آيات الطلاق في سورة البقرة: تناول القرآن الكريم أحكام الطلاق في عدة مواضع، وكان الموضع الأول في سورة البقرة، حيث أوردت السورة عددًا من الآيات التي تعالج مختلف جوانب الطلاق والإيلاء وأحكام العدة والحقوق الزوجية. تهدف هذه الأحكام إلى تنظيم العلاقة الزوجية بما يحفظ حقوق الطرفين ويحقق العدالة والإنصاف.
أحكام الإيلاء والطلاق في سورة البقرة
أول آية في القرآن الكريم تختص بموضوع الطلاق جاء ذكرها في سورة البقرة ضمن الخيار المشروع للأزواج بعد الإيلاء (الحلف على ترك مباشرة الزوجة)، إذا امتنع من الفيء، بل الطلاق في هذه المناسبة خيار نهائي تفاديا الإضرار بالزوجة، قال الله تبارك وتعالى:
{للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤ فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)} [البقرة]
بدأت الآيات الكريمة بحكم الإيلاء، وتظهر مناسبتها مع الآية التي قبلها أنهما تتحدثان عن الأحكام المتعلقة باليمين والحلف، والإيلاء نوع خاص من الحلف يقصد به تأديب المرأة، وكان مدخلا قرآنيا رائعا في توضيح أحكام الطلاق حسب ما يقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى. وبعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 225] ، عقَّب الله سبحانه ذلك ببيان حكم اليمين الخاصة.
حكم الإيلاء
الإيلاء هو حلف الزوج على الامتناع عن مباشرة زوجته. وقد تناول القرآن هذا الحكم في قوله تعالى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226-227].
بدأت الآيات بحكم الإيلاء حيث حددت مدة قصوى له وهي أربعة أشهر. إذا رجع الزوج عن إيلائه في هذه المدة، فإن الله يغفر له. أما إذا أصر على عدم الرجوع، فقد أوجب الله التفريق بينهما، لأن الحياة الزوجية لا تقوم على الهجران والقطيعة.
قال ابن عاشور: وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم.
قال عبد الله بن عباس: كان إيلاءُ أهلِ الجاهلية السنةَ والسنتين وأكثرَ من ذلك، فوقَّت اللهُ لهم أربعةَ أشهر، فإن كان إيلاؤُه أقلَّ مِن أربعةِ أشهر فليس بإيلاءٍ[1].
وعن سعيد بن المسيّب: كان ذلك من ضِرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبُّ أن يتزوجها غيرُه، يحلف ألّا يقربها أبدًا، وكان يتركها كذلك لا أيِّمًا ولا ذات بعل، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر، فأنزل الله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم}.
وقد حدد الله تعالى مدة قصوى للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم، وهي أربعة أشهر، إشارة إلى أن الإيلاء لمدة طويلة مما لا يرضي الله تعالى، لما فيه من قطيعة واستمرار نزاع، ومنعا من إلحاق الضرر بالمرأة وامتهانها وإهدار حقوقها.
فإن رجعوا بالفعل لا بالقول إلى ما حلفوا على الامتناع منه وكانوا عليه، فإن الله يغفر لهم ما كان من الحنث في أيمانهم، لأن الفيئة توبة في حقهم، رحيم[2].
حكم الطلاق في القرآن
اختلف الفقهاء في حكم الطلاق بعد انتهاء مدة التربص يعد الإيلاء. جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن الطلاق لا يقع بمجرد انتهاء المدة، بل يجب أن يرفعه الزوج إلى القاضي. أما الحنفية، فيرون أن الطلاق يقع تلقائيًا بعد انتهاء مدة الأربعة أشهر.
جاء في ذلك قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}.
والعزم وهو عقد القلب على الشيء، والتصميم عليه. يقال عزم على الشيء يعزم عزما وعزيمة.. إذا عقد نيته عليه. والطَّلاقَ هو حل عقد النكاح الذي بين الرجل والمرأة.
