أحكام فقهية يحتاجها المسافر : من يسر الإسلام وسماحته ، ما شرع الله جل وعلا لعباده من أحكام تتناسب مع أحوالهم المتنوعة من قوةٍ وضعف، وصحة ومرض، وحضر وسفر، وغير ذلك قال عز وجل: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
وقال: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6).
وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286).
قصر الصلاة في السفر
والصلاة في السفر مخففةٌ عنها في الحضر، لما يترتب على التنقل والسفر في البر والبحر ، وفي أيامنا في الجو ، من المشقة والتعب والنصب، فالصلاة في السفر تكون قصراً ، فتقصر الرباعية إلى ركعتين ، وتبقى الفجر كما هي ، وصلاة المغرب كذلك ، لأنها وتر النهار.
وقصر الصلاة لا يكون إلا في السفر ، قال الله تعالى :{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ } (النساء : 101). فلا يجوز للمريض ولا غيره قصر الصلاة .
ولا يصح للمسافر أن يصلي أربعاً ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ” أولُ ما فُرضت الصلاةُ ركعتين ، فأقرت صلاةُ السفر، وأُتمت صلاةُ الحضر ” متفق عليه . فالحديث يدل على أنَّ الركعتين هما فرض السفر ، كما هو الراجح من أقوال أهل العلم .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ” إني صحبتُ رسول الله ﷺ في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر رضي اللـه عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت عمر رضي اللـه عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، ثم صحبت عثمان رضي اللـه عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وقد قال الله :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب : 21 ). رواه مسلم (689).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : لم يثبت عنه ﷺ أنه أتم الرباعية في السفر ألبتة . انتهى .
وثبت عنه ﷺ أنه قال عن صلاة السفر: ” صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ” رواه مسلم (686).
وصحّ عنه ﷺ أنه قال : ” إنَّ الله تعالى يُحب أن تُؤْتى رُخصُه ، كما يكره أن تُؤتى معصيتُه ” . رواه أحمد وصححه ابـن خزيمـة وابن حبان .وفي رواية: ” كما يُحب أن تُؤتى عزائمه ” .
متى تُقصر الصلاة ؟
اختلف الفقهاء رحمهم الله في تحديد مسافة السفر المبيحة للقصر والفطر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر : فمذهب مالك والشافعي وأحمد : أنه مسيرة يومين بسير الإبل والأقدام ، أو هو ستة عشر فرسخاً ( أي ما يقارب : 80 كيلو متر)، كما بين مكة وعسفان ، ومكة وجدة . وقال أبو حنيفة : مسيرة ثلاثة أيام . وقال طائفة من السلف والخلف : بل يقصر ويفطر في أقل من يومين ، وهذا قولٌ قوي ، فإنه قد ثبت أن النبي ﷺ كان يصلي بعرفة ومزدلفة ومنى، يقصر الصلاة ، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته ، لم يأمر أحداً منهم بإتمام الصلاة (1).
فشيخ الإسلام يقوي قول من قال : أنه لا حدّ للسفر الذي يُباح القصر والفطر فيه ، بل كل ما كان سفراً في عُرف الناس ، جاز القصر فيه والفطر، لأنه لم يأت تحديد للمسافة في الكتاب أو السنة (2).
وإذا شك المسلم هل هو مقيم أو مسافر ؟ فالأصل الإقامة حتى يتحقق السفر، فالاحتياط أن يتم الصلاة .
متى يبدأ المسافر القصر؟
إذا شَرَع في السفر وفارق بلده ، لقول الله تعالى : { وّإذّا ضربتم في الأّرض فليس عليكم جُناحِ أّن تقصرٍوا من الصَّلاة } (النساء: 101).
فلا يكون مسافراً حتى يَضرب في الأرض ، ولا يكون ضارباً حتى يخرج ، ولذا فإنه لا يقصر الصلاة حتى يفارق بلده ، ولو كان عازماً على السفر، أو شرع فيه ولكنه لم يفارق بلده بعد .
قال ابن قدامة رحمه الله : ليس لما نوى السفر القصر ، حتى يخرج من بيوت قريته ويجعلها وراء ظهره ، وبهذا قال مالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور، وحكي ذلك عن جماعة من التابعين . ثم ذكر حديث أنس رضي اللـه عنه قال : صليت مع النبي ﷺ الظهر بالمدينة أربعاً ، وبذي الحليفة ركعتين . متفق عليه (3).
