حالة من الذهول تصيب اليوم كل من يستعرض حال جيلنا الناشئ وموقعه في سلم الأولويات والاهتمامات .
ذهول مرده إلى مخلفات النزعة الاستهلاكية البغيضة وما أفضت إليه من تراجع لمفعول القيم في نفوس الناشئة، وتماد في تقدير الذات وتمجيد الأنانية والفردية إلى الحد الذي ارتخت معه الأواصر و الروابط الاجتماعية.
ذهول مرده إلى التحلل المفرط من كل الثوابت الدينية والأخلاقية، مقابل الولاء التام لحريات اختلط فيها الحابل بالنابل، واتسع الخرق على الراتق، ولم يعد للفضيلة في ناموسها موطئ قدم.
ذهول مرده إلى التواطؤ غير المعلن بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بدءا بالأسرة ووصولا إلى مراكز القرار السياسي، لتخريج أجيال مفرغة من كل هم أو همة، ديدنها الاغتراف من مباهج الحياة ولو استدعى الأمر إشعال الحرائق في أرجاء البلد!
أغلب الأسر المسلمة اليوم تعامل الطفل وتحاكمه وفق القواعد التي تلقتها في طفولتها هي، دون تمييز بين قاعدة مبنية على قيم دينية واجتماعية ثابتة
في هذا الخضم المهول من تجليات التربية الخاطئة والانفلات الإعلامي والانخداع المتزايد بالسعادة المتوهمة في الإشباع والابتلاع، يُطرح السؤال المقلق والمؤرق: كيف نسترد أبناءنا ونحررهم من قبضة الهدم والتخريب الممعن دون هوادة في بنائنا القيمي والسلوكي، بل والحضاري برمته ؟!
يتطلب الأمر بداية تجديد النظر في الطفولة و الطفل بما يتناسب مع متطلبات العصر. إذ إن أغلب الأسر المسلمة اليوم تعامل الطفل وتحاكمه وفق القواعد التي تلقتها في طفولتها هي، دون تمييز بين قاعدة مبنية على قيم دينية واجتماعية ثابتة، وأخرى مبنية على عادات متغيرة بتغير الزمان.
هنا يتضح سر التمرد الذي لا يكف الأطفال عن إبدائه حين يتعارض الضبط الأسري مع مواقف تفرضها الحياة المعاصرة. إن بعض الأسر تعتبر الطفل فرصة لتعويض الإخفاق الذي مني به أحد الأبوين أو كلاهما في مساره الشخصي، فيبذلان جهدا، سلبيا أحيانا، حتى يخطو الطفل بدقة في المسار المحدد له سلفا، بدل العناية بملكاته وتنميتها على نحو سليم.
ولنقرب المسألة بمثال مما يجري اليوم داخل أغلب الأسر :
إن كل والد وكل أم، تقول الباحثة شيلي هيرولد، يرغبان أن يكون ابنهما متكامل السمات، وجميلا، ومحبوبا، وموهوبا دراسيا وجذابا. أي ببساطة “مثاليا” على الرغم من أن المثالية هي شيء لا يمكن بلوغه في الواقع. غير أن الاحتفاء الإعلامي المبالغ فيه أحيانا ببعض المتفوقين دراسيا و الموهوبين في مجال تعليمي معين يعزز هذا الوهم، ويقنع الآباء بأن تحقق المثالية أمر ممكن إذا اتبعوا مسارات محددة بدقة وصرامة، واستجابوا دون روية للتكلفة الباهظة التي يستلزمها المخطط الدراسي.
حادت التربية والتعليم عن مقصدهما الإنساني ليتم اختزالهما في مسعى وحيد هو وضع الطفل في “أنبوبة اختبار” للكشف عن استعداداته “الخارقة” ونبوغه غير الاعتيادي. فإن لم يتبين شيء من ذلك جرت عملية حقنه بمصل الذكاء “المعلب” و النبوغ القسري ليتحقق الرضى الأسري !
الملفت في الأمر كذلك أن المعطى التربوي يطرح أزيد من ثماني طرق مختلفة يكشف من خلالها الطفل عن ذكائه ومواهبه الخاصة. فهوارد غاردنر يثير انتباهنا في “نظرية الذكاءات المتعددة” إلى أن الطفل يمكن أن يكون موهوبا في التواصل مع الذات والأشخاص أو مع الطبيعة ومفرداتها، وقد يكون ذكاؤه موسيقيا أو لغويا أو جسديا أو رياضيا، إلى غير ذلك من تجليات الموهبة الخاصة. لكن الأسر المسلمة لا تؤمن بغير الذكاء المتمثل في التفوق الدراسي و”حصد” الشواهد والتقديرات. فنتج عن السباق الهائل إلى جعل كل أطفالنا موهوبين وأذكياء اهتزاز بنيان العملية التعليمة، بل وتحللت أسر عديدة من كل القيم الأخلاقية في سبيل تحقيق ذاك المبتغى، وأصبحت المدرسة فضاء لشراء الذمم و المتاجرة بشواهد غير مستحقة، ومعدلات تحصيل تنكشف سوأتها في أول منعطف !
