القرآن الكريم عجيب في نَظْمه وآياته وسوره، عجيب في معانيه وتوجيهاته ومقاصده. ومما يثير العجب تجاه الكتاب العزيز، قدرته على التعبير عن أعمق المعاني بأوجز العبارات وأوضحها؛ سواء أكان ذلك في سُوَرٍ قصار أو في آية واحدة من آياته.
فمن سُوره القصار، نرى مثلاً (سورة الإخلاص)؛ التي عبَّرت عن قضية التوحيد، وهي أساس الإسلام، على نحو موجز عجيب شامل.. وكذلك (سورة العصر)؛ التي أجملت قضية الخسران والنجاة، وحددت أبرز معالم الفوز؛ من الإيمان بالله، وعمل الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. حتى جاء عن الإمام الشافعي قوله: “لو تدبر الناس هذه السورة لَوَسِعَتْهُمْ”([1]). وقوله : “لو لم ينزل غير هذه السورة، لكفت الناس”([2]).
ومن الآيات الجامعات في القرآن الكريم، (آية الكرسي) التي تحدثت عما يجب لله تعالى من جلال وكمال. وقيل في فضلها إنها أعظم آية في القرآن، أو سيدة آي القرآن. قال ابن كثير: “هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، ولها شأن عظيم، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّه”ِ. ثم ذكر ابن كثير ما رواه أحمدُ بسنده عن أُبَيٍّ بْن كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلَهُ «أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فرددها مرارا، ثم قال: آيَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ»([3]).
وهذا الإيجاز- في السور، أو الآيات- إنه يدل على ما يتميز به القرآن الكريم من بيان معجز، ومن نَظْمٍ مدهش، ومن نفاذ عجيب إلى جليل المعاني، وجامع الإيضاح.
وعلى ذات النسق يمكن أن نلاحظ آية ختام سورة الكهف؛ تلك السورة العجيبة أيضًا في مجملها وفي تناولها.. حتى استحقت أن تكون زادًا إيمانيًّا وتربويًّا للمسلم، كل أسبوع. فعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ»([4]).
وأما الآية الكريمة فهي قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف: 110).
فقد أوضحت الآية الكريم حقائق الإسلام الأساسية بإيجاز شديد، وبتعبير دقيق.. فهي قد بيّنت حقيقة الرسول: فهو بَشرٌ يُوحَى إليه. وحقيقة الرسالة: وهي عبادةُ إلهٍ واحد. وحقيقة المرسِل: أنه سبحانه إلهٌ واحد. وحقيقة ما بعد الموت: فهناك لقاء مع الله، وعلينا أن نستعد له. وكيفية الاستعداد: ويكون بالعمل الصالح، وعدم الإشراك بالله.
حقيقة الرسول
إن الرسول ﷺ هو المبلِّغ عن الله سبحانه، وهو من يعرِّفنا بأوامره ونواهيه. والتعرفُ على حقيقة الرسول ربما يكون أسبق في التعرف على حقيقة الرسالة نفسها؛ إذ مِن حالِ الرسول أولاً نستدل على ما يخص رسالته من صدق أو غيره. ولهذا اتصفت الرسل بالأخلاق الزاكية الحميدة بين أقوامهم، قبل الرسالة.. فإن الله تعالى لا يختار لرسالته آحاد الناس، وإنما يصطفى لها ما يستحق أن يكون أهلاً لحملها: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج: 75).
وأما حقيقة الرسول ﷺ، فقد أوجزتها الآية الكريمة في صفتين: أنه بشر، وأنه رسول. فكونه ﷺ بشرًا ينفي عنه ما يذهب إليه البعض من المغالاة، بدعوى الحب والتقدير. عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ» (صحيح البخاري).
وأما كونه ﷺ رسولاً؛ فالآية تثبت أنه مبلِّغ عن الله تعالى، وترد على مشركي مكة وغيرهم ممن تشككوا في نبوته ﷺ. قال تعالى مفنِّدًا حججهم في ذلك: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (العنكبوت: 48- 50).