مدة قصر الصلاة
الراجح من أقوال أهل العلم : أنَّ السفر لم يُحد بزمانٍ كما لم يُحد بمسافة ومكان ، ولا حدّ الإقامة بزمن لا ثلاثة أيام ولا أربعة أيام ولا أكثر، فما دام المسافر مسافراً فإنه يقصر الصلاة ، ولو أقام شهوراً، ما لم يعزم الإقامة في البلد للعمل أو الدراسة أو الاستيطان ، لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ } (النساء: 101). ولأنَّ النبي ﷺ أقام مدداً مختلفة وقصر فيها كلها ، فأقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، وأقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، وأقام في مكة عام حجة الوداع عشرة أيام يقصر الصلاة ، فعن أنس رضي اللـه عنه قال : ” خرجنا مع النبي ﷺ من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت: أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال: أقمنا بها عشراً ” (4).
مسائل تتعلق بقصر الصلاة
1) إذا ائتم مسافرٌ بمقيم – أي صلى خلفَ إمام مقيم – لزمه إتمام الصلاة معه ، لقوله ﷺ : «إنما جُعِل الإمامُ ليُؤتم به ، فلا تختلفوا عليه» متفق عليه.
وعن موسى بن سلمة أنه قال: ” كنا مع ابن عباس رضي الله عنهما بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعاً ، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟ قال: تلك سنة أبي القاسم ﷺ (5).
فاذا أدرك مع الإمام المقيم ركعة فما فوقها ، لزمه أنْ يتم الصلاة ، وإن أدرك التشهد صلى قصراً.
2) مَنْ نَسي صلاة سفر فذكرها في الحضر : الصحيح أنْ عليه أنْ يُصليها قصراً، لأنها صلاة سفر، والقضاء يَحكي الأداء، وقال ﷺ : «مَنْ نَسيَ صلاةً أو نام عنها، فكفارتُها أنْ يُصليها إذا ذكرها » متفق عليه.
أي : أن يصليها كما هي (6).
ومَن ذَكر صلاة حضرٍ في سفر، فإنه يُصلي أربعاً، للحديث السابق، ولأن هذه الصلاة وجبت عليه تامة، فوجب عليه قضاؤها تامة.
قال الإمام أحمد رحمه الله : «أما المقيم إذا ذَكرها في السفر، فذاك بالإجماع يصلي أربعاً »(7).
3) ينبغي أن يعلم أنه لا تلازم بين قصر الصلاة والجمع خلافاً لما يظنه كثير من الناس، فيجوز قصر الصلاة دون الجمع، كما أنه يجوز الجمع في الحضر للعذر كالمطر والمرض والخوف ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على الجمع.
4) من السُّنة للمسافر ترك السنن الرواتب في السفر، ما عدا سُنة الفجر والوتر، لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يدع الرواتب في السفر، ما عدا ما ذكر(8).
أما النوافل المطلقة فهي مشروعة في السفر والحضر، كسنة الوضوء، وصلاة الضحى، والتهجد في الليل، وهكذا الصلوات ذوات الأسباب كتحية المسجد، وركعتي الطواف، وصلاة الاستخارة والتوبة، ونحوها.
جمع الصلاة في السفر
الجمع : هو ضم إحدى الصلاتين للأخرى، والجمع يكون بين الظهر والعصر، كما يكون بين المغرب والعشاء، ولا يكون من غيرهما، وهو سُنة إذا دَعَت الحاجة إليه ، كالسفر والمرض والمطر والبرد الشديد ونحو ذلك.
ومر معنا في الحديث: « إنَّ الله يُحب أن تُؤْتى رُخصُه ، كما يحب أن تُؤتى عزائمه» والجمع رخصة ، ويكون تقديماً وتأخيراً.
الأحاديث في ذلك:
1) عن أنس رضي اللـه عنه قال: « كان رسول الله ﷺ إذا ارتحل قبل أنْ تزيغ الشمس (أي : قبل دخول وقت الظهر) أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإنْ زاغت الشمس قبل أنْ يرتحل، صلى الظهر ثم ركب (9).
2) وعنه قال : عن النبي ﷺ : «إذا عَجِل عليه السّفر، يُؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويوخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق»(10).
3) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : « كان رسول الله ﷺ يَجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء »(11).
ففي هذه الأحاديث أن النبي ﷺ جمع قبل أنْ يسافر بين الظهر والعصر ، إذا حضرت صلاة الظهر، أما إذا سافر قبل الظهر، أخَّرها حتى يجمع بينها وبين صلاة العصر .