ومعنى الآيتين الكريمتين: أن الله- تعالى- جعل للذين يحلفون على ترك مباشرة أزواجهم مدة يراجعون فيها أنفسهم، وينتظرون فيها ما يستقر عليه أمرهم، وهذه المدة هي أربعة أشهر، فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك مباشرة الزوجة، ورأوا أن المصلحة في الرجوع فإن الله- تعالى- يغفر لهم ما فرط منهم. وإن استمروا على ترك مباشرة نسائهم، وأصروا على ذلك بعد انقضائها فإن شرع الله- تعالى يحكم بالتفريق بينهما، لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران، وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة[3].
خمس آيات في أحكام الطلاق
جاء بعد هاتين الآيتين خمس آيات أخرى متعاقبة، وهو الموضع الثاني الذي جاء فيه آيات الطلاق في سورة البقرة، وهذه الآيات تذكر بأحكام الطلاق مفصلة، وبيان العدد المشروع وما يترتب عليه من حقوق وواجبات، وهي الآيات هي قوله تعالى:
{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228) الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)} [البقرة].
والآن نبدأ ببيان ما يحتويه كل آية من أحكام متعلقة بالطلاق.
عدة المطلقة وحقوقها
حسم القرآن الكريم موضوع عدة المرأة المطلقة وحقوقها ليبقى حكمًا ثابتًا في الشرع لا تجوز مخالفته، وذلك في قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} [البقرة: 228].
حيث أوجب الله تعالى على المطلقات أن يمكثن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء بدون نكاح ثم لها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت. والمراد بالمطلقات هنا هي المرأة المدخول بها إذا كانت من ذوات الحيض غير الحوامل، لأن الحامل واليائس وهي غير الحائض من النساء قد بين الله تعالى عدتهن في مواضع أخرى.
وقد ثبت في سبب نزول هذه الآية الكريمة في تحديد مدة الانتظار للمطلقات: حديث أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، قالت: طلقت على عهد رسول الله ﷺ، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله العدة للطلاق: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}[4] .
وجاء التعبير القرآني بقوله: {يتربصن بأنفسهن} إشارة إلى أن على النساء أن يحملن أنفسهن على الصبر والانتظار لإتمام تلك المدة، حتى تنقضي العدة، فلا يسايرن أهواءهن وشهواتهن، إذ قد تكون أنفسهن تواقة إلى سرعة انقضاء العدة، والتزوج بزوج آخر. وفي هذا التعبير لفت نظر لطيف، فيه تعظيم وتبجيل، إذ لم يؤمرن بذلك أمرًا صريحًا[5].
وقد أخرج من حكم الآية ثلاثة أصناف من النساء وهن:
- المطلقات قبل الدخول، فلا عدة عليهن.
- والصغيرات قبل سن الحيض واليائسات من المحيض لكبر السن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
- والحوامل فعدتهن وضع الحمل. فصارت الآية هنا خاصة بعدة النساء الممكنات الحيض، غير المدخول بهن، وغير الحوامل.
ما هي القروء؟
لما كانت عدة الانتظار {التربص} بالقروء حصرًا للمطلقات الحيض، فما هي القروء عند علماء مذاهب الأئمة الأربعة؟
للعلماء رأيان مشهوران في المراد بقوله تعالى: {ثلاثة قروء}:
- القول الأول: ذهب السادة الحنفية والحنابلة وهو رأي عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أن المراد بالقروء هنا الحيضات والمعنى عندهم: أن المطلقات عليهن أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن مدة ثلاث حيضات بدون زواج ثم بعد ذلك لهن أن يتزوجن إن شئن.
- القول الثاني: اختار السادة المالكية والشافعية وهو رأي عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والزهري وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أن المراد بالقروء هنا الأطهار، أي: الأوقات التي تكون بين الحيضتين للنساء. ومعنى الآية عندهم: أن على المطلقات أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن ثلاثة أطهار بدون زواج ثم بعد ذلك يتزوجن إذا شئن.
