قال تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤ بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 61]

طعام واحد:

المقصود بالطعام الواحد هو المنّ والسلوى (انظر الآية 57 من السورة نفسها)، والسلوى لحم طائر، والمنّ ضرب من الحلوى.

والمعنى: أتأخذون الذي هو أدنى، وتتركون الذي هو خير؟! فالباء تلحق المتروك، وإذا لم يعرف الكاتب أو القارئ هذه القاعدة، فإن المعنى ينقلب. والاستفهام في الآية يُقصد به الإنكار عليهم والتعجب منهم، أي هو استفهام إنكاري. 

وقوله: (خير) فيه اختلاف بين المفسرين: هل هو خير في الحلِّ، أم في الامتثال، أم في النفع، أم في اللذة، أم في القيمة، أم في الكلفة، أم في التأكد؟ (تفسير أبي حيان 1/377).

فالمنّ والسلوى طعام مَنَّ الله به عليهم، وأمرهم بأكله”، أو أن: “ما منَّ الله به عليهم أطيب وألذ”، أو أن: “ما نزل عليهم لا مِرية في حلـّه (…)، والحبوب والأرض تتخللها البيوع والغُصوب، وتدخلها الشبه (الشبهات)” (تفسير القرطبي 1/428).

قال الطبري 1/312: “أتأخذون الذي هو أخسّ خطرًا (الخطر هنا بمعنى القيمة، وليس بمعنى المخاطرة) وقيمة وقدرًا من العيش، بدلاً من الذي هو خير منه خطرًا وقيمة وقدرًا؟! (…). ولا شك أن من استبدل بالمنّ والسلوى: البقل والقثاء والفوم(الثوم) والعدس والبصل، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه”.

وقال الرازي 3/100: “المراد (…) أن المنّ والسلوى متيقن الحصول، وما يطلبونه مشكوك الحصول، والمتيقن خير من المشكوك، أو لأن هذا يحصل من غير كدٍ ولا تعب، وذلك لا يحصل إلا مع الكدّ والتعب، فيكون الأول أولى”، وقال: “الحاضر المتيقن راجح على الغائب المشكوك”.

بين الموارد الطبيعية والاقتصادية

المنّ والسلوى من قبيل الموارد الطبيعية، والبقل وغيره مما ورد ذكره هو من قبيل الموارد الاقتصادية. والموارد الطبيعية هي التي تكون هبة طبيعية من الخالق عز وجل، أي ليس فيها عمل إنساني ولا كلفة إنتاج، بخلاف الموارد الاقتصادية التي ينتجها الإنسان بسعيه واكتسابه، مع استفادته في إنتاجها من الموارد الطبيعية.

وقال القرطبي 1/428: “ما أُعطوا (من المنّ والسلوى) لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه (من البقل والقثاء وغيره) لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب”.

قال الزجاج: “تفاضل الأشياء بالقيم، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة، والمنّ والسلوى هما أعلى قيمة، وأعظم خطرًا” (تفسير أبي حيان 1/377). واختار هذا الزمخشري 1/285، وقال عن هذه البقول بأنها: “أقرب منزلة وأهون مقدارًا”.

الرشد وتعظيم المنافع

لقد وبّخهم الله سبحانه وتعالى على سوء اختيارهم، وعدم رشدهم، أو قلة رشدهم (تفسير ابن عاشور 1/523).

وبهذا تجد أن هذه الآية أصل شرعي لمبدأ اقتصادي وإداري يقوم على الرشد وتعظيم المنافع. ففي هذه الآية أمران اقتصاديان:

الأمر الأول: يتعلق بالموارد الحرة والموارد الاقتصادية.

الأمر الثاني: يتعلق بالرشاد (لأنه هنا يتعلق بالعمل) كما في قوله تعالى: (سبيل الرشاد) [غافر: 29 و38].

فإذا اجتمع أمران، أحدهما نافع والآخر أنفع  (خير) منه، فيجب اختيار الأنفع، إذا لم يمكن الجمع بينهما، وإلا لم يكن الإنسان رشيدًا، أو كان قليل الرشد. ولهذا يجب اختيار أنفع المنفعتين، إذا تعارضتا ولم يمكن الجمع بينهما، واختيار أهون الشرين، إذا لم يمكن اجتنابهما معًا، (قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1/9 و40 و87 و91 و109 و130 و136 و2/158). وهذا ما يعرف بمبدأ تعظيم المنافع، أي البحث عن أعظم منفعة، بافتراض بقاء الأشياء الأخرى على حالها، أي إذا استوى خياران في كل شيء إلا المنفعة، تم الأخذ بالخيار ذي المنفعة العظمى.

يقول ابن تيمية: إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال (بارتكاب) أدناهما (فتاوى ابن تيمية 2/48 و28/284).

ألم يطلب منا سبحانه وتعالى أن نقول وأن نفعل الأحسن، ولم يكتف منا بالحسن فقط؟ قال تعالى: ﴿‌وَقُلْ ‌لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، ﴿الَّذِينَ ‌يَسْتَمِعُونَ ‌الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18]، ﴿‌وَأْمُرْ ‌قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ [الأعراف: 145]، ﴿‌وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].

إن تعهظيم المنافع هو أهم ما يعنى به علم الاقتصاد، والقرآن لا يتعارض معه في هذا الباب، بل يؤيده، على ألا تكون هذه المنافع دنيوية فحسب، بل دينية أيضا، ولا خاصة فحسب، بل عامة كذلك، ولا قصيرة الأجل فقط، بل طويلة أيضا، ولا هي من وضع البشر وحدهم، بل هي بمعونة الله ورسوله، أو بكلمة مختصرة أن تكون هذه المنافع الدنيوية، والخاصة مؤيدة بالدين ومقيدة به.

فإذا كانت هناك منفعتان دنيويتان لا يمكن الجمع بينهما، وكانت إحداهما أنفع من الأخرى أخذنا بالأنفع، وكذلك إذا كانت هناك منفعتان أخرويتان أو منفعتان عامتان أو قصيرتان أو طويلتان.. إلخ، كل ذلك بشرط أن تستوي الأمور الأخرى، لكن إذا كانت هناك منفعتان متعارضتان إحداهما عامة والأخرى خاصة، قدمت العامة على الخاصة، أو منفعتان إحداهما أخروية واتلأخرى دنيوية، قدمت الأخروية، أو منفعتان إحداهما متعدية والأخرى قاصرة، قدمت المتعدية.

 قال تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152، والإسراء: 34].

قال الماوردي: أموال اليتامى يجب أن تكون محفوظة الأصل، موفورة النماء (الحاوي: 9/445)، أي أن يكون نماؤها موفورا أعظم ما يكون.

وقال الرازي: يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة (تفسير الرازي 13/234).

وهو مصطلح فقهي بمعنى: المنفعة القصوى.

وفهم الفقهاء من هذه الآية وجوب ترتيب الولاية على مال القاصر ترتيبا يقصد منه تعظيم مصالح القاصر، فالأب أولى بالولاية من غيره، قالوا: لحرصه على مصالح ابنه، ووفور شفقته عليه، واهتمامه بجلب أعظم ما يمكن المصالح له، ودرء أقصى ما يمكن من المفاسد عنه. كما فهم الفقهاء من هذه الآية أيضا وجوب الحرص على منافع اليتيم، بالسعي إلى أعظم ثمن ممكن إذا بيع ماله مثلا.