره البحثي، لأن افتقاد الباحث الوعي بهذه المتطلبات المنهجية التي يستخدمها ربما يعرضه إلى كثير من المزالق المنهجية في طريق السير.

أما الجانب الثالث في هذا الوعي المنهاجي فيعني إدراك فجوة التباين بين النسق التوحيدي الإسلامي وبين الأنساق الوضعية التي فرضت على الباحث في الدراسات العليا في جامعات العالم الإسلامي في ضوء ممارسة القسر العلمي والقهر المعرفي.

إن الوعي المنهاجي يلقي على الباحث عبء مسؤولية الإنتاج العلمي والبحثي الذي يقوم به في مجال المنهجية الإسلامية وما يتعلق بها من: إعادة بناء المفاهيم المستخدمة في مجاله البحثي. وبناء الأطر المرجعية اللازمة للفرع العلمي الذي يتخصص فيه، وكذلك مسؤولية الاتصال الراشد بمصادر الأمة الحيوية التي تتيح له فرصة الالتقاء/التفاعل المثمر بينه وبين عناصر هذا البناء ومواده اللازمة.

(2)

الوعي بالرؤية الكلية التوحيدية

المجال الثاني لوعي الباحث ما يتعلق بالرؤية الكونية التوحيدية، ويتطلب هذا المجال الوقوف على المنطلقات الأساسية للرؤية الكلية التوحيدية، ومقاصدها الكونية: التوحيد والتزكية والعمران، وما ينبثق عنهم من نظام قيمي إنساني (المساواة والعدل والحرية) للوقوف على الملامح الأساسية لمنظورنا الحضاري. وهذه المنطلقات وتلك الرؤية وذلك النظام القيمي يستمد مضامينه الفكرية والمنهجية من القرآن أو النموذج المثالي أي المصدر المقدس الذي لم ولن ينتابه أي تغيير أو تبديل أو تحريف، وهو القرآن الكريم.

إن المعادلة الفكرية التي يقدمها القرآن، تبني تصورًا شاملًا ومترابطًا للفرد والمجتمع والأمة والدولة، التي تنبثق من داخله.. تلك القيم المستندة على التوحيد والاستخلاف لهذا الإنسان في الأرض وعلى التسخير؛ تسخير الكون بقوانينه ونواميسه التي تدعو إلى الإيمان بقيم التوحيد والتزكية والعمران، وما يتفرع عنهما من تبنٍّ للهدى والحق والعدل والمساواة.[3]

والمرجعية تؤطر للمنظور الحضاري الذي يرى به الباحث قضاياه البحثية، ويفسرها به، ويتنبأ من خلاله بالوقائع في إطاره العلمي والموضوعي، ويقدم هداياته للإنسان والمجتمع في ضوء ما فسر ووصل إلى الحلول. ويشغل المنظور مكانة رئيسة في المنهجية بمثابة الطائر الذي يحلق من أعلى المئذنة فيرى المواضع والأماكن اللازمة التي يمكن أن  يسكن إليها، والإطار المرجعي يشغل في ذلك “موضع الخريطة الأساسية للملامح  العامة للموقع محل الرضى والنظر والحركة، فهي تتيح وضع المفاهيم في مواضعها وإخراجها من قوالبها المستقلة، لتوصيلها فيما بينها، وتشغيلها في تشكيلاتها المتباينة في اتجاه معلوم… وهذه الأطر المرجعية هي الكفيلة بتأكيد فعالية المنهجية، إذ عليها يتوقف ضبط وتحريك الوحدات الجزئية، وإقامة العلاقات الارتباطية بينها، وتمييز المستويات وترتيب الأولويات في ضوء المنظومة القيمية التي  تنطوي عليها هذه الأطر”.[4]

ويقف الباحث في حقل الإطار المرجعي موقف الراصد للقبة السماوية [خارطة فرعه العلمي] يمسك بالمنظار متوسما أكبر مساحة من الرؤية حتى لا يغفل عما عساها [داخل إطار بحثه] أن تكون الشاردة التي تحمل في ورودها على مما قد يُشكّل بعدًا في البنيان أو مدخلًا في الهيئة أو صلة بين الأعمدة الرئيسة المكونة لهذه الرؤية التي يسعى الباحث إلى تكوينها في ضوء رؤيته الكلية ومقاصدها، ومنظورها لحضاري الحافظ للأمة من التيه والذوبان.

(4)

الوعي بأدوات التعامل مع المصادر

       المجال الثالث لوعي الباحث هو ضرورة التمييز بين مصادر التكوين الفكري؛ بين المصادر الأصلية (القرآن) و(صحيح السنة) وطرق التعامل والتلقي بين كلٍّ منهما، والمصادر المشتقة التي تمثل التراث الفكري الإسلامي الذي نتج من الفهم البشري (المرتبط بمتغيري الزمان والمكان)، وبين الروافد الفكرية المتعددة التي تأثر بها الفكر الإسلامي القديم والمعاصر.

