كان الاعتقاد السائد أن تزايد العلم يقتطع من قماشة الجهل في الكون، وأن أنوار المعارف تبدد ظلمات الجهل، غير أن هذا الاعتقاد تحطم مع تزايد الاكتشافات العلمية خاصة في مجال تفسير نشأة الكون والحياة، إذ أن اتساع المعرفة والعلوم أوجد إحساسا كبيرا بالمجهول، وخلق شعورا بغياب المعنى في ظل استبعاد الدين، وعندها أدرك عدد من العلماء حاجتهم إلى اليقين في ظل ضخامة المجهول، لذا فمنذ منتصف القرن العشرين فكر العلماء في حاجة العلم والمجتمعات إلى الدين، وبدأت حركة بحث دءوبة تتبع حضور الدين المتواري في العلوم بعد ما يقرب من القرنين من الاستبعاد في فلسفة ومناهج وأدوات العلوم الطبيعية والإنسانية.
لكن أين يحضر الدين في المجال العلمي؟ الواقع أن حضور الرؤى الدينية في المجال العلمي ليس تحديدا لأنواع الأمراض أو طبقات الأرض أو التفاعلات الكيماوية، ولكنه حضور رؤية فوقية وفلسفية تربط العلم بالكون وتحدد مجالات وقواعد استخدام العلم ومنجزاته،وفي العدد الثالث من مجلة “نماء” النصف سنوية التي تُعني بالوحي وعلومه، نقاش واسع حول “أثر الرؤى الدينية في العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية” يمتد على أكثر من (120) صفحة من صفحات المجلة الـ(330).
فمع منتصف القرن العشرين نشطت في الأوساط المسيحية الغربية حركة للتوفيق بين العلم والدين بعد ادارك المفكرين الخواء الروحي في مجتمعاتهم في ظل معاندة الدين، كما كان للاكتشافات العلمية الكبرى أثرها في تطبيع العلاقة بين الدين والعلم ومنها نظرية الانفجار العظيم التي تفسر نشأة الكون والتي تطرح أسئلة كبرى حول الخالق سبحانه وتعالى، ومن هنا جاء ملف “نماء” ليكشف حقيقة الارتباط العميق بين الدين والعلم في الغرب، وليبدد الاعتقاد الخاطئ خاصة في المجال العربي والإسلامي بأن العلم في الغرب منفصل عن الدين، وأن الخطاب العلمي خطاب عقلاني منهجي، أما الخطاب الديني فهو خطاب بعيد عن العقلانية والمنهجية.
الملف يحفر معرفيا للوصول إلى حقيقة هذا الارتباط، ويؤكد أن من أهم عوامل إعادة طرح موضوع الدين هو قضية صعود الإسلام وانتشار الأقليات المسلمة في الغرب، كذلك بروز الكنائس الإنجيلية والبروتستانتية وحيويتها خاصة في المجتمع الأمريكي، إضافة إلى حدوث تطورات أعادت طرح سؤال علاقة الدين بالعلم، ومنها أن العلماء وقفوا على أوجه قصور كثيرة في النظريات العلمية التي نُظر إليها لفترة أنها نظريات قاطعة ومُنهية لموضوع الدين، منها نظرية التطور لداروين، كذلك التطورات الهائلة في مجال علم الفيزياء خاصة ما يتعلق بفيزياء نشأة الكون.
تسلل الدين
الغرب عندما تمرد على الكنيسة في بداية عصر التنوير لجأ إلى التجربة كمنهج وفلسفة بديلا عن الرؤى الكنسية، لكن يلاحظ أن المنهج التجريبي لم يكن وليد العلم الحديث، فقد عرف المنهج التجريبي تطورا كبيرا في المرحلة العربية الإسلامية، كما كانت التجارب العلمية حاضرة في العهد اليوناني.
