يرخي الليل سدوله ليخلد بعض الناس إلى الراحة والنوم، ولينعم آخرون بالهدوء الذي يستوعب شغفهم للقراءة أو الكتابة، أو تصفح أجهزتهم الرقمية. منهم من يرى في ظلمته ستارا يحجب عنه عيون الخلق ليلتذ بمعصية، ومنهم من يراها مضمارا لمناجاة خالقه والسجود بين يديه، والنهل من مغفرته ورحمته. كيف لا والله تعالى قد شرّف آناء الليل بنزوله فيها نزولا يليق بجلاله وعظمته وكبريائه. ودعا عباده ليسألوه ويستغفروه، تأسيا بنبيه الذي أحيا الليل إلى أن تفطرت قدماه؟

جميع أوقات العبادة وفعل الخيرات يشترك فيها الخلق، ماعدا ساعات الليل. يقول الإمام أبو فرج ابن الجوزي: ” قد خُصّ بها أفراد يراعونها، وجمهور الخلائق نيام غافلون، ثم يتفاوت قُوّام الليل في مقادير التعبد، وفي مقادير ما ينالون من شِرب المعاملة، وذوق حلاوة المناجاة، والأنس بالمخدوم”.

وفي مصنفه (قيام الليل) لم يكتف الإمام بجرد الأدلة الشرعية على فضل هذه العبادة وآدابها، وإنما استلهم من بيئته وذخيرة مطالعاته عشرات الحكايات والمنامات، والوقائع اليومية التي تجري داخل البيوت، ليؤسس سردية متكاملة حول سُنة فريدة صارت اليوم شبه مهجورة لدى أغلب الناس، فلا يتذوقون حلاوتها إلا مع قدوم رمضان!   

القيام في سورة المزمل

نصّت الآيات من أول سورة المزمل على الأمر الإلهي بقيام الليل: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل:1-4)، ثم نُسخ الحكم ليصير نافلة: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثله وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن} (المزمل:20).

فقامه النبي وأصحابه سنة حتى انتفخت أقدامهم. واستمرت التوجيهات النبوية في الحث على لزومه، والإشادة بمن يواظب عليه. بل أخرج البخاري في صحيحه حديث الرؤيا التي عوتب فيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لتركه قيام الليل، حيث يقول: ” رأيت في النوم كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطيّ البئر، فإذا لها قرنان كقرني البئر، فإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تُرع”، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي ، فقال:” نِعم الرجل عبد الله؛ لوكان يقوم الليل”. فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا.

أمن هو قَانت آناء الليل

حمل الصحابة أنفسهم على قيام الليل اتباعا منهم للهدي النبوي. وتواترت الحكايات عن آثار السهر، والضعف الذي ألمّ ببعضهم جراء حرصهم على هذه الطاعة. وكانت لتلك الحكايات أبعادها التربوية والخلقية التي تبث الحماس في غيرهم، فيجعلوا من آناء الليل مضمارا للتنافس والسبق. ومما يحكى في هذا الباب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات، تزوج جاره عثمان بن العاص إحدى زوجاته وقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر. وقد اشتهر وجه عمر بين الناس بخطين أسودين لفرط بكائه في قيام الليل، كما لاحظ الصحابة نعاسه وهو قائم بعد توليه الخلافة، فلما التمسوا منه أن يريح نفسه، قال قولته المأثورة: إن نمت بالنهار ضيعت حق الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله!

ولأن دين الله يسر ولا يُكلّف الإنسان إلا بما يطيق، فقد تواترت الأخبار كذلك عمن اعتذر عن القيام لأسباب مختلفة. وكان التفهم والتقبل عنوانا لتصرفات الصحابة مع غيرهم، ليظل الأمر رهينا بمدى نشاط المسلم وإقباله على العبادة. سأل رجل عكرمة: إني أتعلم القرآن ويقولون لا توسّده. فقال: إنك إن تنام عالما خير من أن تنام جاهلا. يشير بذلك إلى أن نوم الليل ليس بحرام على من تعلم القرآن، والقيام ليس فرضا عليه وإنما هو مستحب.

وقال رجل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: إني لا أطيق الصلاة بالليل. فقال: لا تعصي الله بالنهار ولا عليك ألا تصلي بالليل. وقال آخر لابن عمر رضي الله عنهما: إني أحب التهجد والصلاة لله، ولا أقدر عليها مع الضعف. فقال: ارقد يا ابن أخي ما استطعت، واتق الله ما استطعت!

لكن مع جيل التابعين سيصبح قيام الليل أسلوب حياة، يتميز به من هجروا متاع الدنيا طلبا للآخرة؛ خاصة بعد أن ألمّت بالمسلمين أحداث عنيفة أودت بحياة ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وحملت غيرهم من الصحابة على ترك مسافة أمان بينهم وبين مجريات الأحداث العامة بعد تولي الأمويين شؤون الحكم.

