إنَّ الآية المشهورة في سورة الطلاق تحتوي على قاعدةٍ إيمانيَّةٍ كبيرة، إنَّها قاعدةٌ ربَّانيَّةٌ لا تخطئ أبدا، فإذا ما تحقَّق شرطها الأوَّل تحقَّق الثاني دون إبطاء، حيث يقول الحقُّ فيها : {ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2-3)
ما التقوى؟
التقوى هي الحماية، والحماية إمَّا أن تكون من الأخطار الخارجيَّة أو الداخليَّة، والأخطار كثيرةٌ ومتنوِّعة، وأشدُّها خطراً تلك التي تمنع الإنسان من دخول الجنَّة، وتكون سبباً لدخوله النار، وأَولى أجزاء الإنسان بالحماية هو قلبه، حيث إنَّه إذا صلح وسلم من الأخطار صلح وسلم سائر الجسد، حيث يقول النبيُّ ﷺ: “ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب”متَّفقٌ عليه.
يقول حجَّة الإسلام الغزالي: “العبادة شطران، اكتساب: وهو فعل الطاعات، واجتناب: وهو تجنُّب السيِّئات، وهو التقوى، وشطر الاجتناب أصلح وأفضل وأشرف للعبد من الاكتساب، يصومون نهارهم ويقومون ليلهم، واشتغل المنتبهون أولو البصائر بالاجتناب، إنَّما همَّتهم حفظ القلوب عن الميل لغيره تعالى، والبطون عن الفضول، والألسنة عن اللغو، والأعين عن النظر إلى ما لا يعنيهم”.
مراتب التقوى
وحماية القلب والجوارح له ثلاث درجات، أو ما يطلق عليه الإمام ابن القيِّم بمراتب التقوى الثلاث، حيث يقول: “التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حمية القلب والجوارح من الآثام والمحرَّمات.
الثانية: حميتها عن المكروهات.
الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى: تعطي العبد حياته، والثانية تفيد صحَّته وقوَّته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته”.
الخطر الأكبر
ومن حمى نفسه من هذه الأخطار، فقد حمى نفسه من الخطر الأكبر، وهو النار التي أمر الله تعالى في كتابه الكريم المؤمنين بالحماية من شرِّها حيث قال: “يا أيُّها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وَقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون”.
وكذلك نتَّقي هذا الخطر الأكبر بالعمل الصالح، فهو السبب الرئيسيّ -بعد رحمة الله، وحماية القلب والجوارح من المعصية– في دخول الجنَّة، والابتعاد عن النار، حيث يقول الرسول ﷺ: “اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة”رواه البخاري، ويقول الرسول ﷺ: “من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا”رواه البخاريُّ ومسلم.
صفات المتَّقين
إنَّ للمتَّقين صفاتٌ كثيرةٌ تحميهم من نار جهنَّم، يجاهدون أنفسهم للاتِّصاف بها طيلة بقائهم في هذه الحياة الدنيا، وتتكامل هذه الصفات، وتزداد عمقاً يوماً بعد يومٍ كلَّما تقرَّبوا إلى ربِّهم، ومن أبرز هذه الصفات:
1 – استواء الظاهر مع الباطن : أو هو الإخلاص في أحد صوره الجميلة، فالمخلص الذي يريد وجه الله لا يفرِّق في ذلك عندما يكون خالياً أو أمام الناس، حيث يستوي عنده الظاهر والباطن، أمَّا أولئك الذين يتظاهرون بالتقوى أمام الناس، وإذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها، فأولئك يفضحهم الله في الدنيا والآخرة، ويسلبهم الله نور الإيمان الذي يظهر جليًّا على وجوه أولئك المخلصين، ويكون أثره كالمغناطيس يجذب القلوب إليهم، بينما يتباعد الناس عن أولئك المتظاهرين، وينادي الإمام ابن القيِّم هذا المتظاهر بالتقوى متعجِّبا: “سبحان الله، ظاهرك متجمِّلٌ بلباس التقوى، وباطنك باطيةٌ لخمر الهوى- الباطية هو الإناء الذي تشرب فيه الخمر- فكلَّما طيَّبت الثوب فاحت رائحة المسكر من تحته فتباعد منك الصادقون، وانحاز إليك الفاسقون. إنَّهم يتظاهرون بالتقوى ولكنَّ قلوبهم مملوءةٌ بحبِّ غير الله، وقد اتَّخذوا أهواءهم آلهةً من دون الله، وكلُّ إناءٍ بما فيه ينضح.
