كتب بعض الإخوة الفضلاء مقالا بعنوان: “أسباب النزول.. تاريخ لا دين” انتقد فيه منهجية كتب أسباب النزول، معتمدا على المآخذ خاصة في كتاب ( أسباب النزول) للإمام الواحدي الذي اختلطت فيه أسباب النزول بغيرها، وقد انتقد العلماء كتاب الواحدي، وأنه قد فاته كثير من أسباب النزول لم يوردها، كما أنه ساق روايات ليست من أسباب النزول، وأورد كثيرا من المرويات الضعيفة غافلا مرويات أقوى، وقد قال فيه أبو حيان: (وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح).
على أن انتقاد مصنف في أسباب النزول أو مصنفات لا يعني أبدا أن أسباب النزول تاريخ وأنها ليست دينا، حاشا أن يكون حديث النبي ﷺ تاريخا، أو مرويات الصحابة وفهمهم وبيان الأسباب التي نزل بها القرآن تاريخا لا علاقة له بالدين!!! على أن هذا لا يمنع من تصفية ما اختلط بأسباب النزول وليس منه، والتعميم في الأحكام مظنة مجانبة الصواب.
أسباب النزول معينة على الفهم:
أما القول بأن الوقوف على أسباب النزول من شروط فهم القرآن، وأن هذا يقف حاجزا عن تدبر آيات الله التي أمرنا بالنظر فيها، فمحل نظر كبير، فلاشك أن معرفة أسباب النزول في الآيات التي نزلت بسبب معينة على فهم آيات الله، لكنها لا تجعلنا نفهم الآية عند حدود سبب النزول، غير أن معرفة السياقات والملابسات التي نزلت بسببها الآية من أهم الوسائل المعينة على الفهم وليست قاصرة الفهم على ما ورد في سبب النزول.
وقد نقل عن المتقدمين والمتأخرين أن معرفة سبب النزول وسيلة لفهم كلام الله، فقد ورد عن الحسن قوله: ” ما أنزل اللَّه آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيم أُنزلت وما أراد بها؟”
وقال ابن دقيق العيد: “بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. ويؤكد الإمام ابن تيمية المعنى بقوله: ” معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب”.
على أن آيات القرآن جاءت على ضربين: ضرب كانت له أسباب في النزول، وضرب ليس له سبب، والآيات التي نزل ابتداء دون سبب أكثر بكثير من الآيات التي نزلت بسبب، فكيف يقال: إن معرفة سبب النزول عائق عن فهم آيات الله؟!!
القطع والظن في أسباب النزول:
أما طرق معرفة أسباب النزول من كونها قطعية، فهذه ليست محل خلاف، فكيف يقال إنها تاريخ؟! وأما التي عرفت بالظن، فلا تعدو أن تكون فهما للصحابة وهم الذين شاهدوا الوحي وكانوا أعرف الناس بتفسير كلام الله، أفلا يعد كلامهم إحدى وسائل فهم كتاب الله؟
إن من شاهد الحادثة هو أقدر الناس على نقلها، والصحابة عايشوا نزول الوحي فكيف يعتبر كلامهم تاريخا، ويتاح لغيرهم ممن بعد الزمن بينهم وبين نزول الوحي فيكون الطريق مفتوحا لمن أتى بعد نزول القرآن بألف وأربعمائة عام أن يفهم القرآن، ونعتبر كلام من عاشوا زمن نزول القرآن تاريخا يحول بيننا وبين فهم كلام الله تعالى.
نعم القرآن لا يخلق من كثرة الرد، والله تعالى لم يجعل لطائفة من الأمة الحق في فهم الكتاب دون غيرهم، لكن الناس لا يتساوون في فهم القرآن، فمن المعلوم أن هناك مراتب في فهم القرآن، منها تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير النبي ﷺ، ثم تفسير الصحابة للقرآن الكريم، فهم أولى البشر وأقدرهم على فهم كلام الله، وإن لم يمنع ذلك غيرهم من أن يفتح الله تعالى لهم من الفهم كما فتح لسابقيهم، وكما سيفتح لمن يأتي بهم.
