في هذه المقالة ( أثر القرآن الكريم في تطور النقد العربي القديم ) سنستعرض كيف أثرت النصوص القرآنية في تطور النقد العربي القديم، مستعرضين جوانب التأثير المختلفة التي أسهمت في بلورة النظرية النقدية العربية. سنركز على كيفية استلهام النقاد لمفاهيم بلاغية جديدة، وتطوير معايير نقدية جديدة، وكيف أن القرآن الكريم لم يكن فقط نصاً دينياً، بل أيضاً مرجعاً أدبياً ساهم في تشكيل النقد الأدبي في العصر الجاهلي والإسلامي وما تلاه.
المقدمة
تعد اللغة العربية من أغنى اللغات الأدبية في العالم، وقد شهدت تطوراً ملحوظاً لافتاً على مر العصور في مختلف مجالات الأدب والنقد بفضل تأثيرات متعددة أسهمت في تشكيل مفاهيمها النقدية. من بين هذه التأثيرات، يُعتبر القرآن الكريم حجر الزاوية في تطور النقد العربي القديم. فقد جاء القرآن ليشكل ثورة لغوية وأدبية كان لها بالغ الأثر في تحديد معايير البلاغة والنقد الأدبي. أساليب القرآن الفريدة في التعبير والتأثير، ومحتواه الغني بالقصص والأمثال والحكم، لم تسهم فقط في تعزيز مفاهيم البلاغة، بل أضافت بعداً جديداً لفهم الأدب والنقد في العصر الإسلامي وما بعده.
كان القرآن الكريم بمثابة نموذج مثالي للغة العربية، حيث تجسدت فيه أسمى أشكال البلاغة والنصوص الأدبية، مما دفع النقاد والكتاب إلى إعادة النظر في معاييرهم ومفاهيمهم الأدبية. وقد تجلى تأثير القرآن في النقد الأدبي القديم من خلال عدة جوانب، منها تطور الأساليب البلاغية واللغوية، وتطوير مفاهيم جديدة حول الشعر والنثر، والتأويل والتفسير، مما شكل الأسس النقدية التي استند إليها الأدباء والنقاد في تقويم النصوص الأدبية.
في ظل ما تحمله النصوص القرآنية من تنوع لغوي وبلاغي، تطورت معايير النقد الأدبي ليشمل تقييم الأساليب البلاغية والنحوية، وإدراك أهمية تأويل النصوص وتحليلها. من خلال استكشاف تأثير القرآن الكريم، يمكننا فهم كيفية تأثيره في تشكيل معايير النقد الأدبي وطرق تقويم النصوص في العصور الإسلامية المبكرة، وكيف ساعد في تعزيز الأدب العربي وتطويره.
وهذه المقالة ( أثر القرآن الكريم في تطور النقد العربي القديم ) ستناقش أثر القرآن الكريم في تطوير النقد العربي القديم، مستعرضة تأثيره على مختلف جوانب البلاغة والتفسير، وتقديم رؤى حول كيف ساهمت النصوص القرآنية في بناء أسس النقد الأدبي العربي.
مفهوم النقد
ونتعرف على تعربف النقد من خلال مفهوم النقد في اللغة وفي الاصطلاح.
النقد في اللغة
يقول ابن فارس في تعريفه للنقد: النون والقاف والدال أصل صحيح، يدل إبراز الشيء وبروزه[1]، وجاء في لسان العرب: هو نقد الدراهم، وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك، ونقد الدراهم: أي إخراج المزيف منها[2].
جاء في المعاجم العربية أن لفظة “نقد” تعني تمييز الدراهم والدنانير وإخراج الزائف منها. وقد استعمل هذا اللفظ قديما ليدل على هذا المعنى.
فنقدت الدراهم والدنانير وانتقدتها إذا أخرجت الزائف منها، والنقد والتنقاد بنفس المعنى، وقد ورد في المعاجم أيضا نقد الشعر والكلام أي نظر فيه وميّز الجيد من الرديء، فهو ناقد وجمعه نقاد ونقدة، ونقد الكلام أبان ما فيه من عيب أو زيف، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي فكما يستطيع الصيرفي أن يميز الدرهم والدنانير الصحيح من الزائف يستطيع الناقد أن يميز الشعر الجيد من الرديء.