2- تقديم العمل على المظاهر: إنَّهم يعلمون حقَّ العلم بأنَّه ما من آيةٍ في القرآن الكريم ذكرت الإيمان إلا وقرنته بالعمل، ويعلمون بأنَّه لن يُنجِي العلم من غير عمل، ولا المظاهر من غير عمل، فإنَّ الله لا ينظر إلى القلوب، وإذا عمرت القلوب بحبِّ الله دفعها للعمل، وإذا ما عمل الإنسان طفح أثر العمل على الجوارح، وكان إمام التابعين الحسن البصريِّ يؤذيه رؤية ذلك الصنف من الناس الذين يهتمُّون بمظاهرهم على العمل، ويظنُّون أنَّ ذلك من التقوى، فقد رأى يوماً فرقد السنجيَّ وعليه جبَّة صوف، فأخذ بجبَّته ثمَّ قال: “يا بن فرقد -مرَّتين أو ثلاثة– إنَّ التقوى ليست في الكساء، إنَّما التقوى ما وقر في القلب، وصدَّقه العمل والفعل.
3- الاهتمام بتقوية القلب: إنَّهم يتَّجهون أوَّلاً لتقوية القلوب، فالقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح سائر الجسد، ولا يصلح الظاهر حتى يصلح الباطن، وما أجمل ما كان يقول الواعظ يحيى بن معاذ: “عملٌ كالسراب، وقلبٌ من التقوى خراب، وذنوبٌ بعدد الرمل والتراب، ثمَّ تطمع في الكواعب الأتراب؟ هيهات، أنت سكرانٌ بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلَّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو بادرت هواك”.
فما كمال العقل إلا بمعرفة أهمِّيَّة الوقت، والمبادرة قبل انقضائه بقيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعته فيما لا يرتفع إلى السماء.
4- الاهتمام بالعلم والعمل: فالتقوى هي العاصمة من القواصم، ومن كلِّ فتنةٍ عاصفة، ولا يمكن أن تثبت حقيقة التقوى من غير علمٍ وعملٍ وإخلاص، وقد نصح التابعيُّ الجليل والزاهد البصريُّ الكبير طلق بن حبيب أتباعه باتِّقاء الفتن بالتقوى فقال: “اتَّقوها بالتقوى”، فقيل له: صف لنا التقوى، فقال: “العمل بطاعة الله، على نورٍ من الله، رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله على نورٍ من الله، مخافة عذاب الله”.
ونور الله هو العلم، ورجاء ثواب الله أي ابتغاء وجه الله بالعمل، والإخلاص له، دون رجاء الثواب من غيره من المخلوقين، وترك المعاصي بالعلم مخافة عذاب الله وليس مخافة البشر أو بانتظار ثنائهم.
ومن اتَّصف بهذه الصفة، وهذا العمل المكمِّل للعمل، وابتغاء وجه الله في ذلك فإنَّه يكون في مأمنٍ من الفتن، وإنَّما يقع في الفتنة من جهل، وقلَّت مخافته من الله تعالى، وابتغى غير وجه الله في عمله.
5- تنقية الطمع والغضب: وهي من أبرز صفات المتَّقين، حيث إنَّهم يمارسون التوحيد الخالص لله تعالى، ولا يُدخِلون إلى قلوبهم أحدٌ غيره، كما قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وجعلها رسولنا ﷺ سنَّةً في افتتاح كلِّ صلاة، عندما رغَّبنا بأن نقول: “قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين”.
وبالتالي يكون كلُّ ما يقومون به نقيًّا إلا من الله تعالى، سلوكهم وقلوبهم ومعاملاتهم، وممَّا يذكره بكر بن عبد الله المُزنيِّ عن المؤمن أنَّه: “لا يكون تقيًّا حتى يكون نقيَّ الطمع نقيَّ الغضب.
فلا يغضب إلا لله تعالى، ولا يطمع بشيءٍ من زينة الدنيا، وإنَّما يقصر طمعه لما عند الله من النعيم، فكلَّما رأى من جواذب الدنيا شيئاً تذكر أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، وكلَّما أغضبه شيءٌ من أمور الدنيا، تذكَّر أنها لا تستحق أن يغضب لها وهي زائلة، فهو في تنقيةٍ دائمةٍ لغضبه وطمعه وسلوكه ومعاملاته، حتى يبقى على التوحيد الخالص لله تعالى.
6- محاسبة النفس: يقول التابعيُّ الجليل ميمون بن مهران: “لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبةً من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه، ومطعمه، ومشربه”.
فهو امتدادٌ لصفة التنقية للطمع والسلوك والغضب، ذلك لأنَّ المحاسبة هي أحد الضمانات بعدم تراكم الأخطاء، ومراجعة الأعمال التي لم يكن فيها النقاء كما ينبغي، والمحاسبة صفةُ عظيمةٌ أقسم الله سبحانه بها فقال: “ولا أقسم بالنفس اللوَّامة”، وهي تلك التي تلوم صاحبها على كلامه وأفعاله، لينقِّيها ممَّا شابها من أدران المعاصي، وابتغاء غير وجهه سبحانه، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر”.