وكلا القولين وجيه إذ المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق، وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاث أطهار[6]
حكمة التربص للمطلقات
مما قضى الله تعالى في حكم المطلقات أنهن يتربصن أي ينتظرن مدة زمنية بعد الطلاق، فلا تخرج المطلقة من بيت زوجها بمجرد وقوع الطلاق. وهذا يخالف نوع الطلاق في الجاهلية لأنه يحقق العدل والإنصاف الذي جاء به الإسلام.
قال قتادة بن دِعامة في قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}: “كان أهلُ الجاهلية يُطَلِّقُ أحدُهم، ليس لذلك عِدَّةٌ”[7]
وحكمة هذا التربص: هو التعرف على براءة الرحم، فلا تختلط الأنساب، لذا لا يحل للنساء أن يكتمن شيئًا مما في أرحامهن من حمل أو حيض، وإن طالت العدة للتزوج بزوج آخر، ولا يحل لهن الكذب بكتمان الحيض أيضًا لأجل استدامة النفقة ما دمن في العدة.
حق الرجعة للزوج أثناء مدة الانتظار
حدد القرآن الكريم حق الزوج في رد زوجته أثناء عدة الطلاق، وذلك في قوله: {وبعولتهن أحق بردهن..}
قال في التفسير المنير: “وأزواجهن في حال الطلاق الرجعي أحق برجعتهن إلى بيت الزوجية، في مدة العدة، حرصًا من الشرع على إبقاء الرابطة الزوجية السابقة، فليس هناك من الحلال أبغض عند الله من الطلاق، وعلى المرأة الاستجابة إلى طلب الزوج الرجعة، بشرط أن يكون المقصود بالرجعة: الإصلاح والخير للزوجين.
أما إذا كان القصد هو الانتقام والإضرار ومنعها من الزواج بآخر، حتى تكون كالمعلقة، لا هي زوجة له بالمعنى الكريم، ولا يمكنها من التزوج بغيره، فهو آثم عند الله، بإلحاق الضرر بها، والحيلولة بينها وبين الزواج برجل آخر.
ونقل القرطبي إجماع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولًا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، ولا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ليس على صفة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء.
ضمان حق الزوجين بينهما
صرح القرآن الكريم بضرورة ضمان حق الزوجة على زوجها وحقه عليها، وواجبات كل واحد للآخر، وذلك في قوله: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم}. وللنساء على الرجال مثل ما للرجال على النساء. فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه نحوه بالمعروف.
والمراد بالمماثلة – كما يقول الآلوسى – المماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال.
وقد بين النبي ﷺ في أحاديث متعددة حقوق الرجال على النساء، وحقوق النساء على الرجال، ومن ذلك:
- ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول ﷺ قال في خطبته في حجة الوداع: “اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله. واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف”.
- وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: “لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه.
- وأخرج أبو داود عن معاوية بن حيدة قال: “قلت يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت”.
ما المراد بقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة}؟
بعد إثبات القرآن الكريم مبدأ المساواة بين الزوجين في الاستحقاقات والمسؤوليات، كل حسب ما حدد له الشرع الحكيم، قرر القرآن الكريم وجهًا واحدًا يزيد الرجل فيه على المرأة بقوله {وللرجال عليهن درجة}، وهي درجة القوامة.
قد استحق الزوج هذه الدرجة ليقوم بتسيير شؤون الأسرة المشتركة والقيام على مصالحها بقيادته، لما فضله الله على المرأة بسعة العقل والخبرة، والحكمة والاتزان دون التأثر السريع بالعواطف العابرة، ولأنه الذي ينفق ماله وكسبه من بداية تكوين الزواج بدفع المهر، إلى نهايته بالنفقة الدائمة على شؤون الحياة بتوفير المسكن والملبس والطعام، كما قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ} [النساء: 34].
وإذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين – الرجل والمرأة – فلا بد أن يشرف على تهذيب الأسرة ويقوم على تربية ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين. وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه فجعل له الرياسة، ولذا قال – سبحانه -: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}.
هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقًا وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر الآية، فإذا كان للرجل فضل درجة فعليه فضل واجب[8]
قال الدكتور الزحيلي: “مسوغ التفضيل وإعطاء درجة القيادة له أمران:
- تكوين الرجل بزيادة خبرته واتزانه وعقله، وإعداده لتحمل الأعباء والكفاح والعمل.
- إلزامه بالإنفاق على المرأة: بدفع المهر وتوفير الكفاية لها من مسكن وملبس ومطعم ومشرب ومداواة ونحو ذلك.
هذه الدرجة في الحقيقة كما تبين: هي غرامة وتكليف للرجال أكثر من تكليف النساء، لذا كان حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «لو أمرت أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». وقال ابن عباس: «الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق» أي أن الأفضل ينبغي أن يتحمل أخطاء الآخر، ويتحامل على نفسه، ويضبط أعصابه في معالجة المشكلات أو الأزمات الطارئة. قال ابن عطية: “وهذا قول حسن بارع”[9]
عدد الطلاق وحدوده وأحكامه
جاء البيان القرآني في تحديد حقيقة الطلاق ومشروعيته في الآية السابقة، ثم أعقبه ببيان حد الطلاق وعدد مراته وما يترتب على ذلك من أحكام، يقول الله تعالى:
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} [البقرة: 229-230].
وهذا التحديد بالعدد يبطل عادة كانت منتشرة في الجاهلية، فإن العرب في ذلك الوقت لم يكن للطلاق لديهم حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال، وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة، ثم يستأنف طلاقًا جديدًا، مرة تلو مرة إلى أن يسكن غضبه، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “لم يكن للطلاق وقتٌ، يُطَلِّقُ امرأتَه ثم يُراجِعُها ما لم تَنْقَضِ العِدَّة، وكان بين رجل وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس، فقال: واللهِ، لأتْرُكَنَّك لا أيِّمًا ولا ذاتَ زوج. فجعل يُطَلِّقُها، حتى إذا كادت العِدَّةُ أن تنقضِي راجعها، ففعل ذلك مِرارًا؛ فأنزل الله فيه: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. فوَقَّت لهم الطلاقَ ثلاثًا؛ يُراجِعُها في الواحدة وفي الثِّنتَيْن، وليس في الثالثة رَجْعةٌ حتى تَنكِح زوجًا غيرَه”[10]
وهذا الحد المذكور يعلم الرجل أقصى مدة يملكها لمراجعة زوجته بعد الطلاق، في حالة طلقة رجعية، فيبين حد المدة التي يستوفي فيها الزوج حقه في الرجعة، وأنه إذا فاتت هذه المدة سواء من الطلقة الأولى أو الثانية بحيث انقضت عدتها ولم يراجعها بانت منه.
على هذا تبين من الآية {الطلاق مرتان} أن الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة والعدد المشروع الذي تصح بعده المراجعة مرتان فقط.
والطلاق: هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: “فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس” [11] ، وقد طلق رسول الله ﷺ حفصة ثم راجعها[12]
وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخُطّاب.
حكم من طلق ثلاث مرات مجتمعات
اختار العلماء أن الآية الكريمة تبين أصل التفريق بين مرات الطلاق سنة، لقوله تتعالى: {الطلاق مرتان} وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرقتين، لأنهما إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين. فإذا خالف المطلق وجمع التطليقات الثلاث في لفظ واحد، فاختلف العلماء في ذلك.
قال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة: يقع به ثلاث طلقات، مع الكراهة عند الحنفية والمالكية، لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة، ثم يتركها، حتى تنقضي عدتها.
وقال ابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه.