النقد في المؤلفات اللغوية
ما جاء في الجانب اللغوي لمادة ( ن ق د) يكشف عن أمور مهمة، منها:
الخط العام للنقد
الخط العام للنقد، إذ ورد فيه: “نقَدَ يَنقُد من باب نصَر ينصُر، نَقْدًا، فهو ناقد، والمفعول مَنْقود، نقَد الشّيءَ: بيَّن حسنَه ورديئه، أظهر عيوبه ومحاسنه”[3].
الخط الاجتماعي للنقد
الخط الاجتماعي للنقد، وهو ينقسم قسمين:
- الاقتصادي: إذ ورد فيه: “نَقَدَ الدَّرَاهِمَ: مَيَّزَهَا، نَظَرَ فِيهَا لِيَعْرِفَ جَيِّدَهَا مِنْ رَدِيئِهَا”[4]، و”النَّقْدُ: الجَيِّدُ الوازِنُ من الدَّراهِمِ. ودِرْهمٌ نَقْدٌ”[5]، أي “جيّدٌ لا زيفَ فيه”، وقد جاء في هذا المعنى:”النَّقْدُ: تَمْيِيزُ الدَّراهِمِ وإِخراجُ الزَّيْفِ منها كذا تَمييزُ غَيْرِها كالتَّنْقَادِ والتَّنْقُّدِ وقد نَقَدها يَنْقُدُها نَقْداً وانْتَقَدها وتَنَقَّدها إِذا مَيَّزَ جَيِّدها مِن رَدِيئها، وأَنشد سيبويهِ:
تَنْفِي يَدَاها الحَصَى فِي كُلِّ هاجِرةٍ
نَفْيَ الدَّنَانِيرِ تَنْقَادُ الصَّيارِيفِ"[6].
ويمكن أن ننطلق من هذا الفهم لنعود إلى الخط العام من خلال شرح مقولة: “لا يُبصر الدينارَ غيرُ الناقد: لا يبصر حقيقة الأمر إلّا الخبير به”.
- الأخلاقي: إذ ورد فيه: “نقَد النَّاسَ: أظهر ما بهم من عيوب”، و”وَجَّهَ إِلَيْهِ نَقْداً لاَذِعاً: تَوْبِيخاً”. وجاء “في حديث أَبي الدَّرْداءرض“ أَنه قال: “إِنْ نقَدْتَ الناسَ نَقَدُوكَ وإِن تَرَكْتَهُمْ تركوك”[7]، معنى نقدتهم أَي عِبْتهم واغتَبْتَهم قابلوك بمثله”.
الخط اللغوي للنقد
الخط اللغوي للنقد، وهو يعنى بالكلام المتداول: إذ ورد فيه: “نَقَدَ الكَلاَمَ: ناقَشَه”، و”النَّقْدُ: فنُّ تمييز جيِّد الكلام من رديئه، وصحيحه من فاسده”.
الخط الإبداعي للنقد
الخط الإبداعي للنقد، وهو يقسم على ثلاثة جوانب:
- الجانب الأدبي: وهنا عليه أن يقترن بكلمة “الأدبي”، إذ ورد فيه: “النَّقْدُ الأَدَبِيُّ: عِلْمٌ يَبْحَثُ فِي طَبِيعَةِ الأَعْمَالِ الأَدَبِيَّةِ وَخَصَائِصِهَا وَقِيمَتِهَا الْفَنِّيَّةِ”[8]، ونقول:”هو من نَقَدةِ الشِّعْرِ ونُقَّادِه وانْتَقَد الشِّعْر على قائِلِه”[9]، و”يقال: نقَد النثْرَ، ونقد الشِّعْر: أظهر ما فيهما من عيْب أو حُسْن”.
- الجانب النصي: وهنا عليه أن يقترن بكلمة “النصي”، إذ ورد فيه: “النَّقد النَّصِّيّ:”العلوم اللغوية” دراسة الكتابات والمخطوطات والمطبوعات وذلك لتحديد الشَّكل الأصليّ للعمل وخاصَّة لنصٍّ أدبيّ”[10].