7- كراهية الثناء: فالمتَّقي لله تعالى، لا يبتغي وجهاً سواه، ولا يطمع بشيءٍ سوى ما عنده من الجنَّة والرضى والأجر العظيم، وكلُّ ما دون ذلك لا يساوي في عينيه شيئاً مهما قيل عنه وأثني عليه، فهو أعلم الناس بنفسه، وبالتالي تراه لا يحرص على ثناء الآخرين، ويتضايق منه لأنَّه يخشى أن يسبب له انتفاخاً ينسيه فضل الله عليه، وأن يكله إلى نفسه.
وكان التابعيُّ الجليل ميمون بن مهران من هذا الصنف من المتَّقين الذين يكرهون الثناء خوفاً على أنفسهم، فقد جاء رجلٌ وقال له: يا أبا أيُّوب، ما يزال الناس بخيرٍ ما أبقاك الله لهم، فردَّ عليه حالا: “أقبِل على شأنك، ما يزال الناس بخيرٍ ما اتَّقوا ربَّهم”.
ولذلك نهى الرسول ﷺ عن الثناء، وأمرنا بحثو الرمل في وجوه المدَّاحين، إلا إذا أمنت من انتعاش الممدوح، وكان الهدف من ذلك تشجيعاً على بعض أخلاقه، أو تثبيت ذلك الخلق في نفسه، كما مدح الرسول ﷺ أبا بكرٍ وعمر وغيرهم ممَّن يعلم أنَّ المدح لا يؤثِّر فيهم.
يجعل له مخرجا
{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا } فإذا ما حقَّق المؤمن الشرط الأوَّل للمعادلة بتحقيق التقوى في نفسه، حقَّق له الشطر الثاني من المعادلة، بأن يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
يقول الإمام ابن الجوزيّ: “تأمَّلت قوله تعالى: “فمن اتَّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى”،قال المفسِّرون: “هداي”: رسول الله ﷺ وكتابي، فوجدتُّه على الحقيقة أنَّ كلَّ من اتَّبع القرآن والسنَّة وعمل بما فيهما، فقد سلم من الضلال بلا شكّ، وارتفع في حقِّه شقاء الآخرة بلا شكّ، إذا مات على ذلك، وكذلك شقاء الدنيا، فلا يشقى أصلا، وبيَّن هذا قوله تعالى: “ومن يتَّقِ الله يجعل له مخرجا” فإن رأيته في شدَّة، فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصابَ عنده عسلا، وإلا غلب طيش العيش في كلِّ حال، والغالب أنَّه لا ينزل به شدَّة، إلا إذا انحرف عن جادَّة الصواب، فأمَّا الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه، ولا بليَّة تنزل به، هذا هو الأغلب، فإن ندر من تطرقه البلايا مع التقوى فذلك في الأغلب لتقدُّم ذنبٍ يجازى عليه، فإن قدَّرنا عدم الذنب، فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء، حتى يخرج تِبْرًا أحمرا”.
وصايا النبيِّ ﷺ
والوصيَّة لا تخرج إلا من حريص، والرسول ﷺ أحرص الناس على أمَّته، ولذلك جاءت وصاياه بما ينجي أمَّته، ويجعلهم في أعلى علِّيِّين يوم القيامة.
ومن هذه الوصايا ما كان يخصُّ التقوى، حيث قال في الحديث: “أوصيك بتقوى الله تعالى فإنَّه رأس كلِّ شيء”رواه الإمام أحمد، ورجاله ثقات.
يقول الإمام المناوي: “إذ التقوى وإن -قلَّ لفظها- جامعةٌ لحقِّ الحقِّ والخلق، وشاملةٌ لخير الدارين، إذ هي تجنُّب كلِّ منهيّ، وفعل كلِّ مأمور”.
والوصيَّة عندما تصدر من محبّ، فهي أَولى بالاتِّباع، فكيف إذا ما صدرت من محبّ، ومن أتقى الأتقياء، وهو النبيُّ ﷺ.
ما المخرج ؟
تعدَّدت أقوال أهل التفاسير في هذا المخرج، وإن كانت جميعها تحتمل معاني المخرج الكثيرة، التي يستحقُّها من اتَّقى الله تعالى، ومنها:
أ- النجاة من الكربين، وهو ما رواه ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما بقوله: “ينجيه من كلِّ كربٍ في الدنيا والآخرة”.
ب- القناعة، وهو ما قاله عليُّ بن صالح: “المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه“.
ج- النجاة من النار إلى الجنَّة.
د- مخرجاً من النهى: قاله الحسن البصريّ.
هـ- من كلِّ شدَّة، وما قاله ابن خيثم: “من كلِّ شيءٍ ضاق على الناس”.
و- من العقوبة.
ز- من شبهات الدنيا.
ح- الكرب عند الموت.
ط- الفرح يوم القيامة.
الشيخ عبدالحمبد البلالي 5>