والذي يقره الشارع ويسوغه هو الطلاق الذي يكون على التفريق، واحدة بعد واحدة، ومرة بعد مرة؛ وليس التطليق الذي يكون بالإرسال مرة واحدة[13].
من آداب ما بعد الطلاق
أشار القرآن الكريم في حالة اختيار الزوج الطلاق بعد المرة الأولى أو الثانية، ولم يراجع زوجته حتى بانت منه، إلى المعاملة بالإحسان والإرفاق وهذا من بعض الآداب الشرعية المتعلقة بالطلاق، قال الله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}. فلا يصح للزوج أن يأخذ شيئًا مما آتاها من مال؛ لأن ذلك يكون مجافاة لا إحسانًا؛ ولأن ذلك يكون ظلمًا لا عدل فيه.
والمراد بقوله: {مما آتيتموهن} أي من المهور وتخصيصها بالذكر وإن شاركها في الحكم سائر أموالهن إما لرعاية العادة، وإما للتنبيه على أنه إذا لم يحل لهم أن يأخذوا مما أعطوهن في مقابلة البضع عند خروجه عن ملكهم فلأن لا يحل لهم أن يأخذوا مما لا تعلق له بالبضع أولى وأحرى[14]
لكن الشارع استثنى من الحكم السابق الذي هو النهي عن أخذ شيء مما أعطى زوجته من المهور وغيرها، حالة واحدة وهي حالة افتداء الزوجة من زوجها وهو ما يسمى بالخلع، قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وحدود الله هي حقوق النكاح، وحسن المعاشرة، وعدم النشوز، أو البغض، والإحصان، فإذا خاف الزوج أنه لن يقيم حدود الله، وعلم أن النشوز سيكون من قبله، وهو السبب، أو أنه سوف يعتدي عليها، ويسيء معاملتها فعندها يسرحها، ولا يأخذ شيئًا مما آتاها.
وإذا خافت الزوجة أنها لن تقيم حدود الله، وأن النشوز سوف يكون من قبلها، أو هي تبغضه، وهو يحبها، وهو قائم بحقوق الزوجية، ولكنها هي السبب، وأنها لا تستطيع إصلاح ذلك عندها تطلب الخلع.
حق المرأة في الخلع وبعض أحكامه
جاء ما يسوغ الأخذ من المال أو العطايا التي يعطيها الزوج لزوجته بعد الطلاق في حالة الخلع يقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
وتلك الحال التي يخافان ألا يقيما حدود الله، وواجباته، وحقوق كل منهما على صاحبه، تتحقق بسببين:
أحدهما: أن تكون المرأة ناشزا عاصية أو كارهة، كتلك المرأة التي ذهبت إلى رسول الله ﷺ تقول: “والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام؛ لا أطيقه بغضًا!” فقال لها النبي ﷺ: “أتردين عليه حديقته؟” – وهي المهر الذي أمهرها – قالت: نعم. فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد؛ ففرق رسول الله ﷺ بينهما بطريق الخلع، ويقال إنه كان أول خلع في الإسلام.
وأحيانًا تكون المرأة كارهة ولا تبدي بغضها بهذه الصراحة، ولكنها تثير الشغب في البيت لأتفه سبب، وتعصي زوجها، وتقوم بالكفر في الإسلام، ولا تتورع عنه، وهذا ما كرهت امرأة ثابت بن قيس التي جاءت الرواية بأمرها.
ثانيهما: أن يكون بالمرأة عيب مستحكم ولا يمكن معه القيام بالحقوق الزوجية، فإن أخذ المال في هذه الحال يكون سائغًا، وإن لم يكن نشوز ولا عصيان؛ ولذلك سوغ الحنابلة والمالكية أن يطلب الرجل من القاضي التفريق على أن يأخذ ما أعطى أو بعض ما أعطى، وإن لم يعتبر التفريق خلعًا[16]
وضمير الخطاب في قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ} موجه لجماعة المؤمنين وهذا أولى بالاعتبار، فإن على من يعرف ما بين الزوجين أن يتدخل بالنصح والإرشاد وبيان حكم الله، ولذلك كان الخطاب عاما لجماعة المؤمنين بقوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ونفي إثم الأخذ خاصًا بالزوجين، ولذا قال {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
حكم نكاح المبتوتة
المبتوتة هي المطلقة طلاقًا ثلاثًا، وقد جاء حكمها في الآية الكريمة:
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}.