وهذا فيما إذا كان سائراً ، أما إذا كان نازلاً ( في الفندق أو الشقة مثلاً)، فهل يجوز له الجمع ؟
الجواب : الصحيح الذي دلَّت عليه السنة أنه يجوز الجمع للمسافر إذا كان نازلاً عند الحاجة لذلك ، فإنه ﷺ جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء وهو نازل بتبوك (12).
وكذا جمع في عرفة وهو نازل ، بل جمع في المدينة وهو مقيم ، وهذا أبلغ ، لرفع الحرج عن الأمة .
فالصحيح أنَّ الجمع للمسافر النازل يُستحب إذا دعت إليه الحاجة ، وإذا لم تدع إليه الحاجة فلا يستحب ، والأفضل تركه عند عدم الحاجة (13).
فلا تلازم إذاً بين القصر والجمع ، خلافاً لما هو شائع عند كثير من الناس؟!
ولا يشترط على الصحيح الموالاة بين الصلاتين المجموعتين ، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، لأنه ليس لذلك حدّ في الشرع ، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة ، فإن الجمع هو: ضم وقت الصلاة الثانية للأولى، بحيث يكون الوقتان وقتاً واحداً، وليس الجمع هو ضم الفعل (14).
وإن كان الأفضل هو المولاة بينهما، ما لم يشق.
لا يشترط للجمع ولا للقصر نية، وهو مذهب الجمهور: مالك وأبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد(15).
فالنية ليست شرطاً عند الإحرام بالأولى ، وإنما يشترط سبب الجمع عند الجمع، فللمصلي الجمع ولو أراد ذلك بعد سلامه من الأولى، إذا وُجد السبب.
وعليه تدل الأحاديث الواردة، فإنه لم ينقل أن النبي ﷺ أبلغ أصحابه بالجمع أو القصر قبل الإحرام، ولهذا لما سلم من ركعتين ناسياً قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال ﷺ: « لم أنس، ولم تقصر» قال: بلى قد نسيت … الحديث في الصحيحين.
الصلاة في السفينة والقطار والطائرة :
يجوز لراكب السفينة أنْ يصلي الفرض فيها.
ويصلي فيها على قدر استطاعته ، فإن تمكن من الصلاة قائماً وجب عليه القيام، وإلا صلى جالساً ، وإن تمكن من الركوع ركع، وإلا أومأ برأسه، وإن تمكن من السجود سجد، وإلا أومأ برأسه، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه إذا أومأ بهما .
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سئل النبي ﷺ عن الصلاة في السفينة ، فقال : كيف أصلي في السفينة ؟ قال : « صلَّ فيها قائماً، إلا أن تخاف الغرق » (16) .
واستدل الفقهاء أيضاً : بحديث عمران بن حصين أنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي ﷺ عن الصلاة فقال: « صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» (17).
وإذا أمكن الصلاة في السفينة جماعة وجبت ، وإلا صلوا فرادى .
وهكذا الصلاة في القطار والطائرة ، إذا أمكنه أنْ يصلي قائماً وإلا صلى قاعداً على كرسيه ، وإذا قدر على استقبال القبلة لزمه ذلك ، وإلا صلى حسب استطاعته، ما لم يعلم أنه يدرك الفرض على الأرض، فإنه يؤخرها حتى يصليها أو يجمعها، ما لم يخش فوات الوقت بطلوع الشمس قبل صلاة الصبح مثلاً.
يجوز للمسافر أن يتطوع على الراحلة (ومثله السفينة والطائرة) حيث توجهت به، وفي ذلك أحاديث، منها :
1) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ كان يصلي سُبحته حيثما توجهت به (18).
والسُّبحة: هي النافلة.
2) وعنه أيضاً قال: كان رسول الله ﷺ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه.
قال: وفيه نزلت:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) (19).
وفي رواية: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
وفيه ترغيب للمسافر بالإكثار من التطوع ، بصحة تطوعه ولو كان لغير القبلة .
الصوم في السفر
يباح للمسافر الفطر في رمضان ويجب عليه القضاء، قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184).
وإذا صام المسافر وكان في صومه مشقة، صح صومه، إلا أنه يكره له ذلك، لإعراضه عن الرخصة التي يحبها الله تعالى، كما سبق ذكره.
وقال ﷺ : «ليس من البر الصيام في السفر»(20).
أما إذا كان يطيق الصيام فلا بأس.
فعن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي ﷺ : أأصوم في السفر؟ – وكان كثير الصيام – فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر»(21).
وفي صحيح مسلم: «كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون من وجد قوة فصام فانَّ ذلك حسن، ومَن وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن».
قال ابن حجر: وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو نصٌ رافع للنزاع كما تقدم، والله أعلم(22).