وإن كان تحديد العلاقة بين القرآن والسُّنة كمصادر منهاجية واجبًا، فلا شك أن تحديد هذه العلاقة بينهما وبين المصادر المشتقة لأمر أدعى. وتتمثل هذه المصادر في رافدين، بينهما التمايز والاتصال كذلك- والرافد الأول هو الذي يتمثل في التراث الحضاري في مختلف جوانب الإبداع والعطاء..وفي مقدمته التراث الفكري والعلمي على تنوعه وهو الذي يمثل حصيلة التفاعل في الزمان والمكان، يتفاوت في مدى تعبيره عن الأصالة الإسلامية بقدر اقترابه واستئناسه بالمصادر الأصلية. ثم هناك الخبرة التاريخية، أو محصلة تراكم الخبرة المتوالدة عبر تراكم المواقف والأحداث- على مدى زمن ممتد ومحصلة تعايش الأمة في البيئة الحضارية التي أوجدها الإسلام.. وهي كذلك تتفاوت في دلالتها – بقدر وقع المؤثرات الناجمة عن المصادر الأصلية في الفعل التاريخي.[5]

إن عملية الوعي بالمصادر تتطلب في ذاتها عدة عمليات متداخلة أهمها: الوعي بما هو وحي وما ليس بوحي، والوعي بما تشريع وما هو غير تشريع، وبين ما هو وحي وما هو بشري ناتج عن تلقي الوحي..وكل ذلك له درجاته ومستوياته في النظر والتعامل، ويمكن أن نشير إلى مجموعة من المبادئ المعرفية التي تساعد الباحث في تحديد درجات ومستويات التعامل مع الباحثين، وهذه المبادئ هي[6]:

1 – الاعتقاد بالتعدد والتنوع في هذه المصادر، والتفاوت في قيمة ودلالة وحدود ومجالات الاستفادة في كل منها.

2 – هذا التفاوت يقتضي تباين المداخل والتناول أي المقومات المنهاجية لكل منها.

3 – وجود علاقة تدرج قيمي ضرورية بينها في ضوء علاقات الإتباع والاشتقاق.

4 – إن وجود الوحي بين مصادر التنظير الإسلامي يجعل هناك إمكان استنباط معايير قياسية معلومة ثابتة وضابطة عند تنقيح المصادر ومناهجها.

5 – إن المنهاجية الإسلامية في ضوء طبيعة مصادرها لابد أن تنطوي على بُعد أخلاقي واضح، ومن ثم فهي لا يمكن أن تلتقي منطلقات المنهجية الوضعية في أصولها.

(5)

الوعي بالمقولات الزائفة

وخطورة هذه المقولات أنها ترسخ للنموذج الغربي في ذهنية الباحثين، وترسخ لديهم على أنها أحكام علمية يقينية يبنى عليها الدرس المعرفي، ومن هذه المقولات الزائفة التي روج لها النموذج الغربي وثقافته المبنية على الهوى والظن والتأرجح: حيادية العلم، لا شيء يعرف حقيقة سوى الظواهر الطبيعية، الظواهر الأخلاقية لا تُعرف حقيقة. فهي دائماً وأبداً مشكوك فيها لا تُعرف بشر حق ولا خير حق.

هناك سلسلة طويلة من المقولات الزائفة التي روَّج لها النموذج الغربي وبنى عليها أبحاثه التحيزية لصالحه، ولصالح تطويع المعرفة الإنسانية لأهدافه، وإن الوعي بهذه المقولات من خلال فحصها ومن خلال النظرة النقدية لاستعادة مكانة الاستقامة العلمية، واستعادة الوعي بحقيقة الظواهر وأبعادها وخصائصها الحقيقية دون بتر أو تجزئة.

هذه بعض جوانب الوعي التي يجب أن يتمتع بها الباحث المسلم ويمتلك أركانها ليستطيع الولوج في مجال البحث العلمي الذي يعطي الأمة شهودًا جديدًا لها، وبدون هذا الوعي سيظل البحث العلمي أداة من أدوات الانحطاط الحضاري لدينا في صورته التي تعيشها الأمة في وضعها الحالي.


[1] الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص825.

[2] منى أبوالفضل. نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، ص8 .

[3] منى أبوالفضل. طه العلواني: مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، ص37.

[4]  منى أبوالفضل: نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، ص9 .

[5] المرجع السابق، ص14.

[6] أبو الفضل, منى. نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، ص14.