ودع الشاعر حافظ إبراهيم مسجد “آيا صوفيا” سنة 1934 حينما أعلنه كمال أتاتورك متحفا عالميا باقتراح من الأمريكي توماس ويتيمور الذي تعجب من سهولة المهمة، فكتب: “كانت آيا صوفيا مسجدا يوم حديثي معه، وحين زرتُ المسجد صبيحة اليوم التالي وجدتُ على بابه إعلانا بخط أتاتورك يقول: “المتحف مغلق للصيانة”.
كان حافظ إبراهيم في هذه القصيدة يتحدث بلسان الأمة المفجوعة في حضارتها، وكان يتحسر على ما آل إليه أمر تلك الأمة التي تغلق رموز دينها العمرانية معتبرا أنها لو كانت ما تزال موجودة لما حصل ذلك الأمر، ولذلك كان يوصي أيا صوفيا نفسها بأن تحفظ العهد، فليس -في نظره- في الحمى من سيحفظ العهد غير هي نفسها، فخاطبها:
أَيا صوفِيا حانَ التَفَرُّقُ فَاِذكُري
عُهودَ كِرامٍ فيكِ صَلّوا وَسَلَّموا
إِذا عُدتِ يَوماً لِلصَليبِ وَأَهلِهِ
وَحَلّى نَواحيكِ المَسيحُ وَمَريَمُ
وَدُقَّت نَواقيسٌ وَقامَ مُزَمِّرٌ
مِنَ الرومِ في مِحرابِهِ يَتَرَنَّمُ
فَلا تُنكِري عَهدَ المَآذِنِ إِنَّهُ
عَلى اللَهِ مِن عَهدِ النَواقيسِ أَكرَمُ
ليست “آيا صوفيا” مجرد مبنى عادٍ تداولته الدول والامبراطوريات، بل ظلت رمزا دينيا وحضاريا منذ الحكم البيزنطي إلى الحكم الإسلامي، فقد كانت قبل الفتح الإسلامي إحدى أكبر كنيستين تمثلان المسيحية في الأرض، وهما كنيسة “أيا صوفيا” في القسطنطينية وكنيسة المهد في بيت لحم، واللتان تعودان إلى عهد الإمبراطور “جستنيان” “527-565م”، وقد تأثرت جميعها بالفن البيزنطي.
وظلت “أيا صوفيا” تمثل في المخيال العالمي رمزا حضاريا، حرص القادة عبر التاريخ على الاهتمام به وترميمه وتزيينه من حين لآخر، لما اكتمل بنيانها في عهد جستنيان، سار بمفرده إلى المنبر ورفع يديه إلى السماء ونادى قائلاً: “المجد لله الذي رآني خليقًا بأن أتم هذا العمل! الجليل! أي سليمان! لقد انتصرت عليك!”، كان محمد الفاتح واعيا بتلك الرمزية الحضارية التي تتحلى بها كنيسة أيا صوفيا، ولذلك صلى فيها أول جمعة بعد الفتح، وأعلن تحويلها إلى مسجد، ونافس سليمان جده محمد الفاتح في تشييد سبعة مساجد تتفق مع جلاله وعظمته، وفاق أحدها، وهو الذي حمل اسمه كنيسة أيا صوفيا في جمالها، حتى في محاكاته إياها في مجموعة القباب الصغرى المحيطة بالقبة الرئيسية الوسطى.
ولم يخف الفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت مشاعره الجياشة تجاه تلك الكنيسة، فكتب عنها بانفعال عاطفي ظاهر في كتابه قصة الحضارة: “.. وكنيسة أيا صوفيا التي تجدد زينتها على الدوام، تتلألأ فيها الشموع والمصابيح، مثقلة بالبخور؛ رائعة المناظر المهيبة، تتردد في جنباتها الترانيم الرنانة التي لا تترك شكاً في النفوس”.