الفائدة التاريخية لأسباب النزول:
أما اعتبار الفائدة الكبرى من أسباب النزول أنها الفائدة التاريخية، مع الاستئناس بالمعنى فضرب من المجازفة ، فمعرفة أسباب النزول عن طريق القطع والظن يقدم لها صورة قريبة للمجتمع الذي نزل فيه الوحي، وهي ترجمة لأمية هذه الأمة التي نزل القرآن بلغتهم وفي عصرهم، لينطلق من هذا العصر متجاوزا إياه للأجيال البعيدة حتى يقوم الناس لرب العالمين.
أما الفائدة التاريخية من أسباب النزول فهي لا تطعن في فهم القرآن، بل هي أيضا معينة عليه، لأن من خلال معرفة تاريخ نزول الآية معرفة الناسخ والمنسوخ.
رفع الالتباس:
كما أن الوقوف على أسباب النزول يوضح لنا ظروف الزمان والمكان مما يرفع الالتباس في الفهم، والخطأ في التفسير، وأن لا يكون العقل وحده حاكما على فهم كلام الله تعالى دون أن يتزود بما يعينه على فهم وتفسير كلام الله من معرفة الأزمنة والأمكنة، لا أن يقف عند حدودها.
وقد قال الشاطبي رحمه الله: (إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال). اهـ.
إن معرفة أسباب النزول يرفع الالتباس عن الفهم الخاطئ لكلام الله تعالى، وليس حاجبا له عن الفهم. خذ مثلا قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 188]، فلو تركنا للعقل فهم الآية دون معرفة سبب نزولها لفهمنا أن كل من يفرح بما يؤتى معذب، ولكن الأمر كما أخرج البخاري ومسلم أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب سألهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
فإن كان هذا حال مروان وهو من التابعين وقد التبس عليه الأمر في فهم الآية، ولم يزل الإشكال إلا من بيان ابن عباس – رضي الله عنه- بذكر سبب النزول، فكيف لمن في عصرنا ومن بعدهم أن يفهموا مراد الله من كلامه دون الوقوف على معرفة سبب النزول معينا للفهم وليس قاصرا عليه.
بيان حكمة التشريع:
وأصدق رد على من زعم أن أسباب النزول تاريخ ما قاله الإمام الزركشي: (وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته – يعني أسباب النزول – لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد: منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم).
ومن أمثلة بيان سبب النزول لحكمة التشريع ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – في قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت ورسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مختفٍ بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به فقال الله لنبيه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
دفع التوهم:
ومن أهم مقاصد معرفة أسباب النزول دفع التوهم، وهو مما يعين على فهم مراد الله من كلامه سبحانه.
وقد نقل الزركشي قول الشافعي في معنى قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا … ) الآية: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم اللَّه، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلاً منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض: المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهل لغير اللَّه به، ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل). اهـ.
عموم اللفظ وخصوص السبب:
وأما القاعدة المختلف فيها: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ ففيها فوائد جليلة، وما عليه الجمهور من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي أننا لا نقف عند سبب النزول وحده، وفي ذلك إثبات لصلاحية الشريعة، وأنها لا تحد بزمان أو مكان، وعلى افتراض من قال: العبرة بخصوص السبب، فيدخل فيها كل من تشاب حاله مع حال من نزلت فيه الآية، ولا يعني أن الآية وقفت عند فلان، بل تتعداه بالتشابه في أحواله، وهي بهذا لا تقف عند حدود السبب، لكنها تنفي عنه من لم يتشابه حاله مع من نزلت فيه.
والخلاصة:
أن أسباب النزول دين، وبيان لتاريخ نزول القرآن الكريم، وياليت الأمة حفظت لنا تاريخ نزول كل آية، فهذا مما يعين على فهم الكتاب ويرفع الالتباس، ويساهم في معرفة الناسخ والمنسوخ، بل لو عرف لارتفع كثير من الخلاف الفقهي.
على أن المصنفات في أسباب النزول عليها ملاحظات، وأنه ليس كل ما صنف في أسباب النزول منه، ولكن فرق بين الحديث عن أسباب النزول ووصفها بأنها تاريخ لا دين، وبين المرويات التي اختلطت فيها أسباب النزول بغيرها، وتبقى أسباب النزول دين قبل أن تكون تاريخا.