النهضة العلمية الغربية لم تسجل أي إصلاح ملموس في المجال الديني، وذلك لتعذر ذلك المجال نظرا لتعدد الأناجيل والإصحاحات والتشريعات، إلا أنه حدث تقدم علمي بشكل يومي لم يقابله تقدم ديني مواز، أي أن الفعالية الدنيوية قابلها جمود ديني، ورغم ذلك لم يحدث قطيعة تامة بين الدين والعلم، ولكن ما حدث لم يكن زوالا للدين ولا حتى لتأثيره في الحياة، بل تعلق الأمر بتراجع ظاهري للدين تمثل في مؤسساته وتشريعاته وخاصة سلطته المباشرة، حيث تسرب الدين في المجال الاجتماعي وتوارى هناك، وما يؤكد ذلك دراسة ماكس فيبر الشهيرة “الروح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية” التي صدرت في بداية القرن العشرين، وكشف فيها عن تسرب المفهوم الديني إلى المجال الدنيوي، فتسرب مفهوم “الواجب” من الحقل الديني إلى الدنيوي وأحدث تأثيرا كبيرا في حياة الناس اليومية، وهو ما حقق فعالية في المجال الدنيوي.
الدين كان حاضرا حتى في مجال النقد الأدبي الغربي الذي يستمد أصوله وجذوره الفكرية من المركزية الحضارية الغربية بكل نظرتها الاستعلائية للعالم، لذل نجد فيلسوفا كـ”هيجل” يضع المسيحية في قمة الأديان، وهي رؤية تتقاطع مع الرؤى الكنسية، بل إن الشاعر “إليوت” كتب مقالة عام 1935 حملت عنوان “الأدب والدين” رأى فيها أن النقد الأدبي يجب أن يكون نابعا من منطلق أخلاقي ولاهوتي، لذا كان “إليوت” متعاطفا مع الإنسان المعاصر، وليد النظم العلمانية التي أقصت الدين عن الحياة والتفكير، ورأى أن الحل يكمن في العودة إلى الدين لإنقاذ الإنسان من أزمته النفسية والوجودية، كذلك وُجد توظيف للتراث المسيحي وسرديات العهد القديم في الأعمال الأدبية والرؤى النقدية، فحضر الدين في الذهنية الإبداعية الغربية بوصفه مكونا أساسيا .
كما حضرت الرؤى الدينية المسيحية بصورة لافتة في النظريات الإعلامية الحديثة سواء على المستوى المعرفي أو في الممارسات البحثية، وتشير المجلة أن الرؤية التثليثية حاضرة في نظرية الاتصال (مرسل- رسالة- مستقبل) وتم إغفال التعقيد في العملية الاتصالية، بل إن نشأة الفكر الاتصالي الحديث في أوروبا وأمريكا تأثر بشكل كبير بالرؤى الدينية المسيحية، كما أن ملامح الفكر الاتصالي في كل بلد تأثر تبعا للكنيسة المهيمنة .
عقلانية الإيمان
في التجربة الغربية تم تأسيس العلوم الخاصة بالإنسان على منوال العلوم الطبيعية، ظنا منهم أن سيرهم على نفس منهج العلوم الطبيعية سيصل بهم إلى نتائج مبهرة على غرار العلوم الطبيعية، لكن بعد فترة أدرك العلماء الاختلاف الكبير بين عالمي الطبيعة والإنسان، وأن لكل منهما منهجه الخاص، ورغم ذلك كان الموقف متشابه من الدين بين علماء الطبيعة والإنسان، فمثلا أحد كبار علماء الاجتماع وهو “إميل دوركايم” دعا لدراسة المجتمعات باعتبارها “شيئا”، ورأى أن الدين ظاهرة بشرية يمكن تجاوزها، لكن علماء آخرون مثل “وليام جيمس” الملقب بـ”أبو علم النفس الأمريكي”وهو أحد المفكرين الرواد في نهاية القرن التاسع عشر، كتب عام (1897م) يدافع عن عقلانية الإيمان الديني.
وقد ظل الدين حاضرا بقوة في مجال الفلسفة الغربية، وهنا يبرز الفيلسوف الشهير”إيمانويل كانط” الذي كان يأمل في ضبط العلاقة بين العلم والدين داعيا إلى الاعتراف بهما معا، ومن الطريف أنه أوصى أن يكتب على قبره عبارة :” أمران يملأن قلبي بالإعجاب المتزايد والإجلال: السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي”، ومن ثم فالدين حاضر بشكل بارز في المعرفة العلمية الغربية.