حيث يجوز للمرأة المبتوتة أن تتزوج بزوج آخر بعد انتهاء العدة من الزوج الأول، وتحل للزوج الأول إن كان الزواج الثاني قائمًا على الرغبة والدوام والبقاء لا السفاح، وحدث طلاق من غير تواطؤ، وانقضت العدة بعد هذا الطلاق. ثم يرجعان بعقد جديد بعد انقضاء العدة ما داما يغلب على ظنهما أنهما سيقيمان حدود الله، ويؤدي كل واحد منهما ما يجب عليه نحو صاحبه بأمانة وإخلاص.
معاملة المطلقة ومنع الإضرار بها
قال الله تعالى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
قال ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: “كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك، يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج الطبري عن السدي قال: “نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، ثم طلقها مضارة، فأنزل الله: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}”.
والخطاب في الآية الأولى موجه للأزواج أنكم إذا طلقتم النساء، وقاربن إتمام العدة، فعليكم أحد أمرين: إما إمساك المرأة بالمعروف (أي بالمراجعة دون إيذاء)، أو إخلاء سبيلها بالمعروف (أي الخلو من إلحاق ضرر بها). وفسر بلوغ الأجل بقرب إتمام العدة، لأن العدة إذا انقضت لا تجوز مراجعتها، فهذا المعنى مضطر إليه، أما بلوغ الأجل في الآية التالية فهو الانتهاء، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية، مجاز في الأولى.
ثم أكد منع الضرر، فقال: “ولا تراجعوهن بقصد إلحاق الضرر بهن وإيذائهن بالحبس وتطويل العدة، حتى يضطرن إلى الفدية ودفع المال لكم، فهذا اعتداء عليهن”.
وقوله: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} وعيد شديد لمن يقدم على ما نهى الله عنه.
أي: ومن يراجع مطلقته بقصد الإضرار بها والاعتداء عليها فقد ظلم نفسه ظلمًا مؤكدًا، لأنه سيعرضها لعقاب الله وسخط الناس.
وجعل ظلمهم لنسائهم ظلمًا لأنفسهم، لأن عملهم هذا سيؤدي إلى اختلال المعاشرة الزوجية واضطرابها، وشيوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وبين أهلهما.
منع الأولياء من العضل
أكد القرآن الكريم على حسن معاملة المطلقة وعدم الإضرار بها، فكما نهى الأزواج عن الإضرار بالمطلقة إذا راجعها بقصد تطويل مدة العدة عليها، واعتبر ذلك من الظلم العظيم، كذلك منع أولياء المرأة بعد تمام طلاقها من الإضرار بها عن طريق منعها من الزواج بمن تريده وترغب فيه من الرجال، يقول الله تعالى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ}.
والمعنى: “وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي: انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين، وتقره العقول السليمة، ويجري به العرف الحسن”.
والخطاب هنا للأزواج وللأولياء ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة، وذلك لأن منع الزوجة من الزواج بعد انقضاء عدتها قد يكون من جانب الزوج السابق، لا سيما إذا كان صاحب جاه وسلطان وسطوة، فإنه يعز عليه أن يتزوج مطلقته أحد بعده فيمنعها من الزواج.
وقد يكون المنع من جانب الأولياء، وقد أورد المفسرون آثارا تشهد لذلك منها – كما يقول الآلوسي – ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود من طرق شتى عن معقل بن يسار قال: “كانت لي أخت فأتانى ابن عم لي فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب. فقلت له: أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله – تعالى – حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل هذه الآية. ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه”[16]