- الجانب الفني: وهنا عليه أن يقترن بكلمة”الفني”، إذ ورد فيه عن الناقد:”النَّاقِد الفَنّيّ”: كاتب عمله تمييز العمل الفنيّ: جيّده من رديئه. وصحيحه من زيفه. (ج) نُقَّاد، ونَقَدَة”[11].
والكلمة الدالة على “النقد” في اللغة الإنكليزية هي “Criticism“، والتركيب الدال على النقد الأدبي فيها هو “Literary Criticism“.
النقد في الاصطلاح
أما في التعريف الاصطلاحي: عرّف النقد في الاصطلاح تعريفات متعددة منها: أن النقد تفسير للنص الأدبي ومساعدة القارئ على فهمه وتذوقه، وذلك عن طريق فحصه وعرض ما فيه من قيم فنية وجمالية. وكذلك هو فن دراسة النص الأدبي وإظهار قيمته. وهو فلسفة الأدب لأنه يجلو جوهره ويفسر حقائقه التي ينطوي عليها. والنقد هو دراسة الأساليب وتمييزها، أي معرفة منحى الأديب وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير والإحساس، فضلا عن طرق الأداء اللغوية.
فالنقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة، يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتحليل والتقييم، كما أنه يعتبر تمحيصا للعمل الأدبي بشكل متكامل، حال الانتهاء من القيام به، أما النقد الأدبي، فهو تفحص الأعمال الأدبية، والكشف عن مواطن الجودة والرداءة فيها، والناقد هو الذي يبحث عن مكامن القوة والضعف في كل عمل أدبي.
ما أثر القرآن الكريم في تطور النقد ؟
ولقد أحدث القرآن الكريم أثرا كبيرا في النقد حيث كان العرب في الجاهلية أشد الناس فصاحة، وأكثرهم نظما للشعر الجيد والموزون والمنظوم، بشكل رائع، حيث كان الشاعر يفضل على الخطيب، ويعتبر لسان قومه، إذا مدح جماعة رفعهم، وإذا هجاهم جعلهم أذل الناس، فكان الشعر من بين المواضيع الهامة التي يتداولها الناس آنذاك، وكان النقد انطباعيا بسيطا، ساهم في ظهوره اللقاءات الشعرية التي كانت تعقد بالأسواق الأدبية، كعكاظ، وذي المجاز، حيث يجتمع الشعراء ويتنافسون ويعرضون أجود أشعارهم، وكان الشاعر النابغة الذبياني حكما عليهم آنذاك. لكن مع مجيء الإسلام، أخذ النقد طريقا آخر غير الذي كان يسلكه في الجاهلية، فقد تميزت هذه المرحلة بنزول القرآن الكريم، الذي أخذ مكان الصدارة، لكونه النص الأدبي الأول لهذه الأمة، والكتاب المبين المعجز، بالإضافة إلى أنه وحي السماء، فقد أثار منذ اللحظة الأولى لنزوله حركة فكرية جديدة عند العرب.
ودعاهم إلى الالتفات لما جاء به من جديد في أساليب التعبير والبيان، وعلقت أفئدتهم وأسماعهم بما تضمنه من كلام رائع، فلم يسعهم إزاءه إلا التسليم بروعة أثره في النفوس وفي العقول، فمن قائل أنه سحر، ومن قائل أنه شعر، ومن قائل أنه أساطير الأولين، هذا لأنه أضحى في الرتبة الأولى، وصار الشعر بعده، ذلك لأن الشعراء انبهروا بروعة بيانه، فمنهم من تفرغ لخدمته، ومنهم من صار توجهه الدفاع عن الدعوة الإسلامية.
ومن بين أمثلة الإعجاب، نجد قول عتبة بن ربيعة، حين سمع من رسول الله ﷺ الأجزاء الأولى من سورة فصلت، ثم عاد إلى قومه فسألوه: “ما وراءك يا أبا الوليد؟، قال: ورائي أني سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، وقول الوليد بن المغيرة: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه جناة”[12].
ومنذ بدء الدعوة الإسلامية برزت ظاهرتان متصلتان بالحياة الأدبية:
- أولهما: نزول القرآن الكريم وتصدره على كل ما أنتج العرب من أدب وبيان،
- ثانيهما: ظاهرة الإعجاز البلاغي وقيام الرسالة السماوية عليه، لذلك ركزوا على دراسته دراسة نقدية تعتمد على البحث في الأساليب، والتعمق في أسرار البلاغة، والموازنة بين ألوان الكلام الرفيع.