كانت تعاليم الإسلام واضحة في تحقيق التوازن بين الترغيب والترهيب، وبين الدعوة للزهد في المتاع الدنيوي، لكن دون تعطيل لما تقتضيه حركة الحياة وواجب إعمار الأرض والاستخلاف. إلا أن التغيرات التي طرأت على النظام الاجتماعي والسياسي بفعل الفتوحات وكثرة الغنائم، وزيادة الإقبال على مباهج الدنيا وشهواتها، أحدثت ما يمكن اعتباره ثورة روحية في نفوس لا يزال إيمانها غضا طريا، وصلتها بالمدرسة النبوية حديثة العهد، وقضت على الشعور بالأمان، فتنامت الحاجة إلى العزلة والخلوات، وطلب السلامة.

تولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ولاية البصرة. وكانت من أغنى بلاد المسلمين رغم حداثتها بفضل ما تدفق عليها من غنائم الفتوحات. وكان فتى تميمي يدعى عبد الله بن عامر ممن يلازمون أبا موسى ويصحبونه في حله وترحاله ليتفقهوا على يديه. غير أنه زهد في الدنيا فوهب حياته للجهاد والعبادة حتى لقب بعابد البصرة.

كان من أخباره أنه يقوم الليل حتى يتنفس الصبح. وفي حكاية نقلها مرافق له في إحدى القوافل، وقد تتبعه بعد أن اختلى بنفسه ليصلي ويناجي ربه، أنه كان يدعو قائلا: اللهم إني سألتك ثلاثا؛ فأعطيتني اثنتين ومنعتني واحدة. اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد. فلما أقسم عليه الرجل أن يخبره بهذه الثلاث، ذكر من بينها أنه سأل ربه أن يُذهب عنه النوم حتى يعبده بالليل والنهار كما يريد فمنعه هذه الثالثة!

تشكلت في صفوف التابعين طبقة من الزهاد الذين سعوا إلى الترغيب في قيام الليل، بعد أن اشتدت الحاجة لعلاج روحي يخفف من تبعات الإقبال على الملذات والشهوات. وباستقراء الحكايات والمنامات التي راجت في هذه الفترة، يتبين أن هذه العبادة اكتست ضرورة اجتماعية وقيمية هامة، مما حذا بقُوام الليل إلى حث غيرهم على لزومها والمواظبة عليها.

أخذ الفضيل بن عياض بيد الحسين بن الحسن المروزي ثم قال: يا حسين، يقول الله تعالى في بعض كتبه: كذب من ادعى محبتي، وإذا جنّه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟

 ويقول أحد قوام الليل: رأيت في منامي امرأة لا تشبه نساء أهل الدنيا، فقلت: من أنت؟ فقالت: حوراء أمة الله. قلت: زوجيني نفسك. قالت: اخطبني من سيدي وامهرني. قلت: وما مهرك؟ قالت: طول التهجد.

واشتهر صلة بن أشيم بأنه كان يقوم الليل حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا. ونُقل عنه أنه كان يمر في طريقه بشباب يلهون فيقول: أخبروني عن قوم أرادوا سفرا، فجاروا النهار عن الطريق وناموا الليل، متى يقطعون سفرهم؟ فانتبه أحدهم يوما لمقالته، وانصرف معه يتعبد حتى مات.

وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يركب فرسه في جنح الليل ويأتي المقابر فيقول: يا أهل المقابر، طويت الصحف ورفعت الأقلام، لا تستعتبون من سيئة ولا تستزيدون من حسنة. ثم ينزل عن فرسه فيصُفّ قدميه ويصلي حتى يصبح. فإذا طلع الفجر صلى مع القوم في المسجد كأنه لم يكن في شيء.

ويغفل مالك بن دينار عن ورده في إحدى الليالي، فيرى في المنام أن جارية كأحسن ما يكون ناولته رقعة ليقرأها، فإذا فيها هذه الأبيات:

أألهتكَ اللذائذ والأمـــــــــــــــــاني عن البيض الأوانس في الجنان تعيش مخلّدا لا موت فيـــــــــها وتلهو في الجِنان مع الحســـان تنبّه من منامك إن خيـــــــــــــــرا من النوم التهجد بالقـــــــــــــرآن

وفي ثنايا الحكايات والمنامات تتشكل قواعد وآداب لقيام الليل، يُجملها ابن الجوزي في أربع:

  •  الحذر من ذنوب النهار لأنها تقسي القلب، وتحول بينه وبن أسباب الرحمة.
  • والرفق من الأعمال الشاقة التي توجب التعب.
  • والاستعانة بالقيلولة.
  • والتقليل من المطعم والمشرب.

نُسخ حكم قيام الليل لكن بقي الأثر، وحلاوة التعلق ومناجاة الخالق سبحانه. ولأنه من أشرف أعمال الصالحين فقد رتبوا لتركه أو العجز عنه عقوبات لا يستشعرها إلا من خالط الإيمان قلبه. إن حسب الرجل من الخيبة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه، أن ينام ليلة حتى يصبح وقد بال الشيطان في أذنه، فلم يذكر الله ليلة حتى يصبح.

وأما ما يجده الناس من صعوبة القيام فمرده إلى قلة معرفة بالمعبود، وضعف يقين بالجزاء. ومتى قويت المعرفة واليقين، يقول ابن الجوزي، يسهل قيام الليل!