وقد كانت قضية تحويل المسلمين كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد أهم قضية استغلها نقولاس الخامس في رسائله التي كان يحرض فيها أوروبا المسيحية على استعادة القسطنطينية، يقول ويل ديورانت: “.. بأن الأتراك استولوا على القسطنطينية فوق خمسين ألفًا من جثث المدافعين عنها، وأنهم اتخذوا كنيسة أياً صوفياً مسجداً”، وأهاب بالدول الأوربية أن تضم صفوفها لتقوم بحملة صليبية “تستعيد بها حصن المسيحية الشرقية الحصين، وطالب بعشر إيراد أوربا الغربية بأجمعه ليمول به هذه الحملة، وتعهّد بأداء جميع إيرادات الأملاك البابوية، والحكومة البابوية، وغيرها من الموارد الكنسية؛ ثم طالب بوقف جميع الحروب المستعرة بين الأمم المسيحية، وإلا حرم القائمون بها من حظيرة الدين”.
ولا ريب أن الأمريكي توماس ويتيمور حين اقترح على أتاتورك تحويل مسجد أيا صوفيا إلى متحف بعد 480 سنة من رفع الأذان على منارته وصدحها بآي القرآن، لا ريب أنه كان يريد الانتقام من اللحظة التاريخية الأليمة على المسيحية حينما دكت سنابك خيول المسلمين القسطنطينية، وأعلنوا كنيسة أيا صوفيا مسجدا، وقد حصل له ما أراد في أسرع وقت.
إن أمارة عافية أي أمة هي اهتمامها بالرموز الثقافية والدينية والحضارية وحرصها على استعادة المسلوب منها، ذلك بأن هذه القضية الثقافية بمفهومها العام (الفكر-الدين-الأدب) هي جوهر الإنسان وحقيقته التي تجسد إنسانيته، وما وراء ذلك من عالم المادة يأخذ قيمته من خدمته لهذا العنصر الثقافي، والأمة التي تفرط فيها رموزها وتستهين بأهميتها هي أمة مدبرة، تولي ظهرها للمجد والتقدم والازدهار.
هناك كلمة بليغة أجاب بها تشرشل وزير الحربية الإنجليزية عندما طلب عقب إحدى المعارك الفاصلة تغطية عجز ميزانيته من ميزانية وزارة الثقافة، فغضب تشرشل ورد عليه: “إذا فقدنا الثقافة، لماذا نقاتل إذن!..”.
من المفرح جدا ما رأيناه من احتفاء المسلمين في العالم بقرار إلغاء المحكمة الإدارية التركية بإلغاء المرسوم الصادر 1934 بتحويل مسجد أيا صوفيا إلى متحف، وهو احتفاء يدل على أنه هذه الأمة ما تزال تنبض بالحياة، وأن قيمها الثقافية والدينية والحضارية ما تزال فعالة ونشطة رغم ما تمر به من أزمات، وما يعتريها من ضعف وتراجع على مستوى المسرح العالمي.
كما أن الذي يرى ردة فعل العالم المسيحي على قرار المحكمة التركية المتعلق بوضع أيا صوفيا يدرك مدى استحضاره لهذه الكنيسة الرمز، وأن القرار كان إيقاظا للذاكرة الصليبية التي ما تزال تحز فيها أحداث 857هـ حينما دخل اقتحم جيش المسلمين القسطنطينية بقيادم محمد الفاتح.
رحم الله الشاعر حافظ إبراهيم الذي ترك لنا قصيدته جذوة حية من أيا صوفيا، ظلت أجيالنا ترددها فتتحسر، وتنشدها فتشد عزيمتها لاستعادة ذلك المسجد الرمز، وستظل قصائده وقصائد غيره من شعراء الأمة تحدوها نحو استعادة أمجادها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وليت حافظ إبراهيم كان معنا هذه الأيام ليكتب قصيدة أخرى، وسيبدؤها لا محالة بالقول:
“أيا صوفيا” حان التعانق فاذكري
عهود رجال ما نَسَوْكِ وصَمَّمُوا