وبدأت مدرسة الرسول ﷺ تترسم خطاه في التفسير، وتحفظ ما نقل عنه وترويه، وقد تتزيد فيه بحذر ، في شرح لفظ الغريب، أو بيان حكمة أو موعظة، وقد نشأت طبقة القراء في صدر الإسلام، تحفظ القرآن الكريم وتلم ببعض التفسير على النحو السابق، ثم يبعث بها الرسول ﷺ إلى القبائل يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في معانيه.
وقد انقسم الصحابة إلى قسمين:
- متحرج من القول في القرآن الكريم، كأبو بكر وعمر وغيرهم ..
- والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا، وفسروا القرآن حسب فهمهم من الرسول ﷺ، بالاستعانة بالشعر العربي، وكلام العرب، ومنهم علي ابن أبي طالب، وعبد الله ابن عباس.
وتتجلى أسباب تأثر النقد بالقرآن في تجاوز مستوى العرب في الفصاحة والبيان، مما جعلهم يبحثون عن مكامن الجمال فيه ودراستها، مما دعا إلى البحث عن أدوات النقد لاكتشاف أسرار الجمال في هذا الكتاب المعجز، لذلك نشأت مجموعة من العلوم من بينها النحو، الذي يختص بضبط قراءة القرآن الكريم وكذلك البلاغة، ولا يتوقف عند هذا الحد فقط، بل ما زال يمد الباحثين بالعديد من العلوم المتجددة، فهو بحر لا ينفذ، أو كما قال عنه رسول الله ﷺ “لا تفنى عجائبه ولا يبلى على كثرة الخلق.
ومن مظاهر تأثر النقد بكتاب الله عز وجل، تخصيص مجموعة من النقاد حيزا كبيرا لدراستهم للقرآن، ومن بينهم ابن قتيبة الذي قال في كتابه تأويل مشكل القرآن “وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب واقتنانها في الأساليب”[13]. وهذا دليل واضح على المكانة التي حظي بها القرآن الكريم، كما أن ابن قتيبة قد اشتغل في النقد بتوضيح ما استعصى فهمه، والدفاع عن القرآن في قضايا التشابه والاختلاف والمجاز، بالإضافة إلى العديد من النقاد كابن سنان الخفاجي، وعبد القاهر الجرجاني، اللذان جعلا مادة دراستهما هي القرآن الكريم في كتابيهما دلائل الإعجاز، وسر الفصاحة، بالإضافة إلى البيان والتبيين للجاحظ، والصناعتين لأبي هلال العسكري.
لقد أدى هذا الاهتمام الكبير بالقرآن الكريم إلى الإقبال على دراسته بجانب اللغة والشعر، بهدف التفسير من جهة، ثم التنقية اللغوية من جهة أخرى، فبدأت حركة التأليف، واحتدمت المعارك بين الشعراء واللغويين أنفسهم، وذلك يتضح من خلال جانبين:
- يتمثل الأول في الدراسات اللغوية حيث أصبح القرآن الكريم بفضل تطورها محط اهتمام العرب، إذ حرصوا على الحفاظ على اللغة العربية رغبة في حفظ لغة القرآن الكريم، كي يظل مفهوما ومقروءا ومتدارسا، ومع مطلع القرن الثاني الهجري، انتشرت اللغة العربية واتسعت رقعتها، وزاد الإقبال على دراسة القرآن واللغة والشعر، فكان لهذا التطور تأثير كبير على الدراسات اللغوية والنقدية. ويعتبر هذا الكتاب المعجز، من الدوافع الغير المباشرة في اهتمام الوافدين الجدد باللغة العربية، فالقرآن هو كتاب العربية الأول، ودستور الإسلام الجديد، والعربية لغة المسلمين الفاتحين، ولغة الأدب والكتابة والسياسة والحكم، وللقرآن ما يعين على فهمه: كالتفسير ومعرفة الغريب والإلمام بالنحو والشعر وغيرها. ومع اتساع الحركة الفكرية والتداخل بين الثقافات، أقبل الفرس على تعلم القرآن وعلوم العربية، وبدأ العرب يتطلعون إلى ثقافة الفرس، فنتج عن هذا التداخل أن شابت اللسان العربي بعض الشوائب الغريبة: كالتحريف، والتداخل في بعض الألفاظ الأعجمية، وكنتيجة لهذا الاختلاط، احتدمت المعارك اللغوية بين الشعراء واللغويين، وبرزت كذلك حركة التنقية اللغوية، إلى جانب قيام مجموعة من العلماء بوضع القواعد والأصول، لضبط اللغة وقياسها، وفهم ما جاء منها عن طريق الشرح، ووضع المعاجم التي ظهر منها في هذا العصر كتاب العين، للخليل ابن أحمد الفراهيدي. وكان للقرآن الكريم الأثر الكبير في العديد من الكتب، من بينهما تفسير غريب القرآن وإعراب القرآن، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة.