الأسر المسلمة لا تؤمن بغير الذكاء المتمثل في التفوق الدراسي و”حصد” الشواهد والتقديرات
عاين كاتب هذه الأسطر مواقف مؤلمة لآباء يدفعون أموالا طائلة لقاء الحصول على شهادة غير مستحقة، وآخرين يتجولون في ردهات المدارس الخاصة بحثا عمن يمنح ابنهم الراسب معدلا دراسيا بميزة جيدة كي يلج المعهد الفلاني، أو يغذي سجله الوظيفي سعيا وراء ترقية غير مستحقة أو منصب. أما من يشكو ضيق ذات اليد فيدرب الابن أو البنت على سبل الغش الملتوية لتحقيق الهدف، فإن ذكرته بالقيم الناظمة لسلوكنا الاجتماعي ثارت ثائرته، وأرغى وأزبد محتجا بأن الواقع يفرض ذلك !
أمام هذه التوليفة الغريبة من السلوكيات، و التبريرات الأقبح من الزلات ينكشف أمامنا تخريب فظيع للمستقبل سعيا وراء حاضر بهيج، فهل آن الأوان لاسترداد أبنائنا من قبضة أنانيتنا المفرطة أم طاب لنا السير الحثيث نحو المنحدر ؟
أما قصة العنف في البيت و المدرسة و الشارع فتحيلنا على ملمح آخر من ملامح الأزمة التربوية المستشرية. بعض الأسر التي ترجح خيار التسلط في الرقابة على سلوك الأبناء تغذي اختلالات لاحقة تؤسس للعنف، لكن حتى تلك التي تتبنى معايير تربوية أكثر حداثة تسهم في تغذية السلوك العدواني، إما بالتدليل المفرط أو بالسماح لمتدخلين آخرين بتشكيل القناعات والتعويض عن ساعات طوال من الانشغال عنهم. ولعل الكثيرين سيوافقونني الرأي بأن الإعلام أحد أخطر المتدخلين وأشدهم ضراوة في العبث بمقومات البيت السليم !
ارتفعت وتيرة العنف في برامج الأطفال على نحو غير مسبوق، فازداد ولع الصغار بالقصص البوليسية ومشاهد الصدام والاعتداء اللفظي والبدني
في زمن الوفرة و السرعة قلما تتاح للمرء فرصة التفكير النقدي في مكانة الإعلام، وأدواره وتأثيراته غير المرغوبة على الفكر والسلوك داخل المنظومة الأسرية. ترسخت في وعينا مقولة أن مشاهدة التلفزيون “تسلية”،فلم نلق بالا للتعديلات الخطيرة التي مست فحواه حتى صحونا يوما على عادات وسلوكيات غير معهودة لجيل يستحق عن جدارة لقب “جيل التلفزيون “. جيل عدواني عنيف، متبلد الحس لا يرى في الحياة اليومية غير شاشة رحبة، تتيح له المحاكاة المطلقة لما تابعه على الشاشة الصغرى!
إن صيحات الإنذار بشأن الإدمان على التلفزيون دُقت منذ عقود، لكن يبدو أننا لا نتحرك إلا حين تتخذ المشكلة حجم الكارثة ! واليوم لا يخفي الآباء عجزهم عن إيجاد بدائل تخفف من الولع المتزايد بما تطرحه تكنولوجيا الاتصال من مواد تفاعلية امتدت سيطرتها إلى الفضاء الثقافي والاجتماعي برمته. ومما ضاعف من حدة المشكلة ذوبان الإعلام في الإعلان، وهيمنة البعد التسويقي والتجاري على برامج الأطفال التي ظلت،حتى الأمس القريب، تدعم مسار تنشئة الطفل، وتحقق المتعة والتسلية. فلا يخفى على أحد اليوم كيف تحولت شخصيات الرسوم المتحركة إلى علامات تجارية، تستنفر رغبة الأطفال ومعها جيوب الآباء لابتلاع المزيد من اللعب والملابس والأدوات المدرسية، في سعي حثيث لخلق “المستهلك الصغير”، الذي يبدأ رحلة الشقاء مبكرا !
ارتفعت وتيرة العنف في برامج الأطفال على نحو غير مسبوق، فازداد ولع الصغار بالقصص البوليسية ومشاهد الصدام و الاعتداء اللفظي والبدني، كما برزت في الآونة الأخيرة أعمال سينمائية ضخمة تستغل الخبرة الحياتية المحدودة للطفل كي تلغي كل حاجز بين الخيال والواقع، وتُكسب المشاهد الصغير أنماطا سلوكية تتسم بالخداع و التضليل، و التماهي مع بعض الأساليب الإجرامية المطروحة في ثوب “بريء”. في دراسة قدمها الباحث محمود شمال حسن لكلية الآداب بالجامعة المستنصرية بالعراق تحت عنوان ” الآثار النفسية المترتبة على مشاهدة الأطفال للقنوات الفضائية “، يخلص الباحث إلى أن الوقائع الميدانية أثبتت أن تعرض الطفل بشكل مستمر للبرامج التي تنطوي على الجريمة و القتال يؤدي إلى زيادة مشاعره العدوانية، ويقلل من حساسيته الإنسانية وعدم اكتراثه بآلام الآخرين. كما أن ضعف قدرته على التمييز بين العالم الواقعي الذي يعيش في كنفه، و العالم الخيالي الدرامي يعزز من يقينه بصحة هذه الوقائع، وبأن الخديعة والترهيب والعنف والإكراه هي مقتضيات ضرورية في عالم تسوده القوة. (الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم .ص 206).
فهل يعي الآباء خطورة الاستسلام لقبضة الإعلام، ويكثفوا من مبادرات المساءلة الاجتماعية للخطاب الإعلامي على نحو ضاغط، أم سيتطلب الأمر مزيدا من الضحايا قبل أن ننتبه ؟