وهاتان الصفتان- البشرية والرسولية- تتكاملان وتشكِّلان حقيقة النبي ﷺ؛ فيكون محلاًّ للقدوة والاتباع؛ إذ لو كان مَلَكًا لقال البعض: كيف لنا أن نتبع مَلَكًا ذا قدرات فائقة، في التعبد والاحتمال، لا قِبَل لنا بها..! فجاءت “البشرية” لتقطع الطريق على مثل ذلك.. كما أن “الرسولية” تجعل طاعتنا للنبي ﷺ إنما هي طاعة لله تعالى الذي أرسله وكلَّفه حمل الرسالة: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80).
حقيقة الرسالة والمرسِل
وأما حقيقة الرسالة- كما هو مُتضمَّن في الآية الكريمة: فهي عبادةُ إلهٍ واحد. وحقيقة المرسِل: أنه سبحانه إلهٌ واحد.
إن “العبادة” هي الغاية التي من أجلها خلقنا الله تعالى وأوجدنا من عدم وتفضل علينا بنعمه التي لا تحصى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56). والعبادة حق الله تعالى على العبادة، وواجبهم نحوه سبحانه.
وأما توحيد الله تعالى، والاعتقاد بأنه سبحانه واحد لا شريك له ولا ميثل؛ فهو أساس الإسلام وجوهره ولبه. وبهذا التوحيد افترق الإسلام عن الملل والمذاهب التي أشركت مع الله غيره، من الجماد أو من الخَلق؛ فلبَّست على العقول، وشوَّهت الفطرة، وتقوَّلت على الله الكذب: {وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} (الجن: 3).
فالتوحيد هو محور الارتكاز في عقيدة الإسلام، وهو الأساس المتين الذي يقوم عليه هذا البناء المعرفي والإيماني لشريعة الإسلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه:13، 14).
حقيقة ما بعد الموت والاستعداد له
كما أشارت الآية إلى حقيقة ما بعد الموت: فهناك لقاء مع الله، وعلينا أن نستعد له. وإلى حقيقة الاستعداد: ويكون بالعمل الصالح، وعدم الإشراك بالله.
إن الإيمان بلقاء الله تعالى ركن ركين له أثره العظيم في حياة المسلم؛ والإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان. ولنا أن نتصور كيف تكون الدنيا لو لم تكن ثمة آخرة، يجازَى الناس فيها على أعمالهم، ويحاسَبون بالنعيم المقيم أو العذاب الأليم..!! هل يكون ثمة رادع يمنع الظالم من ظلمه، والمعتدي من اعتدائه؛ كما يصبِّر المظلومَ على ما ابتُلي به، والمؤمنَ على ما يعانيه في الحياة..!
أما وقد أيقنا بلقاء الله تعالى بعد الموت، وعلمنا أن الدار الآخرة تنتظرنا للحساب والجزاء؛ فيبقى إذن أن نستعد لذلك، وهو ما بيَّتنه الآية الكريم بقولها: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110).
إنه العمل الصالح… وعدم الإشراك بالله.. وكفى بذلك زادًا، وأيّ زاد..!
و”العمل الصالح” مفهوم يتسع لنشاط المسلم على مدار اليوم والليلة؛ بحيث إن أي عمل يؤديه المسلم يبتغي به وجه الله تعالى، ويلتمس فيه منفعة لدنياه أو أخراه؛ إنما يكون عملاً صالحًا يثاب عليه.
والشرك المقصود في الآية: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، هو الرياء. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: إِنَّهُ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا([5]).
وقال ابن كثير عند تفسير الآية: “وَهَذَانَ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صوابُا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”([6]).
إذن، هذه معالم النجاة كما بيَّنتها الآية الكريمة في ختام سورة الكهف.. التي جاءت على هذا النحو الجامع العجيب..!