- ويتمثل الثاني في الدراسات الشعرية حيث كان الشعر في العصر الجاهلي يحتل المرتبة الأولى، ويحظى باهتمام الناس آنذاك، حيث بلغت مرتبة الشاعر مراتب الزعماء والرؤساء، إذ كانت تبشر بمولده القبائل، وتستند إليه في الدفاع عن نفسها، فهو لسانها الناطق باسمها، يرفع من شأن من مدحه، ويذل من هجاه، يثير الحماس في النفوس فتندفع للقتال أو تقبل على الخير، لكن مع نزول القرآن الكريم تغيرت الموازين، ونزل الشعر عن مرتبته، لأن بيان القرآن كان معجزا، وصار بعد ذلك الشعر عونا للناس على فهم القرآن، فقد قال ابن العباس “إذا صعب عليكم شيء من معاني القرآن فالتمسوه في الشعر، فالشعر ديوان العرب[14]”. وانطلقت بذلك حركة التفسير مستعينة بالشعر، وتقدم الزمن، وخرج الشعر والقرآن كلاهما من بيئتهما وسط الجزيرة إلى أوطان غريبة، لم يفهم أهلها القرآن ولا الشعر، فظهر مجموعة من المفسرين والرواة يفسرون القرآن ويجمعون الشعر ويشرحونه للناس، ومن بينهم: حماد الراوية، وخلف الأحمر، وأبي عمر ابن العلاء. وكانت هناك حلقات النقد في قصور الخلفاء، يتعرض فيها الشعراء ممن حضر المجلس، أو الخلفاء أنفسهم، وعرفوا بالبراعة في نقد الشعر، وكان الناس يهتمون به في صدر الإسلام والعصر الأموي ليستشهدوا به على القرآن.
أما في العصر العباسي، فقد امتزج اللسان العربي بغيره، وظهرت بعض اللهجات العامية التي أخذ أسلوب القرآن يبتعد عنها، وكان الاستشهاد على غريب الشعر يدعم بالآيات القرآنية بالموازاة مع تأثر حركة النقد بالدراسات القرآنية، برزت حركة إنشائية في صناعة الشعر، ذلك أن الشعراء المحدثين والكتاب بدأوا يجددون في الشعر والكتابة، لكن باللجوء إلى الصنعة والتنميق، والاستعانة بالبديع وضروب الصناعة اللفظية والبيانية.
هكذا كان للقرآن الكريم دور في تغيير مسار النقد، كما غير أسلوب الحياة، وحظيت اللغة العربية بمكانة عالية بفضله، فقد تكرر ذكرها في العديد من الآيات في القرآن الكريم ومنها قوله تعالى “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”[15]، وهذا ما جعلها أفضل اللغات إلى يومنا هذا، وبرزت مجموعة من العلوم التي أصبحت في خدمتها، من نحو وبلاغة، إلى جانب ظهور العديد من النقاد، وتأليف كتب نقدية تدرس القرآن وتهتم به من مختلف المناحي، وصار الشعر في خدمة الدعوة الإسلامية وتفسير القرآن ومدح النبي ﷺ، كما استمر ذلك في العصر الأموي مع الخلفاء والولاة والحكام، وظل القرآن الكريم في مختلف العصور المزود الرئيسي بشتى العلوم، واحتل الرتبة الأولى في الدراسات النقدية.